بفتح الكاف والراء وكسر التاء، وتشديد الياء وفي الآخر ألف. كلمة يونانية بمعنى القوة أو الحكم وقد يكون من نفس الأصل الذي اشتقت منه كلمة كراتيه – المصارعة المعروفة - وذلك لأن في القرية كانت قلعة رومانية. ذكرها صاحب ياقوت الحموي في معجم بلدان فلسطين باسم قرتيا.
وهي قرية عربية كانت تقع شمالي شرق غزة على بعد 29كم على طريق الفالوجة – المجدل وهي على بعد كيلومتر واحد شمالي غرب الفالوجة وفي الشرق من عراق سويدان بينها وبين الفالوجة. وتجاور أراضيها أراضي حتا والسوافير والفالوجة وبيت عفّا وعراق السويدان. وهي قرب بيت جبرين من نواحي فلسطين من أعمال بيت المقدس. وقد قامت على أراضي منبسطة ترتفع 75 متر عن سطح البحر. يمر بطرفي القرية الجنوبي والغربي وادي المفرض القادم من الفالوجة وقد اكسبها ذلك في الماضي قوة دفاعية يدل عليها اسمها اليوناني.
وقد ورد ذكرها بين البلدان التي استولى عليها صلاح الدين الأيوبي مع فرسانه قبل الانطلاق للإغارة على الأعداء الصليبين حيث كان في موقعها قلعة صليبية باسم غالاتي. وفي أرض القرية آثار خرائب قديمة كثيرة تعود إلى أيام الصليبيين والمماليك.
وتحتوي كرتيا على " تل أنقاض وآثار صهاريج مهدمة وقطع معمارية " ويقال لهذه المحتويات أيضا قلعة الفنش.
- في عام 699 هـ :1299م نزل بها السلطان الناصر محمد بن قالوون, في طريقه لمحاربة المغول الذين كانوا قد عبروا الفرات بجيش يبلغ مئة ألف مقاتل.
- قال القريزي: في هذه المنزلة –قرتيا- سالت الأودية , وأتلف السيل كثيرا من أثقال العسكر , وافتقر عدة منهم لذهاب جمالهم وأثقالهم... وعقب هذا السيل خرج جراد سد الافق بحيث حجب الأبصار عن السماء.
- وفي كرتيا خلع نائب السلطة في القدس " جان بلاط " عام 899 هـ الخلع السلطانية على أمير جرم محمد بن إبراهيم الودياني.
- كانت مساحة كرتيا 48 دونما شغلتها المساكن المبنية من اللبن. وقد اتجه نموها العمراني نحو الشمال بتأثير مرور طريق المجدل – الفالوجة شماليها وبسبب وجود الوادي في الجنوب والغرب.
- بلغت مساحة أراضي كرتيا 13.709 دونمات منها 351 دونما للطرق والأودية ولا يملك اليهود منها شيء.
- كان بها عام 1922 (736) شخصا بلغوا (932) نسمة في عام 1931 , بينهم 483 من الذكور و449 من الإناث لهم 229 بيتا. وفي 1/4/1945 م قدروا بـ (1370) نسمة عرب مسلمون. بعضهم يعود نسبه إلى مصر ومنهم من يذكر أنهم من بني ليث من وادي موسى في شرقي الأردن كما وأن بينهم من يعود أصله إلى الصليبيين.
- أكبر عائلاتهم الخالدي ويقولون أنهم ينتمون إلى بني مخزوم الذين منهم خالد بن الوليد ولهم أقارب في وادي موسى. وعائلة المغاري ويقال أن جدهم ولد في مغارة أثناء هجرة قومه إلى هذه القرية. ومنهم آل الحلو الذين قدمو من دير غسان برام الله والذين يعود نسبهم إلى مملكة الغساسنة في اليمن ولقبهم السابق البرغوثي وقد تغير بسبب جمال جدهم الذي قدم إلى كرتيا. وآل فياض وكان ثمة تنافس بين عائلتي الخالدي والمغاري وكثيرا ما نشبت بينهم صراعات يتدخل لحلها مخاتير الفالوجة والقرى المجاورة. ومن العائلات المصرية الأصل: أبو لمضي والتلاوي والشاعر. وللقرية مختاران من آل الخالدي , والمغاري. ويقول مصطفى الدباغ أن معظم أهالي هذه القرية ينتسبون إلى بني الليث في وادي موسى وبعضهم من أصل صليبي أو مصري.
