عندما غادر أحمد أيوب أيوب (أبو خلدون) بلدته سحماتا عام 1948، بفعل إرهاب العصابات الصهيونية، لم يكن قد تجاوز السادسة من عمره. خرج بصحبة عائلته وأهل بلدته باتجاه لبنان، فمرّوا بقرية البقيعة، وعين إبل اللبنانية ثم بنت جبيل فالبرج الشمالي وبعدها إلى بعلبك.. درس الأمراض العقلية والعصبية والنفسية في المستشفى اللبناني للأمراض العقلية، ثم سافر إلى الكويت عام 1962 حيث عمل في مجال الطب النفسي مدة 40 عاماً ليعود بعدها إلى لبنان.
طوال هذه الفترة، لم يكن منقطعاً عن سحماتا، بل ظلت في باله وذاكرته، وكتب لها مقالات ووجدانيات نشر بعضها واحتفظ ببعضها الآخر.. بعد عودته إلى لبنان، كرّس وقته للعمل على مشروع لم يفارق خياله لسنوات، وهو رسم خريطة سحماتا بحاراتها وبيوتها وزواريبها وكل معلم فيها..
للوقوف على تفاصيل العمل ومراحله والهدف من ورائه، كانت زيارة مجلة «العـودة» لمنزل أبي خلدون في مدينة صيدا.
هكذا أنجزتُها
عمل أبو خلدون على الخريطة من 28/12/2004 حتى 1/2/2010، مستعيناً بعدد كبير من أبناء البلدة الكبار ممن عاشوا فيها ووعوها، وذلك لعدم توافر أية صورة قديمة لقرية سحماتا تظهر كيف كانت قبل النكبة عام 1948، فأراد أن يحفظ شيئاً عن سحماتا للأبناء والأحفاد الذين ولدوا أثناء النكبة وبعدها.. وعندما نسأله عن الحوافز والدوافع التي حملته على هذه المهمة الشاقة يقول: «المحبة المتأججة لسحماتا والرغبة الملحة لإعادة صورة سحماتا القديمة الجميلة وإظهارها بالشكل الذي كانت عليه قبل عام 1948، وإحياء سحماتا في ذاكرات أبنائها ممن ولدوا وعاشوا فيها، وترسيخ مفهوم حق العودة في نفوس الأجيال التي حرمت إياها والتعرف إلى شكلها من خلال الخريطة، والتعرف إلى أسماء العائلات التي كانت تعيش فيها، وتعزيز الشعور في نفوس أبنائها بأن لهم وطناً مسلوباً وأن لهم حقاً لا بدّ من استعادته»..
وبالفعل، عندما تدقق النظر في هذه الخريطة يمكنك أن تتعرف إلى سحماتا بتفاصيلها التي كانت موجودة قبل عام 1948، تظهر فيها حارتان (الفوقا والتحتا) ويظهر فيها 224 بيتاً، لكل منها رقم يمكن من خلاله معرفة صاحب الدار. وفي البلدة بركتان ومدرستان (ابتدائية وزراعية) وعدد من معاصر الزيتون، تشير المعلومات في الخريطة إلى أن إحداها كانت تعمل بالوسائل الآلية المتطورة (نسبة إلى ذلك الزمن)، ويظهر فيها مسجد وكنيسة لا تفصل بينهما مسافة بعيدة.
يمكن المطلع على الخريطة أن يدرك أن العمل عليها كان شاقاً، ومرّ بمراحل كثيرة قبل أن تظهر على هذا الشكل. عن هذه المراحل يفصّل لنا أبو خلدون: «الاتصال بالأشخاص من كبار السن الذين عاشوا في سحماتا ووعوها (رجالاً ونساءً)، الاتصال بالمتعلمين ممن وعوا سحماتا ويعرفونها للاستفادة من معلوماتهم الجغرافية ومعرفتهم بالخرائط، ثم جمع كل تلك المعلومات وتصنيفها ومقارنتها بعضها ببعض وتدقيقها وغربلتها، وأخيراً توظيفها جيداً، وعرضها بعد ذلك على ذوي الثقة. وقد تجاوز عدد المرات التي أعدت فيها رسم الخريطة أربعين مرة، إضافة إلى كمية من الأوراق الكتابية، والأوراق الشفافة».
