بيروت - "القدس" - قلّة قليلة سمعت بجمزو، والأكثرية لا تعرف اسم هذه القرية الفلسطينية، لغياب المراجع عنها وعن غيرها من القرى المندثرة بفعل الاحتلال. غياب يعود إلى إهمال القيادة السياسيّة الفلسطينية جمع التراث الوطني، الذي يؤكّد للقاصي والداني أن "حق العودة" ثابت وراسخ، لا ورقة مساومة. عدم الاكتراث الرسمي عوّضته المبادرات الفرديّة، على غرار المؤرخ الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة، وليد الخالدي، الذي ألّف سفر "كي لا ننسى"، وجمع فيه ما توافر من معلومات خطية ومصوّرة عن بلدات فلسطين التي دمرها العدو. إضافةً إلى الموقع الإليكتروني "فلسطين في الذاكرة"، الذي تديره مجموعة من الشبان الفلسطينيين في المهجر، رفضوا نسيان وطنهم. وقال تقرير مميز كتبه زياد منى في صحيفة "الاخبار" اللبنانية اليوم الثلاثاء ان اسم قرية جمزو الفلسطينية قفز أخيراً إلى الواجهة خلال متحف "سبرتُس" في مدينة شيكاغو الأميركية في تموز الماضي. وشهد المعرض احتجاج ممثلي إسرائيل على احتوائه في قسم "إحداثيات متخيّلة" على قطعة فلسطينية، هي عبارة عن خريطة لبلدة جمزو التي أزال الاحتلال أثرها، رسمها مختارها الأسبق أحمد عيسى إبراهيم الجمل.
والذريعة التي رفعها ممثلو الدولة العبرية لرفضهم عرض الخريطة، هي أنها "تشوّه سمعة إسرائيل وتظهرها كقوة محتلة"، على اعتبار أن الخريطة تمثّل شاهداً على الهمجية الإسرائيليّة، التي محت قرى وآلافاً غيرها من الوجود الفلسطيني، لتحل محلها مستوطنات هجينة.
لكن كيف نشأت هذه الخريطة؟ سؤال مثير في ظل اضمحلال الذاكرة الذي يعيشه العرب، ومعهم الفلسطينيون، وخصوصاً في الداخل.
للخريطة قصة مرتبطة بآل الجمل وتعود إلى العهد العثماني في فلسطين، حيث كان جد أحمد، إبراهيم، موظفاً عثمانياً أوكلت إليه مهمة تقويم الحصاد تمهيداً لتقرير مقدار الضرائب. أما عيسى، والد أحمد، فقد كان مختار جمزو. وكان أحد واجباته في أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين إحصاء السكان. أما أحمد الجمل، فكان يرافق والده في تنقله عبر بيوت البلدة واجتماعه إلى سكانها وعائلاتها، ما ساعده على معرفة دقائق القرية وقاطنيها، الذين بقوا في ذاكراته رغم الأهوال التي مرت بالقرية وسائر الأراضي الفلسطينية.
هذه القرية الفلسطينية استقطبت اهتمام المغامرين الأوروبيين الباحثين في التاريخ التوراتي، إذ يرون أنها مذكورة في "سفر أخبار الأيام الثاني 18:28" وفي التلمود. ولهذا الغرض، زارها صاحب كتاب "أبحاث توراتية في فلسطين وجبل سيناء والعربية الصخرية"، إدوارد روبنسون، عام 1838.
وبين الحكم العثماني والانتداب البريطاني وزيارات المستشرقين، استمرت الحياة في القرية حتى 12 تموز من عام 1948، عندما أجبر سكانها على مغادرتها ضمن "خطة دالت"، التي وضعها ديفيد بن غوريون، وكانت قائمة على التطهير العرقي والتهجير. تطهير أصاب القرية بمجزرة، ترويها الذاكرة الفلسطينية، في التاسع من شهر تموز عام 1948. في هذا التاريخ، تقدمت قوة من لواء "يفتاح" الصهيوني، وانقسمت إلى قسمين، أحدهما توجه نحو الجنوب واحتل قرية "عنابة"، ثم احتل قرية "جمزو" بعد ذلك بقليل وطرد أهلها. وكان رجال العصابات يطلقون النار على السكان أثناء هروبهم، فاستُشهد منهم عشرة أشخاص.
بعد احتلال جمزو، عملت قوات الاحتلال، كما في كل مكان مرت فيه، على تدميرها، وأنشأت بالقرب منها مستعمرة جمزو تيمناً بالاسم التوراتي ـ التلمودي، وأطلق الاحتلال على "غابة" أقامها على أنقاض بيوت القرية اسم "حديقة مكسيكو"، في إشارة إلى أن يهوداً من المكسيك تبرعوا بأموال لزراعة أشجار فوق أطلال القرية، التي تحوي رفات شهدائها.