- اعتمدت الزراعة على الأمطار التي يصل معدلها السنوي 380 مم. أراضيها خصبة معظمها ملك للأهالي والباقي لآل الشوا، كانوا يزرعون فيها الصبار والحبوب وخاصة القمح وكانوا يطحنونه في مطحنة أقامها في القرية أحد أبناء غزة، كما زرعوا الخضار والفواكه لاسيما البطيخ والشمام، وغرسوا في الأونة الأخيرة قبيل عام 1948 م في مساحات قليلة الأشجار المثمرة وأشجار الفواكه والخضار.
- أما المراعي فقليلة ولذلك كانت الثروة الحيوانية ضحلة. اعتنوا برعي الأغنام كما كان أصحاب الأراضي يعتنون بتربية الأبقار والخيول والحمير، بينما اعتنت العائلات التي لا أرض لها برعي الأغنام وتربية الدواجن.
- وقد عانت كرتيا من ندرة مصادر المياة السطحية والجوفية واعتمد أهلها في شربهم على مياة بئرين محفورين داخلها.
- قد ضمت بالإضافة إلى مطحنة الحبوب مدرسة ابتدائية تأسست عام 1922م بلغ عدد طلابها 128 طالبا يوزعون على خمسة صفوف يعلمهم ثلاثة معلمين، تدفع القرية مرتبات اثنين منهم. في كرتيا، 332 رجلا يلمون بالقراءة والكتابة
- كانت تتبع في جميع شئونها الإدارية والتعليمية والتجارية لقرية الفالوجة المجاورة.
- هاجر سكان كرتيا منها فى نوفمبر 1948م وكانوا مطمئنين لقوة رجالهم ومجيء متطوعين أشداء قدموا بدافع ديني عقب قرار التقسيم منهم إخوان مسلمون أتباع أحمد عبد العزيز وآخرون من أتباع زاوية صوفية يرأسها الشيخ محمد أبو العزايم، الذي قدم بنفسه للإشتراك في الجهاد، انتشروا في كرتيا والقرى المجاورة لحمايتها من أطماع الصهيونية التي اهتمت بهذه المنطقة الحيوية باعتبارها مفتاح منطقة النقب الواسعة ومن المتطوعين الآخرين عدد قليل من الألمان كانوا فلول الجيش النازي التابع للزعيم الألماني - هتلر.
- ولما دخل الجيش المصري النظامي زاد اطمئنان السكان لوجود أسلحة ثقيلة بالمقارنة مع الأسلحة الخفيفة القديمة التي كانت لدى المتطوعين. واتخذ الجيش المصري مواقع حصينة في تلك المنطقة وكان قائده (سيد طه) – الضبع الأسود – يطمئن السكان ويقول لهم أن ما يأخذه اليهود في الليل نسترجعه بالنهار.
- وفي معارك النقب الأولى احتلت فرقة من الكوماندو الاسرائيلي بقيادة ديان هذه القرية بعد أن عجزت قواتهم العادية عن احتلالها فأقام المصريون طريقاً ترابياً إلى الجنوب بعد أن فشلوا في استرجاعها بهجوم مضاد عليه.
- قامت المنظمات الصهيوينة المسلحة بهدم القرية وتشريد أهلها , وأقاموا على أراضيها مستعمرة (قوميمات) ومستعمرة (نيهورا). وقد هاجر السكان إلى الفالوجة واشتركوا في مقاومة الأعداء هناك.
- وقد نبغ من أبناء كرتيا محمد الشيخ سالم – فياض الخالدي الذي حصل على درجة الدكتوراة في الكيمياء وعمل كوزير تخطيط في تونس ثم أصبح مدير أمانة العاصمة في عمان. وبرز منها محمد أبو ناجي أستاذ في جامعة الرياض. كما تخرج منها أطباء ومهندسون ومثقفون آخرون
سميت كرتيا بهذا الاسم نسبة إلى ابنة الملكة هيلانة وكان اسمها (كرتة)، التي كانت في بيت جبرين، وكانت كرتيا تابعة لها، وأرادت أن تبني لابنتها قصرا في أعلى مكان في القرية يدعى سطح القلعة، ومع مرور الزمن حرفت الكلمة من كرتة إلى كرتيا، وذكرها الجغرافي العربي ياقوت الحموي (توفي سنة 1229م) في كتابه معجم البلدان تحت اسم 'قرتيا'، وتعني باليونانية القوة والحكم.
