حيفا، المدينة التي تحتضن البحر وينبض قلبها شوقا وحنينا إلى أيام خلت، حتى قال فيها الشاعر
حيفا تئن من بعيد أما سمعت أنين حيفا
هي المدينة التي صدح فيه صوت المؤذنين من مساجدها، وعلا التكبير من مآذنها التي صمتت يوم نـُكبت حيفا، وغادرها أهلها إلى لبنان وسوريا، إلى بور سعيد وإلى شتى بقاع الأرض...
بقيت ثلاثة مساجد تخفق الرياح بأبوابها سنين عديدة، ومنها ما قصفت مئذنته، ومنها ما حول يومها إلى أوكار لأهداف أخرى، حتى بدأت الصحوة الإسلامية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حيث بدأت المساجد تعود لتؤدي دورها الذي بُنيت من أجله.
المسجد الكبير:
دخلنا حيفا عند غروب الشمس، وهناك قرب ما يسمى اليوم "كريات هممشلاه" حيث المباني والمكاتب الحكومية، انطلق صوت من ذلك المبنى الكبير الرابض تحت "عمارة الصاروخ". إنه مبنى واسع كتب عليه "مسجد النصر" و"المسجد الكبير" "ومسجد الجريني".
مبنى يبدو صغيرا قياسا مع بناية الصاروخ، لكن الصوت الذي ينبعث منه أقوى بكثير من الصاروخ، إنه نداء "الله أكبر الله أكبر".
وقفنا أمام بوابة خشبية واسعة يتوسطها حاجز حديدي يظهر من تقنية صناعته أنه صنع منذ سنين طويلة، وتعلو البوابة لافتة كتب عليها "مسجد النصر"، ثم تعلوها قطعة حجرية مستطيلة الشكل، كُتب عليها بيتان من الشعر يشيران إلى تاريخ بناء البوابة والبرج الذي يعلوها.
عبق الماضي:
يقول الدكتور محمود يزبك، رئيس قسم تاريخ الأوسط في جامعة حيفا: المسجد عرف باسم مسجد "الجريني" نسبة للجريني، وهو سوق مفتوحة لبيع الحبوب (وهي المساحة القائمة أمام المسجد)، وقد عرف باسمها، أما اسمه الحقيقي والرسمي فهو "مسجد النصر" وذلك نسبة لانتصار قائد البحرية العثماني "حسن باشا الجزائرلي" على ظاهر العمر الزيداني، وبعد مقتل الأخير في سنة 1775 للميلاد، بنى الجزائرلي هذا المسجد في حيفا ورمّم مسجدا آخر في يافا، تخليدا لذكرى النصر. وما زالت اللوحة الملصقة على مدخل المسجد الداخلي تشير إلى هذا الحدث وتؤرخ وقفية المسجد في تلك السنة.
ويضيف الدكتور يزبك: بعد بناء المسجد ووقفه دعا الجزائرلي عائلة الشيخ السهيلي من بلد الشيخ لتسكن في حيفا وتدير أوقاف المسجد وتؤدي عدة وظائف فيه، مثل الخطابة والإمامة والتدريس، حيث كان يستعمل المسجد مدرسة. بالإضافة إلى بناء مسجد الجريني شيد الجزائرلي مجموعة من البيوت المحيطة بالمسجد وهي وقف للمسجد، لإسكان عائلة السهيلي التي تدير الأوقاف، وكانت مجموعة من الحوانيت القريبة من سوق الجريني تشكل مصدر دخل كوقف للمسجد ولإعالة العاملين فيه.
وأكد الدكتور يزبك أن المئذنة كانت تعلو الجهة الشمالية من المسجد وقد دمرت عام النكبة وما زالت قاعدتها موجودة، فاليوم المسجد قائم بدون قبة لكن محاريبه بارزة وفيه منبر خشبي مرتفع يطل على قاعة الصلاة الواسعة.
من بنى المسجد ؟
اختلفت الروايات في شخصية باني المسجد الكبير. فقد قيل أن الباني هو الشيخ ظاهر العمر الزيداني. ومنهم من قال إنه حسن الجزائرلي الذي انتصر على الزيداني، ونسبة إلى هذا النصر بنى المسجد، وقد سمي باسم "المسجد الكبير" لأنه أكبر وأوسع من مسجد آخر أصغر منه. ويقال إن باني المسجد الصغير، الذي ما زال مغلقا حتى يومنا هذا هو الظاهر عمر الزيداني عام 1755م، وحول ذلك يقول الباحث الدكتور جوني منصور: "فحصنا الدلائل في المحكمة الشرعية في عكا، ثم في حيفا، وثبت أن الحديث الدقيق هو "إذا دخلت إلى حيفا من بوابتها الشرقية فإنك تجد المسجد على يمينك". وهذه إشارة إلى أن مسجد الجريني ليس هو المقصود، فهو بعيد عن البوابة الشرقية. والصحيح هي الرواية التي تقول إن بانيه هو الجزائرلي".
