هذي قريتي «عراق سويدان»..
هــــات وسجّـــل يــــــا زمان
الدكتور محمد عبد الله الجعيدي - جامعة مدريد
«قال:
أنا ما بحَشْت البير إلا تْعِمِّد
لَجل الصبايا يُورْدِن ماه ..
قال:
والظَّحى وِرْدِن ثلاثة
عَلِيْهن دَق النيْل
يا محلاه
..
قال:
وانتن يا ثلاثة
قتلتن رفِيقْنَا
وإحنا يا ثلاثة طالبين رجاه
..
قال:
ردت عليَّ أزغرهن تْقوللي
كلام الدُّر يا محلاه!:
إن كان كُحلِة عيوني تشفي عليلكو
أنا لَكَحّلْ عيوني
ونام في لِفراش حْذاه
..
وإن كان يا فتى تِهْوانا وتهوى جَمَالنا
سُوقْهن على بوي وِالرْجَال تْشُوف:
سُوقْهن على بوي ميتين نعجة سمينة
ولا نعجة إلا وراها خروف.
سوقهن على بوي ميتين بَكْرَة قط الظوالع
حيل ناعمات الصوف
سوقهن على بوي ميتين مهرة أصيلة
ظمر جريهن عسوف
سوقهن على بوي ميتين جَمل محملات بالذهب
ولا جَمل إلا بحمله يزوف
وهات إلنا يا فتى البَنّا باب دارنا
خَلي يبني للغاليات قصور عاليات برفوف
وهات إلنا يا فتى الصايغ ع باب دارنا
خليه يدق للزينات حلق وشنوف
..
وإن كان يا فتى ما تقدر ع إللي طلبته
تموت وعينيك للزينات تشوف.
قال:
أنا ما بحسد التاجر على كُثُر ماله
لو كان بحر فيه البط يعوم
أنا ما بحسد غير
كل راعي مليحة
لو كان مجرد ما عليه هدوم».
هذي هي (الزغيرة) الغالية، أو «عراق سويدان» المدللة، أو أمُّنا الطهور فلسطين، في وجدان أهل قريتي الجمعي الذي أبدع هذه الأهزوجة أو هذه الأحجية الوطنية، يوم كانت بلادُنا فلسطين، بمائها ونسيمها، وترابها وأهلها، حرة معافاة، من كل دنس، ومن كل اغتصاب.
إذا ولَّيْتَ الوجهَ وألقيت البصرَ، من حيث كنت، إلى جنوب غرب نقطة تقاطع خطي العرض والطول 32 و 35، على مسافة 35 كيلو متراً شمال شرق مسقط رأس الإمام الشافعي، وأربعة كيلومترات شمال غربي الفالوجة، وعلى كفّ سهل فلسطين الساحلي اليمنى، التي تصافح سفوح جبال خليلها، فوق عِراق (جمع عِرْق وهو التل المنخفض) مستوية من رمال الكركار ذات الملاط الكلسي، بارتفاع مئة متر فوق سطح البحر؛ فالتقط أنفاسك، قبل أن تتبدى لك، وَصلِّ على النبي: هذي هي قريتي (الزغيرة) المدللة «عراق سويدان»، ترابط اليومَ، في القلوب، تحت الاحتلال، على الخاصرة الشمالية للطريق الرئيسي الذي يشد خليل الرحمن إلى غزة هاشم، مروراً ببيت جبرين والفالوجة ودوّار كوكبة ومجدل عسقلان وبيت لاهيا. وشمال «عراق سويدان» يمر أيضاً طريق رئيسي ثان متفرع من طريق رفح الناقورة الساحلي، عند مجدل عسقلان مروراً بجولس والسوافير والقسطينة، قبل أن ينعطف شرقاً، متوجهاً إلى العاصمة الفلسطينية بيت المقدس.
كانت (الزغيرة)، يومَ داهمتها النكبة، تحتضن بيوت أهلها الآمنين، على أكثر من 35 دونماً من أراضيها، تلحق بها 7539 دونماً أخرى، تُزرع، على مياه الأمطار، بالحبوب واللوزيات والأعناب والتين والزيتون؛ ومن بئرين ارتوازيتين، بعمق ثلاثين ذراعاً، إحداهما بئر (الزغيرة) صاحبة الحكاية الشهيرة، كان أهلها السبعمئة نسمة وأنعامهم، يُسقَوْن ويَسقون.
بمياه البئرين تطهر لعريقاوية وارتووا، وبها عجنوا عجينهم، وفتلوا مفتولهم، وغسلوا بواطيهم وقدورهم، وصبوا على أيدي كبارهم وضيوفهم، ورشوا أعتاب بيوتهم، رداً لشزر عين حسود، أو شر عدو حقود.