تقدر مساحتها بــ (13709) دونمات، يحدها من الشرق الفالوجة ومن الغرب بيت عفا وعراق سويدان، ومن الشمال حتا والسوافير ومن الجنوب قرية برير، وبلغ عدد سكانها آنذاك 1948 نسمة - مصادفة لقد تطابق عدد السكان تماما مع عام النكبة 1948م- معظمهم يعملون بزراعة الحبوب وتربية المواشي.
يقول أ بو كمال: كانت قريتنا آمنة يعيش أهلها حياة بسيطة هادئة ويسود بينهم التعاون، فيهم عائلات كبيرة وأخرى صغيرة لكن المحبة تجمعهم، فمنهم الفلاحون سكان القرية الأصليون أمثال عائلات الخالدي ومغاري وفياض وأبو ناجي والسالمي والحلو، ومنهم من أصول مصرية كعائلات الشاعر وأبو سعدة والدريني وأبو لمظي وبدر وجبران وأبو عيشة بالإضافة إلى الوافدين ممن جاءوا من القرى والمناطق القريبة وسكنوا القرية أواخر الحكم العثماني وأثناء الانتداب البريطاني كعائلات شعفوط وسلامة وأبو خريس وحمد وأبو سل ومكازي وأبو عبيد.
ويذكر الحاج، أن اليهود أنشأوا على بعض أراضيها بعد احتلالها ثلاث مستعمرات وهي: ' كومميوت'، (سنة 1950) و'رفاحا' (سنة 1953) و'نهورا' (1956)، وأقاموا إلى الشرق منها ما يسمى بمستعمرة (كريات قات)، ويقول: لقد دخلت هذه المناطق بعد احتلال غزة عام 1967 وجلت فيها كثيرا، نعم رأيت كل شيء حتى ما تبقى من أسوار منزلنا والطاحونة وبئر الماء المهدم والمقبرة حتى حواكير الصبر وصبرها ما زال يحيط بها.
اعتدل أبو كمال في جلسته وواصل الحديث: كنت صبياً في الثانية عشرة من عمري، أنعم بجمال القرية وهدوئها، أحلم بالجدي الصغير الذي أعطاه لي والدي، وأتمنى أن يكبر بسرعة حتى نذبحه على العيد المقبل، إلى أن جاء الصهاينة ليحولوا هدوء القرية إلى صرخات فزع وعويل وليبددوا أحلام الجميع، فقد كانت المناوشات قد بدأت بين العرب واليهود في العديد من القرى الفلسطينية ومنها قريتنا والقرى المجاورة، وكنت أسمع عن وجود قوات مصرية في الفالوجة بقيادة الضابط 'البيه طه' والملقب بـ (الضبع الأسود) لما اتصف به هذا الرجل من شجاعة وبسالة، وتمركزت أيضا قوات مصرية في عراق المنشية بقيادة الضابط جمال عبد الناصر، والذي انضم بقواته فيما بعد إلى قوات الفالوجة حيث حاصرهم اليهود جميعا هناك، وكان في قريتنا حوالي ثلاثين مقاتلا من المتطوعين المصريين الذين يعرفون بـ ( جيش أبو العزايم).
'كأنه يوم القيامة، كأنها جهنم' هكذا يلخص الحاج أبو كمال المشهد ثم يوضح: كان يوم الحادي عشر من رمضان والناس صيام حين هاجمنا اليهود وصوبوا نيران رشاشاتهم وقذائفهم تجاه بيوت القرية وساكنيها، واشتعلت النيران في كل مكان ودمرت المنازل إما هدماً أو حرقاً، وانتشر الغبار، وسقط القتلى والجرحى وسط الشوارع وتحت الجدران، وتعالت الصرخات وتكررت النداءات من آباء على أبنائهم ومن أزواج على زوجاتهم، حتى المواشي كانت تركض وتتخبط في كل اتجاه، والطيور هربت من أعشاشها.