استعان أبو خلدون في عمله ببعض الفنيين الذين يعملون في الرسم الهندسي وتصوير الخرائط، ومع ذلك فهو لا يدعي الكمال، بل يقول: «نظراً لعدم توافر المسافات الحقيقة على الأرض، فمن غير المعقول أن تمتاز الخريطة بالدقة العلمية. ولذا لم أضع قياس رسم الخريطة، كما لا أدعي معرفة الرسم الجغرافي الدقيق. لكن ما قمت به هو أقرب ما يكون لما كان قائماً، وذلك بشهادة كل من راجعتهم».
أبناء سحماتا يتفاعلون
بعد الانتهاء من العمل، وقف أبو خلدون أمام خريطة سحماتا طويلاً يتأمل فيها.. لقد تمثلت أمامه سحماتا «ببيوتها وناسها وأحيائها وطرقاتها قبل عام 1948، ولقد كان ذلك مبعث فرح وألم في الوقت ذاته».. وازدادت فرحته بالرسائل التي تلقاها عبر البريد الإلكتروني من أمريكا وأوروبا ولبنان وعدد من البلدان العربية والتي تعبّر عن إعجاب أصحابها بالخريطة لقربها من الواقع ووجود أسماء أصحاب البيوت فيها، فشعر بأنه حقق الهدف الذي عمل من أجله.. «نسبة كبيرة منهم لم يولدوا في فلسطين ولم يروها من قبل. لكنهم عبروا عن انطباعاتهم، ورؤية مواقع بيوت أبائهم وأجدادهم بقولهم : «إن هذا إنجاز حقيقي ورائع يرسخ في نفوسنا حق العودة.. وأن لنا وطناً ونحن أصحاب حق مهما طال الزمن.. نعم لدينا جذور وأصول وحق يجب أن نتمسك به.. إن بيوت قريتنا القريبة من بعضها تظهر مدى المودة واللحمة التي كانت قائمة بين أهالي البلدة.. وآخر يقول إن هذا الجهد الكبير يستحق الشكر والثناء، فهو عمل غير مسبوق وعمل يُبنى عليه».
لم تعد سحماتا المدمرة اليوم مجرد أطلال في فلسطين، أو ذكريات مثبتة في بعض الكتب والمراجع أو في ذاكرات أبنائها الكبار، بل صارت صورة قريبة جداً لما كانت عليه القرية قبل نكبة 1948، وصار بإمكان الأجيال الجديدة من أبناء سحماتا أن يروا الأرض والدُّور التي كانت لآبائهم وأجدادهم ويطالبون باستعادتها والعودة إليها.
الوصية
.. وقبل ختام اللقاء، يحمّلنا أبو خلدون رسالة لأبناء الشعب الفلسطيني بأنه «لاستعادة الحق لا بد من بناء القوة، والقوة هي قوة العلم، قوة الإيمان بالحق، وقوة السلاح»، ولأبناء سحماتا يقول: «إنّ سحماتا، وإنْ جرفها المحتل وأخفى معالمها، ستبقى حاضرة في أذهانكم وعقولكم.. إنها الإرث المقدس من الآباء والأجداد مهما طال الزمن».. نغادره ونحن على يقين بأن هذا الحرص وهذه الجهود من أبناء فلسطين كفيلة بأن تغرس حق العودة وترسخه في نفوس الأبناء والأحفاد، ولن تترك للنسيان فرصة أو فسحة للنفاذ إلى ذاكراتهم.
ياسر قدورة
مجلة العودة - أيلول (سبتمبر) 2010 م