من قرية “كرتيا” المدمرة شمال شرقي مدينة غزة، تنحدر أصول أم حسن التي تسكن اليوم في مخيم رفح للاجئين جنوب قطاع غزة . . مسافة طويلة تفصل بين ذكريات الطفولة وأمنيات الشيخوخة، لطفلة كانت تلهو في فناء منزلها وتشترك في أحلامها مع كل فتيات جيلها، وبين امرأة عجوز نال منها الزمن وكل أملها في الحياة أن تعود ذات يوم إلى مسقط رأسها، أو يتحقق حلم العودة لأبنائها وأحفادها .
تتحدث مريم المغاري “أم حسن” (77 عاما) عن قريتها بكل فخر وبساطة، وتقول: “كرتيا” في عيني أحلى مكان بالدنيا، فيها ولدنا وتربينا . كنا نلعب صغاراً حول الأشجار . كانت أجمل سنين عمري، لأن كل السنوات بعدها تعني باختصار ألماً وتشريداً وعذاباً . ما زلت اذكر زواجي وكان عمري وقتها 14 عاماً . كنت سعيدة باحتفال أهل القرية بزواجي رغم صغر عمري وعدم ادراكي معنى الزواج ومسؤولياته . لم يمر وقت طويل على زواجي حتى حضر زوجي ذات يوم وأخذ يجمع ما في المنزل من متاع بسيط وأخبرني بضرورة الرحيل عن القرية . . لم أدرك وقتها حقيقة الأمر . كل ما سمعته وقتها أن العصابات الصهيونية تهاجم المدن والقرى وترتكب المجازر، لم أكن أعلم أن الهدف هو سلبنا منازلنا وأراضينا وممتلكاتنا .
وتتذكر “أم حسن” بكثير من الألم والمرارة تلك الليلة التي قطعت فيها برفقة زوجها وأهالي القرية مسافات طويلة بمحاذاة ساحل البحر للنجاة بأنفسهم من عصابات القتل الصهيونية، وتقول: قضيت مع زوجي عدة ليال على شاطئ البحر . كانت رحلة طويلة وشاقة أدمت أقدامنا ونحن نسير على أرض ملتهبة والفزع يتملكنا . وكاد الخوف يقتلني على طفلي الرضيع “حسن” الذي لم يتجاوز وقتها أربعة أشهر . كان يبكي طوال الطريق من دون أن تكون هناك فرصة للتوقف حتى لأرضعه، وصلنا بعد أيام إلى دير البلح وسط قطاع غزة، وهناك التقينا بأهالي من القرى المجاورة لكرتيا، لكن لم تكن فرصة مواتية كي نتعرف إلى بعضنا البعض . كان الكل منشغلاً في الهرب لمسافات طويلة عن القرى التي هاجمتها العصابات الصهيونية . القصص كانت كثيرة ومرعبة عن قرى هاجمها اليهود وسرقوا منازلها وقتلوا رجالها واغتصبوا نساءها وأشاعوا الرعب والارهاب في كل مكان . . .
أهازيج البلاد
أغاني وأهازيج للأفراح ولكثير من المناسبات غنتها أم حسن في ثنايا حديثها عن النكبة، وكأنها جزء من الرواية، تذكرها وتغنيها وتعلمها لبناتها وزوجات أبنائها . . وتحتفظ بثوب عرسها ونذرت أن تلبسه يوم عودتها إلى “كرتيا” لأنه سيكون بالنسبة لها أجمل عرس في حياتها، آمال تتناقلها أم حسن وصديقاتها ممن عاصروا النكبة والهجرة، وهنا تتذكر أم حسن بحسرة كبيرة صديقاتها اللواتي بدأت تفقدهن واحدة بعد الأخرى، وتقول: لقد غيب الموت في السنوات الماضية صديقات ورفيقات درب شهدن معي النكبة في العام 1948 .
الزمن لم ينل من ذاكرة أم حسن ولا تزال تذكر جيداً تفاصيل هجرتها، لكنها ربما لا تعلم أن دولة الاحتلال “الإسرائيلي” أقامت على أنقاض قريتها وقرى صغيرة مجاورة ثلاث مستعمرات هي (كوميوت ورفاحا ونهورا) . . تغيرت معالم المكان ويبقى حلم العودة راسخاً ثابتاً لدى أم حسن والأجيال الفلسطينية المتعاقبة