برج الساعة:
يعتقد بعض الناس في أيامنا هذه أن بناية البرج التي تعلو بوابة المسجد هي عبارة عن مئذنة مسجد الجريني وأنها بنيت بهذا الشكل الحالي، إلا أن الدكتور محمود يزبك يقول في ذلك: "هذه بناية البرج التي يعود تاريخ بنائها إلى احتفالات اليوبيل الفضي للسلطان عبد الحميد الثاني عام 1902 للميلاد، حيث بني برج الساعة على مسجد الجريني وأبراج أخرى مشابهة في كثير من المدن، مثل يافا ونابلس والناصرة وصفد ودمشق وعكا، وفي حيفا ما زالت اللوحة قائمة تدل على تاريخ الإنشاء والمناسبة، بحيث يختلف كل برج عن الآخر في تصميمه ومقاساته. وأما المئذنة فقد هدمت عام النكبة".
آية من الجمال المعماري:
في مدخل المسجد الخارجي وقفنا ننظر إلى بناية البرج التي تنخلع الرقاب عند ذروتها. ويقول الدكتور جوني منصور: بني البرج سنة 1316 هجرية، وقد جاءت فكرة بناء البرج ليكون هدية للسلطان عبد الحميد في ذكرى جلوسه، وقد بني الكثير من الأبراج، والدليل على ذلك هو اللافتة الحجرية التي تدل على المناسبة والتاريخ. وقد جاءت كالتالي:
عيد قضى لخمس قد أتى بعد عشرين بذا العام السعيد
أرخوه في مقال صادق فليعش سلطاننا عبد الحميد
سنة 1316 للهجرة
ويضيف الدكتور منصور: يرتفع مبنى البرج إلى 6 طبقات؛ في الطبقة الأولى بوابة عالية جدا عليها عتبة مقرنصة بالهلال من الجهتين وزخارف أخرى. في الطبقة الثانية: أربع فتحات للتهوئة، وفي الطبقة الثالثة أربع شرفات تطل على المدينة من كل الجهات المدينة، وفي الطبقة الرابعة 4 ساعات دائرية الشكل ثبت في كل واحدة ساعة أرقامها لاتينية، وفي الطابق الخامس ثماني فتحات تهوئة، وفي السادسة والأخيرة شرفة واحدة مفتوحة على بعضها من الجهات الأربعة تعلوها قبة وصنوبرة تحمل الهلال، وقد اعتبر البرج أكبر مبنى في حيفا العثمانية، وكان أبناء المدينة يعرفون المواقيت برؤيتهم الساعة من بيوتهم من كافة الجهات، وهذه الساعات نُهبت على ما يبدو عام النكبة، ولا يعرف أحد مصيرها.
لماذا في هذا المكان بالذات ؟
سألنا الدكتور منصور عن سبب بناء البرج في المكان الموجود فيه فقال: السبب هو أن هذا المكان هو أكثر مكان يصل إليه الناس وقريب من الحسبة وأسواق البلدة القديمة. والشيء الآخر أن المدينة مبنية على منحدر، فالبيوت مرتفعة وفي إمكان ساكنيها معاينة الساعة من كل مكان، إضافة إلى أن القادم عبر سكة الحديد الحجازية من درعا إلى حيفا كان يستطيع رؤية الساعة الشرقية المثبتة على البرج من محطة قطار الحجاز.
مفارقات:
ظهر خلال لقاءنا بالدكتور المؤرخ جوني منصور، ورئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا الدكتور محمود يزبك، بعض الاختلاف في المعلومات عن المسجد، لكن هذا الاختلاف لا يفقد المضمون الحقيقي للمعلومات، فمثلا التسمية جاءت كما قال الدكتور يزبك لقرب المسجد من الحسبة (السوق)، في حين قال الدكتور منصور إن التسمية جاءت بسبب قرب المسجد من بيادر القمح التي تسمى "جريني" (من جرن)، وهي كلمة كنعانية تعبر عن المكان المنخفض الذي كان الفلاحون يذرون فيه محاصيل القمح.
