يقال إن وعي الطفل الفلسطيني في الأرض المحتلة أسرع تشكلاً من وعي أقرانه في الوطن العربي، بسبب المواجهة اليومية للظلم والبطش الصهيوني، ومعايشة إرادة المقاومة والصمود التي يتسلح بها الشعب الفلسطيني وتلقنها الأمهات أو ربما ترضعها لأطفالهن .
تبدو هذه المقولة منطبقة تماماً على الشاعر يوسف الخطيب الذي اختطفه الموت صباح أمس في دمشق عن عمر ناهز الثمانين عاماً، فقد ولد الخطيب سنة 1930 وصدى “ثورة البراق” عام 1931 ما زال يتردد في أرجاء فلسطين، ودم شهداء تلك الثورة (فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم) لم يزل ندياً تعبق الأرض برائحته، وفي الخامسة وعقله ما يزال غضاً طرياً تشهد فلسطين الثورة الكبرى احتجاجاً على تهجير اليهود إلى فلسطين، فتنطبع أحداثها بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة في ذاكرته .
يقول الشاعر يوسف الخطيب في شهادته عن تلك الفترة “التفاصيل الصغيرة التي استوطنت ذاكرتي لا أستطيع نسيانها مُطلقاً . . خاصة ذلك المشهد الذي اقتحم فيه الجنود البريطانيون منزلنا مع الفجر باحثين عن رائحة سلاح يُمكن أن يكون والدي قد أخفاه في المنزل قبل رحيله إلى سوريا، كغيره، هارباً من الاعتقال بحجة التكتم على مقاومين فلسطينيين” .
كانت تلك الأحداث وما تلاها حافزاً ليوسف الخطيب إلى البحث عن طرائق للتعبير، وبالمقاومة والبوح اهتدى إليها في اللغة عندما كان تلميذاً في المدرسة الابتدائية ثم الثانوية التي بدأ فيها قرض الشعر .هاجر يوسف الخطيب إلى سوريا والتحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق وانتمى إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وتخرج سنة 1955 بإجازة في الحقوق، وفي السنة نفسها أصدر ديوانه الأول “العيون الظماء للنور”، شغل الخطيب منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سوريا، لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام ،1966 ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون التي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها المذكرة الفلسطينية، وأكثرها تأثيراً ورسوخاً في الذاكرة، حيث قام الخطيب بتسجيل يوميات القضية الفلسطينية فيها بالاستناد إلى عدد من المراجع المهمة في هذه القضية، وقد دأب على إصدارها مدة تسع سنوات (1967- 1976) بخمس لغات عالمية: العربية والإنجليزية والفرنسية والاسبانية والألمانية .
انتخب عضواً في اتحاد الكتاب العرب وفي المجلس الوطني الفلسطيني وأصدر خلال مسيرته الشعرية ستة دواوين هي “العيون الظماء للنور” ،1955 و”عائدون” ،1959 و”واحة الجحيم” ،1964 و”مجنون فلسطين” ،1983 و”رأيت الله في غزة” ،1988 و”بالشام أهلي والهوى بغداد” 1988 .
في شعره يحفر في الذاكرة الفلسطينية ويلح على أسماء الأماكن والأشخاص والأحداث وكأنه يوثق لها مخافة أن تمّحي، وقد شبّع منظر الطبيعة الجميلة حول قريته دورا التي ولد فيها خياله بقدرات تصويرية بديعة ساعدته على ابتداع الصور الجميلة، وساعده ولعه باللغة العربية وحبه للشعر العربي القديم على اكتساب معرفة راسخة بأصول الشعر، وحذق شاعري بدلالات المفردة والجملة، ما هيأ له أن يبحر في فنون الشعر كما يشاء، فكان الوعي بالقضية الفلسطينية ومخزون الذاكرة من الجمال الطبيعي ومن أحداث فلسطين إلى جانب تلك المعرفة الراسخة بأصول فن الشعر، عوامل حاسمة في صناعة توجهه الشعري، وبروزه كأحد أهم شعراء فلسطين والوطن العربي في منتصف القرن العشرين، وأحد الشعراء الذين يلقى شعرهم صدى في الأوساط الثقافية وإقبالاً جماهيرياً تضيق به قاعات النوادي الأدبية والجامعات حيثما يقرأ .
من أشعاره الشهيرة قصيدة “إرادة” التي يقول فيها غاضباً مما صار إليه العرب من تخاذل:
أكاد أؤمن من شك ومن عجب . . هذي الملايين ليست أمة العرب
هذي الملايين لم يدر الزمان بها . . ولا بذي قار شدت راية الغلب
لو كنت من مازن لم يستبح وطني . . بنو اللقيطة من صرافة الذهب
لكنت غمّست رمحي في حناجرهم . . أو غمّسوا هم رماح الغدر في عصبي
أأنت أنت أم الأرحام قاحلة . . وبدلت عن أبي ذر أبا لهب
ولعل الثورات العربية الراهنة وما تشهده بعض البلدان العربية من تغيير جذري واستعادة لروح الأمة قد خففت من غلواء غضب الشاعر، وأسعفته بأمل في مستقبل كريم لفلسطين وللأمة العربية التي كرس لها شعره، وحتى يتحقق ذلك الأمل يحق للخطيب الآن أن ينعم بنومة أخيرة هادئة.
صحيفة الخليج