وقال أبو كمال: لقد رأيت أخي الأكبر راتب والذي تجاوز الآن التسعين من عمره وأصيب بمرض الزهايمر، ولا يذكر أي شيء في حديثه إلا كرتيا وكأنه مازال يعيش فيها، يقول: رأيته يحمل أخي الصغير غازي، والذي كبر وسافر للعمل في ليبيا معلما وتوفي هناك، أما أمي فتركت عجينها وأرغفة الخبز في فرن الطابون وحملت أخي الأصغر سعيد، الذي كبر وسافر وعمل معلما في الإمارات العربية المتحدة، وبلغ سن التقاعد، ولم يتمكن من العودة لغزة، لأنه يعتبر نازحا لا يملك هوية وليس له حق العودة، ولم يسمح له بالزيارة منذ عشرات السنين.
وتابع: كان سعيد ممسكا برغيف كانت قد أخرجته له أمه للتو ودهنته ببعض السمن عندما كان يحبو بجوارها قبل لحظات من بداية الهروب، وكان يمضغ قطعة منه، وهي التي كانت من نصيبه فقط، لأن ما تبقى من الرغيف سقط من يده وداسته الأقدام الهاربة، أما أنا وبقية الإخوة والأخوات فكنا نجري خلف أمي دون أبي.
وأوضح: لم نلحظ عدم وجود أبي معنا إلا بعد اقترابنا من الفالوجة التي وجدناها محاصرة، فبدأنا نحن وأمي بسؤال كل من نشاهده من أهل قريتنا عن الوالد، وعلمنا من بعض الأقارب أنه شاهد الوالد لحظة خروجه من كرتيا، لكنه لم يتمكن من التحدث إليه ليعرف أين هو ذاهب، وتعرضنا لغارات الطائرات برشاشاتها الثقيلة، وقعنا في حيرة البقاء أو العودة للقرية للبحث عنه، وتعالت صيحات أمي واشتد بكاؤها، وأصبح إطلاق النيران كثيفا علينا فعاودنا الهرب نحو الغرب قاصدين بلدة المجدل، وعندها اشتد الفزع وسيطر الخوف والقلق، وبدأ الجميع يدرك نوايا اليهود الحقيقية من الهجوم، وهي إخراجنا من قرانا أو قتلنا.
قال الحاج: بدأت أمي تتفقدنا كل لحظة بل تحاول عدّنا دون أن تكمل العدد في الكثير من المحاولات، حيث بدأنا نشاهد الكثير ممن يبحث عن طفله المفقود محاولا وصف ملابس طفله وأكثرهم لا يوفق في أن يتذكر حتى لونها، فهناك من أصابه اليأس أو الخوف وتخلى عن محاولة البحث وترك طفله لقدره، ومنهم من يمشى بعكس اتجاه الناس يواصل البحث عن طفل فقده غير مدرك لخطر الموت الذي ينتظره إذا واصل المحاولة، وهناك من يحاول عبثا منعه حتى لا يقتل من اليهود الذين يطاردون جموع الفارين، فيضطر أخيرا لتركه والنجاة بنفسه ليلحق بالجموع الهائمة على وجهها.
يأخذ أبو كمال شهيقا طويلا يتبعه بزفير طويل أيضا ثم يصمت قليلا، كان عليّ احترام صمته الحزين ولم أحاول حثه على الحديث بأي سؤال مني خصوصا وأن في تفاصيل حديثه إجابات لأسئلة كثيرة، لكن صمته لم يطل وعاود الحديث قائلا: تصور أن بعض الناس التقط أطفالا انفصلوا عن آبائهم وتاهوا وسط الزحام وواصلوا معهم الهجرة حتى التقى من حالفه الحظ منهم بأهله في غزة.
