جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
وُلد خالي محمد أمين (أبو الأمين) في بيت نبالا عام 1929، عاش هناك، ودُفن فيها عام 2024، أما إقامته الطويلة في رام الله أو موته فيها، تلك التي يعتقدها الناس فلم تكن سوى وهم أو حلم غريب، أو قصة تخيلها كاتب سريالي، هكذا أتخيل حياة وممات هذا العظيم الذي كان يصحو مبكراً جداً، ويجلس في طرف البرندة، قرب «الآيباد»، وبضعة كتب وصحف وأصص نباتات. كلّما مررت عن بيته أقول لمرافقي: هنا تسكن قرية بيت نبالا، لا يفهم مرافقي ولا أجد مزاجاً للشرح، تمنيت كثيراً لو يمنحني غرفة في بيته الذي يعيش فيه وحيداً، أقبّل يده كل صباح، أصبّ له الشاي بالنعناع، أطعمه بيدي الكعك، ويطعمني هو حكاية جديدة من حكايات البلد، ثم نخرج لنسقي معاً «بيت نبالا المصغرة»، وهو التعبير الذي لم يحبه، وكثيراً جداً ما راقبته وهو يجلس في البرندة من الشارع العام، وأنا أمارس رياضة المشي، كان يجلس كملاك، بجسمه الخفيف، مكبّاً على كتاب، على صفحة إلكترونية في «الآيباد»، وتمنيتُ لو أطرق بابه، لأقف أمام مدرسة بيت نبالا منتظراً إياه، لأراه تلميذاً صغيراً حافياً بلا «عصرونة»، يقطف بضع حبّات من التين، من التينة التي قرب المقبرة، ثم يصعد الدرج الى زاويته المفضلة في برندته ليغرق في كتاب أو يشغّل «الآيباد» على فيلم وثائقي. لم أرَ لاجئاً تسعينياً فلسطينياً ذائباً في قريته حدّ العجز عن الفصل بينه وبين تفاصيلها، كما كان هو، جلستُ معه في بيته عشرات المرات، كل أحاديثنا كانت عن بيت نبالا: الناس، والحجر، والعادات، ونوع الشجر، وأصناف الحبوب والنباتات، ومعارك الحمايل، والعلاقة مع القرى المجاورة ومع أسواق اللد والرملة، وسكة الحديد والكامب (معسكر بريطاني). كنت أسأله أسئلة عن حياة الناس قد تبدو مضحكة، لكنني كفلسطيني لاجئ وُلد ويعيش في مخيم، أريد أن أمتلئ حد الانفجار بمعرفة كل ذرة تفصيلية عن قريتي المهجرة: يا خالي الناس وين كانت تقضي حاجتها في البلد؟ هل كان هناك مجانين في البلد، يحملون عصا، ويتجولون بلا هدف؟؟ صار حالات انتحار هناك؟ إذا حدا شاف بنت حلوة بقدر يحكي معها في الطريق؟.. أشرس طوشة صارت بين مين ومين يا خالي؟ حالات الطلاق كانت كثيرة ولّا عادي؟ أكثر قرية مجاورة، أخذنا منها بنات، ومين أكثر قرية أخذت منا؟.. صحيح إنه بس شخص انضم للبوليس الإنكليزي من بلدنا؟ وإنه أهل البلد فضحوه؟ كم كان عدد طلاب مدرسة البلد؟ مين بتتذكّر من أصاحبك فيها؟ شو الناس كانت توخذ معها على مناسبات الولادة؟ النقوط قديش كان بالأعراس؟ فقط الفلسطيني اللاجئ من يسأل هذا النوع من الأسئلة، العشرات منها كنتُ أسالها للتسعيني العظيم، كان يجيب عليها بالتفصيل مع ابتسامة خفيفة، لكن سؤالاً واحداً سألته له أكثر من مرة، بسبب نسياني وازدحامي بعطش معرفة بلدتي، كان ينفعل أمامه ويعلو صوته، وهو يقول: يا خالي يا زياد كم مرة حكيتلك إنه إحنا كنّا فقراء جداً، ما في إشي اسمه «عصرونة»، كنّا نروح حافيين على المدرسة يا بنيّي.. «عصرونة» شو؟؟.. وكان سؤالي هو: شو «العصرونة» اللي كنتو توخذوها معكم على المدرسة يا خال؟ فقط الفلسطيني اللاجئ من يسأل هذه الأسئلة التفصيلية الغريبة، وأظن الخال كان يعرف ذلك، سألته مرة عن سبب هزيمتنا، فأجاب بعلمية عالية عبر موقف شاهده بنفسه: في العشرينيات كان السوّاح يتدفقون على قرى فلسطين، وكان الشباب في القرى يطاردون حسناواتهم، بعد النكبة عرف الشباب أن هؤلاء السواح لم يكونوا سوى يهود يبحثون عن آثار أو يتجسسون ويخططون لاستيطان قادم، كانت الفجوة حضارية يا بنيّي، إحنا كنّا في واد وهُمّي في واد، وما تنسى إنه في سبب ثاني مهم جداً، هو انقسامنا وخلافاتنا العائلية والحزبية. مات خالي «أبو الأمين» عن تسعة عشر عاماً وذهن علمي وقرية جميلة، سماها سارقوها «بيت نحاميا»، وظلت في القلب «بيت نبالا»، النابضة بالصبر والسمسم والبرتقال والعنب والفول والطماطم. لم يشتم خالي أحداً طيلة نقاشاتنا، على عادة التسعينيين الذين شهدت حياتُهم ذكريات معارك الحمايل وتنافس العائلات، وإن لم يعجبه أحد سألناه عنه كان يلوذ بالصمت، كلامه كان في مكانه تماماً، لا كلمة زائدة أو ناقصة، شجاعٌ يقول الحقيقة ولا يجامل فيها أحداً، عفيف وخجول، ولا يحبّ أن يزعج أحداً، كان يزرع بستانه بكل ما زرعه في بيت نبالا: نعنع، وبامية، وخيار، وفلفل، وتين، ولوز، وبندورة. أهذه «بيت نبالا صغيرة يا خال»؟، سألته مرة.. :فش بيت نبالا صغيرة، يا بنيي، في بيت نبالا وحدة كبيرة وحلوة، وعالية»، وأعقب إجابته هذه طلباً مفاجئاً لي ولمرافقي كمال أمين ابن شقيقه: اسمعوا إذا بدكم تبسطوني منيح جيبولي حبّة تين وحدة بس، من التينة اللي تحت المقبرة في البلد، بس وحدة، وأكّد مُكرراً: بس وحدة.. وحدة. مات خالي قبل أسبوع فقط دون أن يأكل هذه الحبة الواحدة، مات عن قرية لا تموت