اقترنت مواسم الحرث والغرس والحصاد، ومناسبات الولادة والطهارة والخطوبة والزواج والوفاة، في «عراق سويدان»، بعادات وتقاليد، وأغانٍ وحكايا ومواويل، ونكت وحزازير، تشهد على عمق العلاقة الأزلية بين لعريقاوي وأرضه. وفي ظلال أشجار اللوز والتوت والجميز والتين والعنب، أُقيمت الأعراس، ودَبَك الشباب، وشبّبوا ودلعنوا، وأرغلوا وموّلوا، بدماياتهم الحريرية والصوفية المخططة، وعباءاتهم القشيبة المقصبة، وحطّاتهم ناصعة البياض المُزَهَّرة، وعُقُلِهم السود المعنقَرة، وشِبْرياتهم المرهفة المزخرفة؛ فهاهت لعريقاويات وزغردن، ورقصن مُرَوِّدات، بتناغم مع السحجات وإيقاع الطبول والدفوف، بثيابهن لعريقاوية الثقيلة المطرزة، ومحانكهن الذهبية، ووقاياتهن المُصيَّغة بالريالات الفضية والليرات العُسْملّيّة، وشبكاتهن الخرزية، وغدْفاتهن الوثيرة المتهدلة، وأحزمتهن الحريرية المشجرة:
«إحنا لعريقاويات
يا مين يجارينا!
هذي بلدنا،
واحنا بناتها المحصنات
بالحسَب والنَّسب
يا مين يجارينا..
وسَّع دارك يا بو يوسف
طلت عليها العزومة
أنا وسعت داري
وانتو كبار الحمولة..»
إذا أمسى المساء وعاد لعريقاوية من حقولهم، يحدبون على ماشيتهم وأغنامهم، اغتسلوا وتوضأوا وتطيبوا، وتوافدوا على مصاطب السمر، يحكون الحكايا الشعبية والبيبرسية والسيرة النبوية وأخبار الوطن، فتنفث الزفرات بالعتابا والميجنا، وترتفع الابتهالات إلى أبواب السماء المشرعة، بالدعاء للمجاهدين، بنصر من الله وفرج قريب.
بعد العديد من محاولات الاجتياح الغادرة الخائبة، رغم اختلال موازين القوى لمصلحة العدو القادم، بالقتل والتدمير والاغتصاب والتشريد، من خلف البحار، سقط في 10/11/1948، مركز شرطة «عراق سويدان» الحصين الواقع في غربها، على الطريق الخليلي المجدلي، في براثن العصابات الإرهابية اليهودية، المنطلقة من ثكنات جيش الانتداب البريطاني بجولس، فأبلى أهلها المجاهدون شبه العُزل، عند مدخلها، بلاءً حسناً، حتى اقتحمتها مصفحات تلك العصابات، من فوق أجسادهم، وعاثت فيها قتلاً ونهباً وفساداً، وشردت أهلها منها، ودمرتها، ولم تُبق منها إلاَّ مبنى مركز شرطتها المذكور، لمراقبة المنطقة (لا يزال المبنى حتى اليوم، في مكانه، مطرزاً بثقوب الرصاص، ينتظر عودة لعريقاوية إليه)، ثم هوّدتها باسم «متسودات يوآب»، وأجثمت على صدرها مستعمرات «نوجا وعتسيم وسده يوآف» التي (تطفح) اليوم بمياه يجرها الغزاة الغاصبون بالأنابيب، من حياض نهر الأردن، استقواءً وظلماً وعدواناً، ليجف، على ضفافه الزرع والضرع، وتُخنق البحيرة ويختنق البحر، ويبكي الجبل، وتحشرج الآهات في حناجر البشر:
«أنا لابْكِي وبَكّي كل جيلي
علِّي جرى لي من دون جيلي
هيلي!
هيلي يا دموع العين هيلي!
ويلٍ!
مَن آمن للعدى يا خالي
يموت كَبَداً ويصبح موطنو خالي
وهيلي يا دموع العين هيلي».
كان تصاهر لعريقاوية لا يكاد يتجاوز حدود قريتهم إلاَّ قليلاً، آخذاً بالمَثَل الشعبي: «من طين بلادك خُذ وليِّس على خدادك»، حتى إذا عمُق الجرح اتَّسعت جغرافية هذا الطين لتحتضن بلدات منها، داخل الوطن، بيت طيما ويبنة والبطاني وقطرة والسوافير، والفالوجة وبيت دراس وكوكبة وبيت ساحور وبرير، وأسدود والجورة وغزة ويافا والخليل..
ينتظر أهل المليحة «عراق سويدان» اليومَ، بمفاتيح بيوتهم المغصوبة، تشرئبُّ على الخصور، وسندات ملكية أراضيهم السليبة، مشدودة إلى الصدور، كاظمي الغيظ، تحت الحصار والتقتيل والتجويع، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بقطاع غزة ومنافٍ أخرى، يوم العودة إليها، في جموع وعوائل، منها الجعيدي وأبو سمرة والقيق ودخان، وأبو زعيتر وربيع وشومان، ورخا والباز وسالم وعليان، وقد تضاعف عديدهم إلى خمسة أضعاف، منهم أعلام في الجهاد والعلم.
هذي هي قريتي «عراق سويدان»، فهات ما عندك، وانطق باسمها.. بالحقيقة والحق.. وسجّل يا زمان.