وانتقل أبو كمال بالحديث عن الجرحى والقتلى، فتذكر مشاهدته للكثير منهم ممن ربطوا جراحهم بقطع من القماش انتزعوها من ثيابهم أو من غطاء رؤوسهم، وكان من يستشهد لخطورة إصابته يدفنه الرجال على عجل في أطراف الطريق إذا تمكنوا من ذلك وإلا تركوه عند اشتداد الخطر وواصلوا المسير، حيث تختلط بينهم الدموع وآهات الألم والصرخات تنطلق من كل الحناجر والفوضى تملأ الطرق الترابية الوعرة، ففي كل مكان رجال يحملون أطفالا وصغارا حفاة وأشباه عراة يمسكون بأثواب أمهاتهم، بعض كبار السن يتكئ على عصاه أو على كتف أحد أبنائه، والأخبار السيئة والمخيفة عن مجازر اليهود بحق بعض القرى تنتشر كالنار في الهشيم، وتزداد الرغبة في النجاة والتوجه نحو أي قرية أو بلدة لم يصلها اليهود بعد، وواصلنا المسير حتى وصلنا مدينة المجدل.
وعن مشهد لا يفارق خياله يقول: في المجدل كانت المفاجأة التي أفرحتنا وأبكتنا في لحظات لا مجال للبهجة فيها عندما التقينا بوالدنا، الذي ما إن سمع بوصول أهالي بلدته إلى المجدل، حتى أسرع للقائنا، وشاهدته كيف انفجر باكيا وهو يحتضن الواحد تلو الآخر منا وأحيانا يحتضن الاثنين معا والدموع تغسل لحيته الطويلة، كان يتمتم بكلام لم أسمعه ولم أدركه، ربما كان دعاء وحمدا لله، لكنني أدركت آهات الألم وفهمت نظرات الحسرة وهو يرى ما أصابنا من إرهاق وجوع وخوف وعذاب، وعرفنا منه أنه اضطر للخروج من مكانه لحظة أن بدأ اليهود الهجوم، حيث كان في أطراف القرية عند حقول الذرة، فخرج حافي القدمين، لم يتمكن بسبب كثافة النيران من التوجه لمنازل القرية، فاضطر أن يتجه إلى الغرب ومن هناك استمرت تطارده عصابات اليهود هو ومن معه من أهالي القرى التي يصل إليها، فانتقلوا من قرية إلى أخرى حتى وصلوا إلى مدينة المجدل، وكأن حكايته صورة طبق الأصل من حكايتنا.
وتابع: لم يمهلنا اليهود طويلا واستمروا بملاحقتنا فاتجهنا غربا إلى قرية الجورة على شاطئ البحر، وبعد شهرين لاحقتنا الطائرات مرة أخرى إلى قرية الجورة فهربنا مع أهلها جميعا وتوجهنا إلى قرية هربيا وجلسنا فيها حوالي شهرين أيضاً، وللمرة الثالثة واصل اليهود ملاحقتنا هناك بقواتهم ورشاشات طائراتهم فخرجنا مع أهل القرية نحو الجنوب، وكانت محطتنا الأخيرة إلى قطاع غزة.
وأضاف: لقد كانت مؤامرة، فقد أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، وانسحبت فجأة، وكان ذلك سنة 1948 بعد أن عملت على تجريدنا من السلاح والحكم بإعدام كل من يحمله أو يملكه من العرب في الوقت الذي ساعدت فيه اليهود بكل أنواع الأسلحة والتدريب، عندها هاجم اليهود قريتنا والكثير من القرى برشاشاتهم ودباباتهم وحتى بالطائرات على بعض القرى مقابل القليل جدا من البنادق القديمة فقط وبعض المسدسات في يد القليل من المدافعين الذين كانوا قد باعوا مواشيهم أو مصاغ نسائهم ليحموا قريتهم، لكنهم لم يتمكنوا من الصمود طويلاً، فقد كان الهجوم عليهم شرساً وذخيرتهم قليلة ومعظمها فاسد، ولم يكن هذا حال كرتيا فقط بل حال كل القرى والمدن التي هجرها أهلها مضطرين.
