في الخامس من نيسان من عام 2002 تناثرت لبنات منزل عائلة الشعبي من حي القريون في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وتهاوت الجدران، وكأن زلزال ضرب الأرض، فلم تنجح محاولة أفرادها مقاومة الموت بالاحتماء في غرفة صغيرة، حين التحموا سويا، هربا من صواريخ الأباتشي الإسرائيلية، لتطحن جرافات الاحتلال بعد ذلك أجسادهم التسعة تحت عجلاتها، غير مكترثة بصرخاتهم.
في ذلك العام كانت نابلس كما باق مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية على موعد مع الفاجعة، حين اجتاحتها قوات الاحتلال لتنشر بآلياتها وقذائفها وصواريخها رائحة الموت في كل مكان في عملية ما يسمى بـ'السور الواقي'.
وفي يوم 'الشهيد' الذي يصادف 7-1من كل السنة، تروي 'وفا' حكاية عائلة الشعبي التي بدأت بعد يومين من التوغل في المدينة في التاريخ أعلاه من مختلف المحاور، حيث بدأت الدبابات والجرافات بشق طريقها نحو حي 'رأس العين'، القريب من البلدة القديمة، والتمركز أمام منزل عائلة الشعبي، والتي سرعان ما بدأت قذائف الموت والنار تنهال عليه بغزارة وجنون، قبل أن تشرع الجرافات بتجريف المنزل وتسويته بالأرض، لتتأكد أن من بداخل المنزل قد ماتوا.
نجا من تلك المجزرة بأعجوبة إلهية المواطن عبد الله الشعبي (78عاما)، وزوجته شمسة من الموت، بعد أن طمرتهما الأتربة والحجارة المنهالة على منزلهما، وبقيا فيه مايقارب 11 يوما، لم تستطع خلال تلك الفترة أي من طواقم الإسعاف ولا الصليب الأحمر الوصول لتقديم المساعدة لهما، حيث لازال عبدالله يستذكر فصول المجزرة ويرويها وفي كل مرة يشعر أنها كانت قبل قليل:' في تلك الفترة لم نكن نفكر سوى بالموت، كنت أنظر إلى سقف الغرفة الآيل إلى السقوط، ويتخيل لي في كل لحظة بأنه سيقع، كنت أنظر إلى زوجتي المريضة، بينما لم يتوقف عقلي عن التفكير بأخي وأولادة وأحفاده'.
وبجملة سريعة تعلق زوجته شمسة الغارقة في مرضها وحزنها:'برمشة عين طمونا تحت البيت، حتى لم يستطع أحد من الجيران تحذرينا نتيجة فرض حظر التجول، فكل من يتحرك في تلك الفترة كانت قوات الاحتلال تطلق النار عليه، وفي تلك الأيام لم نحاول إنقاذ أنفسنا او الخروج من المنزل لأن أي حركة في المنزل ستؤدي إلى انهياره فوق رؤوسنا، بقينا في معزل عن العالم، دون ماء أو كهرباء أو طعام، دفنونا أحياء'.
بخوف ورعب، عاش عبد الله وزوجته تلك الأيام القاسية، متسلحين بالإيمان والصمود، لحين قرار قوات الاحتلال رفع حظر التجول عن المدينة لساعات قليلة، لينكشف خلالها حجم الدمار والمجزرة التي ارتكبتها جرافات الاحتلال بحق عائلة الشعبي.
عبد الله الذي ما أن يروى الحكاية حتى تهيم عيناه في شرود، وهي دامعة 'حضرت سيارات الإسعاف، وبدأت بالنداء علينا، هل هناك أحياء؟، حينها بدأت بالصراخ وتم انتشالنا من المكان، وأكتشفت حينها أن أولاد أخي وأطفاله تحولوا إلى أشلاء ممزقة، كانت صدمة كبيرة'.
محمود الشعبي، روى تلك اللحظات الدامية، وهو الذي عاشها من بُعد، حين كان خائفا وقلقا بعد إن انقطعت الاتصالات ولم يستطع التواصل مع العائلة، لتبدأ فاجعته بعد رفع حظر التجوال لساعات: هرعت إلى منزل العائلة، وكانت الكارثة، عائلتي تحت الأنقاض، والدي عمر الشعبي وشقيقي سمير وزوجته الحامل، وأطفاله عبد الله وأنس وعزام، بالإضافة إلى شقيقتي فاطمة وعبير'.
وأضاف: 'عملت طواقم الإطفاء التابعة لبلدية نابلس طوال الليل على انتشال جثث الشهداء، حتى ساعات الصباح الباكر، فيما بقي جنود الإحتلال يطوقون المكان، وأثناء عملية البحث وجدنا شقيقتي فاطمة تسند ظهرها إلى باب المنزل الرئيسي وتضع على صدرها الطفل عبد الله، على ما يبدو كانت تحاول الخروج من الباب، فيما عثر على باقي الشهداء مجتمعين في غرفة صغيرة في وضعية تشير إلى أنهم حاولوا الهروب، أو البحث عن مخرج لكن الموت كان أقرب' هذا ما قاله محمود.
لم تشيع جثامين الشهداء بمراسم أو مسيرات ضخمة تليق بتضحياتهم، ولم تحمل على الأكتاف في موكب مهيب، فالموت في تلك الأيام بات يتربص بكل مواطن في المدينة، وعلى عجل تم نقل جثامين الشهداء عبر سيارات الإطفاء إلى ثلاجة تبريد يستخدمها مصنع في المدينة لنقل المواد الغذائية، برفقة جثامين أخرى لشهداء قضوا في القصف، هذا ما أكده محمود الشعبي.
وقال محمود:' بقيت الجثث في الثلاجات لحين سمحت قوات الإحتلال لنا بدفنهم في المقبرة الغربية بتاريخ 19-4-2002... رحلوا لا يسعنا إلا الترحم عليهم والدعاء لهم'.
رحلت عائلة الشعبي، ولم يبق لما تبقى من العائلة سوى فاتحة كتاب تتلى على ارواحهم، ونصب تذكاري جمع صورهم في ساحة القريون، ليبقى شاهدا عليهم، عاشوا هنا، وماتوا هنا.
المصدر: وكالة وفا