بدايات النكبة في زرنوقا :
فُرضت علاقة إجبارية بين أهالي زرنوقا العرب وبين السكان اليهود الطارئين على أرض فلسطين الذين تمكنوا من خلال إمكاناتهم المادية الكبيرة من الحصول على أرض لهم تلتصق بالقرية وتأكل منها عبر مستوطنة رحوبوت التي أنشئت في عام 1892م ، والتي تعزَّز الوجود الاستيطاني فيها عام 1908م بمستوطنين قادمين من اليمن، ثم زادت رقعة الاستيطان بعد بيع بعض ملاك الأراضي من عائلة الفاروقي من الرملة قرابة 2600 دونم من أراضي القرية لرابطة الصهاينة الأمريكيين في عام 1925م، والتي استوطنها يهود سوفييت وإثيوبيون ويمنيون ، وسموا مستوطنتهم مستوطنة غان شلومو والتي توسعت لاحقاً لتحتل جزءاً من أراضي القرية، كذلك توسعت مستعمرة غبتون التي أُنشأت في سنة 1933م ، ومستعمرة غفعات برينر التي أنشأت في سنة 1928 فاحتلتا بعض أراضي القرية.
كان أهل زرنوقا في غفلة عن حقيقة الأهداف الصهيونية المدعومة من جانب الاحتلال الإنجليزي، ولم يكونوا على دراية بما يعدونه من مخططات للاستيلاء على جميع أراضي فلسطين وطرد أهلها منها رغم أن المناوشات بين أهالي زرنوقا وبين هؤلاء المستوطنين بدأت باكراً ومنذ عام 1892م كما وضحنا سابقاً ، وازداد جداً إلى حد الصراع الدموي الحاد عام 1913م حيث شعر الفلسطينيون أن هؤلاء الأثرياء المتدينين اليهود اقتطعوا أفضل أراضيهم وحرموهم من مناطق الرعي كما يحظون بدعم من جانب بعض الإداريين الفاسدين في نهاية الحقبة العثمانية المصرية وحقبة الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، وإن كان المؤرخون اليهود يعتبرون ما جرى من صراع دموي عنيف بين أهالي زرنوقا وبين هؤلاء المستوطنين يعود لأطماع عربية في الممتلكات اليهودية الجديدة ومحاولة إخضاعهم وابتزازهم .
ويزعم هؤلاء المؤرخون أن العلاقة ازدادت توتراً حينما تحولت مستوطنة رحوبوت إلى مركز أساس لتعبئة الحمضيات وشحنها عبر موانئ فلسطين إلى أوروبا، وحتى اشتهر اسم هذه المستوطنة باسم "مدينة الليمون" .
ويؤكد هؤلاء أن إنشاء هذه المستوطنة يعود لأسباب دينية واقتصادية ، فقد طلب آهارون إيزنبرغ عام 1890م من الثري اليهودي يهوشا هانكين أن يؤسس وجوداً استيطانياً في أرض دورون ( زرنوقا وما حولها) ويحررها !! وفي السابع من آذار تمكن من الحصول عليها وأقام على هذه الأرض قدّاساً بهيجاً في عيد البوريم اليهودي احتفالاً بهذه المناسبة ، ثم قامت جمعية يهودية في وارسو تدعى "Menuha v'Nahala'' باستثمار هذه الأرض ودعم حركة الاستيطان فيها، وجلب إليها مجموعة من اليهود ذوي الحظ الاقتصادي العاثر والراغبين في العودة إلى أرض الأجداد !! .
وتتحدث المصادر اليهودية عن ازدياد حالة الاحتقان والغضب بين هؤلاء المستوطنين والعرب ولاسيما في أعوام 1921م و 1929م و 1936 عقب ثورة البراق، وكانت تزداد عنفاً عند مرور الفلاحين الفلسطينيين بهذه المستوطنات عقب إحيائهم موسم النبي صالح في الرملة حيث تتسبب الهجمات بأضرار بالغة لمحاصيل المستوطنات .
ومن أسباب هذا الصراع قيام اليهود بإنشاء مصنع للخمور في عام 1921م والذي تم إغلاقه في عام 1933 وصار مصنعاً لعصائر الحمضيات بعد ذلك ، وإن كان لم يتخل كلياً عن إنتاج الخمور إذ تحول القائمون عليه إلى إدارة شركة الكرمل التي أصبح اسمها بعد ذلك "Carmel Mizrahi" والتي كانت تصدر الخمور لكبار الشخصيات في أوروبا.
وكان اليهود يستفزون العرب بإقامة حفلات جماهيرية ضخمة لعيد الفصح اليهودي في مستوطنة رحوبوت منذ عام 1908 وحتى الحرب العالمية الأولى.
وقد ازدادت أهمية رحوبوت السياسية عندما شكل فيها أول مركز يهودي لاستيعاب المتطوعين اليهود للمشاركة في الحرب العالمية الأولى وانطلقت منها كتيبة يهودية كاملة.
وقد تنظَّم هؤلاء المتطوعون بعد ذلك في تنظيمات عسكرية مسلحة كالهاجاناه وأرجون وإيتسل وشتيرن وليشي، وقد تحولت المستوطنات حول زرنوقا إلى مستودعات كبيرة للأسلحة والذخائر استخدمت ضد الاحتلال الإنجليزي لدفعه لتقديم المزيد من الدعم والخدمات لليهود ودفعهم للخروج بسرعة من أرض فلسطين لإقامة دولة يهودية على هذه الأرض، وقد استخدمت هذه الأسلحة بعنف في عام النكبة ضد الفلسطينيين.
و لكن هذه العلاقة المتوترة كان يختفي وراءها فترات تهدئة نظراً لحاجة اليهود المستوطنين الماسة إلى محاصيل البساتين العربية المزروعة بالحمضيات لبقاء الاسم المرموق لهذه المستوطنة وجاراتها اليهودية في تجارة الحمضيات.
وقد عجب العديد من الباحثين اليهود ولاسيما من المؤرخين اليهود الجدد كيف تحولت هذه المصالح المبنية على أسس المنفعة الاقتصادية بين العرب واليهود قبل النكبة إلى مشاعر عداء همجية من جانب اليهود الذين كانوا يتعاملون معهم ويبدون لهم المودة اللفظية والمسالمة الوادعة خلال العشر سنوات الأخيرة قبل النكبة وكان أهالي زرنوقا أنفسهم يستغربون كيف تحول هؤلاء اليهود المسالمون إلى وحوش تنفذ عملية القتل والتهجير بلا هوادة مستغلين معرفتهم الدقيقة بالأراضي والطرق ومسالك القرى المحيطة، وبحسب شهادة الحاجة نظمية أبو عون (أم عصام) والتي هجرت من قرية القبيبة الواقعة إلى ظاهر قرية زرنوقا : اليهود كانوا" ناس مسالمين" يجاورونهم في العيش، يشترون منهم ويبيعونهم ويعالجون مرضاهم في الكيبتوسات الاسرائيلية.. لكن في العام 48، لم نصدق أن هؤلاء هم اليهود الذي يسكنون معنا ونتعامل معهم كل يوم.. صحيح كانت تحدث أحياناً بعض " المناوشات" لكن سرعان ما تزول وتمر الحياة.
المصدر: الدكتور اسامة الاشقر
كتاب زرنوقة جنة الليمون والبرتقال