هز أبو كمال رأسه وقال معاتبا: تسميها حق العودة والذكرى الستين، أنا لا أرى هذه التسمية دقيقة ومناسبة لأن من له حق يمكنه التنازل عنه ويمكن للآخرين مطالبته بالتخلي عنه إكراما لوسطاء الخير، وأصر على مصطلحه وهو (واجب العودة)، موضحا أن من عليه واجب كمن عليه دين لا يمكنه عدم الالتزام به ولا يمكن لأحد مطالبته بعدم القيام أو الوفاء به، وهو كذلك لا يرى في المناسبة (الذكرى الستين)، لأنه كما يقول يتذكر النكبة مع كل يوم يستيقظ فيه ليجد نفسه تحت سقف بيت اللجوء في مخيم جباليا، والذي يقع شمال مدينة غزة وهو أكبر مخيمات اللاجئين المنتشرة في القطاع، فهو يتذكر وطنه في كل لحظة يقابل فيها أبناء قريته ويتذكر النكبة في كل مشهد من مشاهد المخيم المزدحم بالمنازل المتلاصقة دون أثر لشجرة مثمرة أو حتى لسنبلة واحدة، وهو يتذكرها في كل لوحة أو علم يحمل شعار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، لكل ذلك فهو يراها الذكرى المليونية.
وبين الحاج أبو كمال كيف وصل المهاجرون أفواجا كبيرة متفرقة إلى غزة وانتشار الناس تحت أشجار البيارات ( بساتين البرتقال والليمون) وغابات غزة وأحراشها، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ثم بدأت وكالة الغوث توزع بعض المواد الغذائية على اللاجئين وكذلك بعض الخيام التي انتشرت في الكثير من مناطق القطاع، منها على سبيل المثال في موقع مسجد العباس بغزة وكانت تسمى في ذلك الوقت بمنطقة الجميزات، وأذكر أيضا خياما أقيمت شمال موقع مدرسة فلسطين حاليا في غزة، ولم يمض بضعة أشهر على سكن الناس في تلك الخيام حتى جاءت الأمطار والعواصف لتقتلع معظمها فطارت من مكانها وتركت أصحابها فريسة للبرد القارس، وازدادت الحال سوءا بانتشار الأمراض وعمت الكارثة الجميع.
صمت الحاج وسقطت دمعة على خده لكنه مسحها بسرعة،وقال لي: الله يسامحك كان لازم تفتح علي جروح، على كل حال الحمد لله ألف مرة على ستره وعلى فضله، فقد كنا أكثر حظا من الكثير من المهاجرين بسبب وجود صديق الوالد الحاج رشدي سعيد الشوا ( أبو عصام )، فعائلته من أشهر عائلات غزة وهو من أبرز الشخصيات المعروفة فيها، حيث كانت تربطه بوالدي الذي كان من وجهاء قضاء غزة ومن رجال الإصلاح علاقة طيبة وصداقة كبيرة، حيث استضافنا الرجل، وقدم لنا منزلا يملكه كان قيد الإنشاء في ذلك الوقت، يقع بالقرب من ساحة الجندي المجهول ومازال هذا البيت الذي كان يعتبر كبيرا في حينه موجودا إلي الآن بعد اكتمال بنائه.
انتقل أبو كمال ليبين رحلة المعاناة في غزة، وقال: كان عدد أفراد أسرتنا يتكون من اثني عشر فردا، فكان لا بد من تدبير أمور معيشتنا، فكنا نذهب مع إخوتي لقطع الحطب من الغابة وبيعه بقروش قليلة تساعدنا على العيش، لكن الحياة كانت قاسية، وكانت الحسرة والقهر أشد على والدي بسبب هذا التحول في حياته، فأصابه المرض ولزم الفراش، وبدأ يحتاج إلي العناية والدواء، فزادت أعباء المعيشة واحتياجاتها علينا.