وكذلك كان هناك خلاف في سنة إنشاء البرج، حيث ذكر الدكتور يزبك أن الإنشاء كان في عام 1902 ميلادية، بينما ذكر د. جوني منصور أن الإنشاء كان في عام 1901 للميلاد إلا أن الاثنين اتفقا على أنها سنة جلوس السلطان عبد الحميد.
ويذكر الدكتور محمود يزبك أن المئذنة هدمت عام النكبة، في حين يقول د.منصور إنها هدمت عام النكبة، لكن بعد تعرضها إلى القصف الشديد من قبل عصابات الـ"هجاناه" في فترة المعارك والهجمات الصهيونية على الأحياء العربية سنة 1948.
تجدر الإشارة إلى أن الدكتور يزبك ذكر أن الجزائرلي دعا عائلة السهيلي لرعاية المسجد، في حين ذكر منصور أن أول من كلف بخدمة المسجد هو الشيخ كساب، ثم كلف آل الخطيب بخدمة ورعاية المسجد، وقد أطلق اسم العائلة على شارع ما زال قائما في حيفا، ويقع قرب ساحة الحناطير في البلدة التحتى.
المدرسة:
تجدر الإشارة إلى أن التعليم كان في المدرسة على شكل "كـُتـّاب". وكان المدرس يتقاضى أجرته من عائد الأوقاف المحيطة بالمسجد. وكان التعليم يجري في غرفتين لفترة زمنية طويلة إلى أن نقلت المدرسة في أواخر العهد العثماني إلى حي وادي الصليب، وعرفت حينها باسم المدرسة الإسلامية للذكور، حيث لم تكن مدرسة للبنات بعد.
المسجد اليوم:
بقي المسجد الكبير بعد النكبة مهملا حتى الستينات من القرن الماضي حيث عينت المؤسسة الإسرائيلية "لجان أمناء" لإدارة الوقف، وقد افتتح للصلاة في ذلك الوقت عن طريق لجنة الأمناء، إلا أنه لم يلق الرعاية التي يستحقها كمسجد تقام فيه الصلاة، كما قال الشيخ رشاد أبو الهيجاء، إمام المسجد الحالي، ويضيف: انتقلت إدارة المسجد في حينه بقرار من المحكمة الشرعية إلى لجنة متولين، ما أدى إلى إهماله بشكل ملفت للنظر، حتى إن بعض المرافق التابعة له قد تعطلت، ومنها ما انهار أو أوشك على الانهيار، فيما منعت النساء من الصلاة في المسجد لعدم جاهزيته، حيث كان قسم النساء مغلقا.
ويضيف الشيخ أبو الهيجاء: بقي المسجد على حاله سنين طويلة، لكن بعد أن شُكلت لجنة المتولين البديلة التي عينتها المحكمة الشرعية منذ 3 سنوات تقريبا -بعد أن حلت اللجنة القديمة- وبإشراف المحكمة الشرعية افتُتح مصلى النساء من جديد، وذلك بمؤازرة المصلين الذين عملوا ليل نهار من أجل ترميم مصلى النساء، من خلال تبرعات جُمعت من أهل الخير من كل أحياء حيفا ورواد المسجد، بالإضافة إلى تجهيز المسجد بكل احتياجاته، مثل المكيفات والطلاء والسجاد وغيره. ثم عملت اللجنة بالتنسيق مع "مؤسسة الأقصى" على ترميم المرافق التابعة والمحاذية للمسجد لتصبح جاهزة لاستقبال وخدمة أهالي حيفا.
ويؤكد الشيخ أبو الهيجاء أن هذه الأعمال هي من جهد وتبرعات رواد المسجد الذين يعملون بشكل دائم على ترميم وصيانة المسجد، ليكون على الهيئة التي يستحقها بيت من بيوت الله.
كما تنفذ لجنة الأمناء الحالية بعض الترميمات في ساحة المسجد، بالتنسيق مع المحكمة الشرعية ولجنة المتولين.
أما بالنسبة إلى فعاليات المسجد، ففي هذه الفترة تقام في المسجد الصلوات الخمس والجمعة، ويرتاده مئات المصلين في صلاة الجمعة. وتُعقد في المسجد 3 دروس أسبوعية إضافة إلى دورة لتعلُّم التجويد.
لقد أرادوا طمس معلم إسلامي، لكن الله أراد شيئا آخر. ويبقى المسجد شامخا يستقبل المصلين يوميا وعلى مدار الساعة، ويبقى الأذان يرفع خمس مرات في اليوم والليلة.... في حيفا.
المصدر: فلسطينيو 48