في هذا الوقت، بدأت رحلة صاحب الخريطة، المختار أحمد الجمل. رحلة شاقة حملته وبعض أفراد عائلته في تشرين الأول 1956 إلى الولايات المتحدة. ولم يتسنَّ له لمّ شمل العائلة في المهجر الإجباري إلا بعد وصوله بإحدى عشرة سنة.
تدمير البلدات الفلسطينية وطرد أهلها بدوَا كأنهما يسيران "وفق الخطة المرسومة". وساد وهم بأن الزمن كفيل بمحو الذاكرة الفلسطينية. لكن الفلسطينيين، أفراداً أكثر منهم جماعات، أبوا إلا تدوين الذاكرة للأجيال اللاحقة. أحمد عيسى إبراهيم الجمل، واحد من أبناء الفلسطينيّين هؤلاء الذي تمرّدوا على رهان النسيان، فكان وطنه وبلدته، التي طرد منها، جزءاً منه. ولتأكيد عمق ارتباطه بها، مثل جذور أشجار الزيتون والبرتقال الضاربة في أعماق الأرض، قام برسم خريطة جمزو التي أشاعت الرعب في قلوب أفراد ممثلي الدولة العبرية في معرض شيكاغو، فعملوا على منع عرضها.
أحمد رسم خريطة القرية بأدق التفاصيل. لم ينسَ أي بيت فيها؛ فبحكم مرافقته لوالده وجدّه كان يحفظ المنازل وأصحابها عن ظهر قلب، لذا عمد أيضاً إلى تدوين اسم كل عائلة على رسم بيتها. خريطة أحمد لم تقف عند حدود المنازل، فسعى إلى تفريغ ذاكرته على ورق، لتشتمل خريطته على كل حاكورة وكل بئر وشارع، حتى إنه لم ينسَ الشجر والحقول والمساجد والأضرحة. لتمثّل خريطته إعادة رسم متخيَّل للقرية التي باتت أثراً بعد عين.
هذه القصة العجائبية كتبت بعض تفاصيلها الصحافية الأميركية، بات مكدنل طوير، ونشرتها في مجلة "MiddleEast"، لتمثّل دليلاً على تحدّي الذاكرة للزمن، ولا سيما أن أبناء أحمد، الذي لم يعد اليوم قادراً على الكلام، لا يزالون محتفظين بهذا الأثر، كتذكار بسيط حتى يحين أوان العودة.
الخريطة، التي لا تزيد مساحتها عن 1600 سنتيمتر مربع، فريدة من نوعها. غير أنها ليست الوحيدة. فقد كُشف أيضاً عن خريطة لمدينة صفد، رسمها أحد أبنائها، ويدعى، حميد أمين آغا، تحاكي ما كانت عليه قبل الاحتلال الصهيوني، لتمثّل مع مثيلتها جمزو تسجيلاً لتاريخ حاول الاحتلال الصهيوني مسحه مسحاً نهائياً لكنه أخفق.
الخريطتان ليستا إلا نموذجاً، فلا شك أن هناك الكثير من الخرائط المشابهة لبلدات فلسطينية أخرى دمّرها الاحتلال، فأعاد أهلها إعمارها في خلايا أجسادهم وفي مخيّلاتهم وعقولهم وأشجانهم وفي أجساد شهدائهم. ولا شك أنها هناك رابضة في أزقّة المخيمات وفي بيوت أبناء فلسطين تنتظر الفرصة ليراها العالم كله، لتكون شاهداً على تمسك أسطوري بالوطن الذي لن يضيع، وردّاً مدويّاً على من يقول: "إن الفلسطينيين باعوا بلادهم، وتوّاقون للتوطّن في أوطان ليست لهم".
ويورد كتاب "كي لا ننسى" لوليد الخالدي تعريفا بقرية جمزو. فيقول: "المسافة من الرملة 6 كيلومترات. ملكية الأراضي واستخدامها في عامي 1944 و 1945 كما يأتي: «عربية: 9460 دونماً منها 7259 دونماً مزروعا". "يهودية: 0". مشاع 221 دونماً. عدد سكان القرية في عام 1931 كان 1081 يقطنون في 268 منزلاً. وارتفع إلى 1510 قبل عام على النكبة.
ويمضي الخالدي في وصفه فيسجل: "كانت القرية في بقعة مرتفعة ارتفاعاً خفيفاً عن الأرض المحيطة بها، وكان لها طريق فرعية تصلها بمدينة اللد، وأخرى تؤدي إلى قرية خربة الضهيرية المجاورة. في عام 1596، كانت جمزو قرية في ناحية الرملة لواء غزة، وعدد سكانها 154 نسمة، وكانت تؤدي الضرائب على الغلال، القمح والشعير والفاكهة، إضافة إلى الماعز وخلايا النحل. وحتى عام النكبة كانت تنتج الحمضيات والموز والزيتون. وكان لسكان القرية، وجميعهم من المسلمين، مسجد ومدرسة، أنشئت في عام 1920، وبلغ عدد تلاميذها 175".