وأضاف: لم تشتد الحال والحاجة علينا فقط بل على الجميع، ما دفع بعض الرجال وبعد شهور من الهجرة لاختراق الحدود والمخاطرة بأرواحهم ليعودوا ببعض الدقيق أو المتاع أو الأموال التي اضطروا لتركها في منازلهم، وكان أخي حسن وهو الأكبر منى مباشرة في العشرين من عمره آنذاك من هؤلاء الشباب الذين عادوا إلى قراهم، فوصل كرتيا متسللاً، وعاد ببعض الملابس الخاصة بزوجة أخيه الأكبر وبمئة ليرة فلسطينية كانت تعتبر مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت، وقد حمل معه كيسا صغيرا من القمح، وما إن شعر والدي بغيابه وعلم بوجهته حتى كاد يقضى عليه من الحزن والقلق والهم، ولم يفرح والدي بما عاد به أخي حسن من مالٍ كنا في أمسّ الحاجة إليه بقدر ما فرح بعودته سالما، لأن الكثير ممن قاموا بنفس المحاولة لم يعودوا سالمين بل منهم من قتل مثل: ابن عمي عبد العزيز عبد الحميد الخالدي (22 عاماً)، ومنهم من أصيب مثل : ابن عمي محمد علي حماد الخالدي (20 عاما)، الذي انفجر تحت قدميه لغم للأفراد ففقد بعض أعضائه.
ابتسم أبو كمال بسخرية وقال: لم نكن نتصور أن الهجرة ستطول لسنة أو حتى لشهور، كنا نحلم كل يوم بأن نعود في اليوم التالي إلى قريتنا وأرضنا، وكنا نصدق العرب في شعارات استعادة الحقوق بالقوة والعودة قريبا جدا، الكثير منا كان على يقين كبير من العودة، نعم أعددنا أنفسنا للعودة، وقد حلمت بها وطال الانتظار ومرت السنون ثم بدأت العمل مع قوات الطوارئ الدولية التي دخلت غزة منذ 1957، واستمر عملي معهم حتى حزيران- يونيو 1967.
أراد الحاج أن يبرهن على كلامه السابق حول اليقين من العودة فروى قصة ابن عمه حسين محمد الخالدي (أبو فتحي)، الذي كان تاجرا للمواشي، وتصادف وجوده مع مواشيه لحظة هجوم الصهاينة على قريتنا في غزة، فبقي محتفظا بها وبما معه من مال، حيث سارع لشراء أربعين دونما من أحد أبناء قريته من أملاكه في كرتيا، والتي عرضها للبيع بمبلغ رخيص جدا بالنسبة للأسعار المتعارف عليها قبل التهجير، وذلك لأنه يريد أن يزوج أولاده، فلم يتردد أبو فتحي (صاحب الأمل الكبير بالعودة للبلد) في أن يدفع له المبلغ ويعقد صفقة الشراء، في الوقت الذي رفض أن يشتري له ولأولاده دونما واحدا عرض عليه فيما يعرف الآن بمنطقة دوار حيدر عبد الشافي في غزة، مقابل مبلغ يستطيع هو أن يدفعه بكل سهولة، مبررا رفضه أنه لن يترك كرتيا ويأتي ليتملك في غزة، وأنه سيعود إليها قريبا، وقد بقي في غزة إلى أن توفاه الله دون أن يرى أرضه الجديدة التي اشتراها ودون أن يترك لأولاده من بعده ولو قطعة صغيرة من الأرض تمكنهم من بناء بيت يؤويهم في غزة.
بدأت رغبة أبو كمال في مواصلة الحديث تتضاءل، لكنه عض على شفتيه وواصل كلامه بصوت منخفض يغلفه الانكسار ويخنقه الشعور بالحسرة والقهر: 'لقد كانت الهجرة مؤامرة علينا فالدول التي تدعي مساعدتنا باسم وكالة الغوث كانت تعلم أن هجرتنا ستطول، لذلك فقد بنت لنا بيوتا صغيرة بدلا من الخيام التي أخذتها الرياح وطارت مع الزوابع، سلموا غرفة تسعة أمتار مربعة للأسرة المكونة من سبعة أفراد أو أكثر وستة أمتار لمن كانوا أقل من ذلك، والله كانت أصغر من ربع مساحة حوش البقر في دارنا بكرتيا، لم تكن بيوتا بل قبورا جماعية لأموات يتنفسون، ومع مرور السنين اضطر الناس لتوسيع منازلهم وتطويرها حتى أصبح بعضها يرتفع لطابق أو اثنين، 'لكن والله لو ملكوني كل أرض غزة لن أنسى تراب كرتيا، وسأبقى أحلم بالعودة حتى لو لأدفن فيها، وأملي بالله أننا عائدون'، بهذه العبارات أنهى الحاج أبو كمال حديثه وبدأت العبرات تتساقط من عينيه.