جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
وديع عواوده -
يزدان الجليل، القسم الشمالي من فلسطين، بكروم الزيتون، الشجرة المعطاءة المشحونة برمزية البقاء في الوطن. بعض هذه الكروم نادرة بعراقتها وبجذورها المغروسة في عمق التاريخ ويدعوها أصحابها بالزيتون «الرومي» لاعتقادهم بأنها تعود لفترة الحكم الروماني في فلسطين، قبل أكثر من ألفي عام. لكن زيتونة الشيخ الفلسطيني محمود توفيق رباح أبو شوقي (80) من بلدة عرابة البطوف، هي الأكثر تميزا، وعلى مستوى العالم فهي الأقدم والأضخم. في باحة منزله تمثل شجرة زيتون بكامل هيبتها وشموخها رغم طمر بعض جذورها وسيقانها نتيجة أعمال البناء والتطوير من حولها. وإذا كانت بقية الأشجار «العيمرية» في المنطقة قد عايشت الرومان، فزيتونة أبو شوقي تعود لأيام سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما يؤكد صاحبها لافتا إلى أن عمرها 3700 سنة. ويسارع أبو شوقي للتوضيح، بأن أخصائيين من اليونسكو ثبتوا ما أقره خبراء ومهندسون زراعيون محليون، بأن الزيتونة في النصف الثاني من الألفية الرابعة من عمرها. وبسبب تآكل بعض سيقانها بادر أبو شوقي قبل عقدين لملء الفراغ المتشكّل داخلها بالتراب. ويستذكر أنه وخمسة أطفال من أترابه كانوا قبل ذلك يدخلون في شجرة الزيتون الصورية العملاقة من أجل اللعب واللهو. الصوري والمقصود أجود الزيتون يعتبر الفلسطينيون أن أجود أشجار الزيتون هو الصوري والمقصود من مدينة صور الأصل، وليس كما يظن كثيرون أن التسمية جاءت من سوريا بسبب لفظها بالسين. وتمتاز شجرة أبو شوقي بأنها تحمل كمية كبيرة من الأزهار حتى تبدو في الربيع شديدة البياض وكأنها شجرة قطن. ويبلغ محيط شجرة أبو شوقي ثمانية أمتار وتدأب على إطلاق أغصان جديدة كل عام ورغم شيخوختها تقدم ما تيسر من ثمر يستخلص منه زيت يميل للخضرة بلونه ومذاقه استثنائي في طيبته. أبو شوقي الذي لجأ إلى بلدة عرابة من بلدة حطين المهجّرة بعد احتلالها من قبل العصابات الصهيونية في 1948 تعرف على الشجرة العملاقة بعدما اقتنى والده الكرم عام 1963. «منذ أن عرفتها حافظت الشجرة على طولها ولم تتغير وتجاورها شجرة زيتون أقل قدما وضخامة بكثير ولم يكبر جذعها بأكثر من ميليمترات». يقول أبو شوقي في محاولة للتأكيد على عراقة الشجرة العملاقة متسائلا: إذا كانت الزيتونة لم يكبر جذعها بخمسين سنة فلك أن تتخيل كم استغرقت من القرون حتى بلغ محيطها ثمانية أمتار؟ بيت أبو شوقي مزارا للسائحين وبسبب ندرتها بات بيت أبو شوقي مزارا للسائحين من البلاد والعالم، يأتون فرادى وجماعات فيستقبلهم وفق أصول الضيافة العربية في مقدمتها فنجان القهوة المرّة من صنع يديه. بالطبع يسّر أبو شوقي وهو يرى الدهشة على وجه زائريه في كل مرة ينظرون فيها الى الشجرة النادرة. حينما زرناه قبل ايام كان ابن بلدته د. صالح خربوش، يلتقط صورا للزيتونة العملاقة ليصطحبها معه لمؤتمر ثقافي في أوروبا وينوي التحدث عن بلاده وشعبه من خلالها. على سبيل الدعابة سئل أبو شوقي وهو أستاذ رياضيات متقاعد عن استعداده لبيع الشجرة العملاقة فقال بلهجة جازمة: لن أبيعها ولو عرضوا علي مليون دولار! وربما يزداد اعتناء أبو شوقي بالشجرة العملاقة التي يرعاها ويحميها باعتبارها جزءا من أفراد الأسرة لأنها تذكّره بماضيه في بلدته ومسقط رأسه، قرية حطين قضاء طبريا، التي طرد أهلها منها عنوة في النكبة. هناك في حطين كان والده يملك 400 دونم من الكروم وكذلك عمه الذي هجر للبنان امتلك مثل هذه المساحات الواسعة من الأرض. جنة الله على الأرض ويحفظ أبو شوقي ذكريات الأيام الحلوة في حطين ومأساة «الهجيج» عام 48 عن ظهر قلب وبأدق التفاصيل حينما اضطر وعائلته للنزوح للبنان تاركا «جنة الله على الأرض». «كانت حطين أفضل قرى قضاء طبريا لوفرة مياه ينابيعها المتنقلة بين بيوتها وبين بساتين التفاح والمشمش والزيتون. امتلكت قرية لوبية المجاورة مساحات واسعة من الأرض لكنها افتقدت المياه بعكس حطين. كنت أرافق والدي وعمي وهم ينقلون الثمار والفواكه لبيعها في مدينة طبريا». يستحضر أبو شوقي ذكريات الطفولة والصبا ويقول إن عالمهم خرب عليهم مرة واحدة في تموز 48 فغادرت عائلة معززة مكرمة في موطنها حطين في الصباح نتيجة اشتداد الاعتداءات الصهيونية عليها، لتصبح عند العصر لاجئة. ويقول إن أقاربهم في قرية فراضية في الجليل استضافتهم حتى سقطت هي الأخرى في 28 تشرين الاول/أكتوبر 48 فانتقل الأقارب كلهم إلى رميش اللبنانية. ومن الفصول القاسية للهجرة أن عمة أبي شوقي رافقت النازحين نحو لبنان وهي حامل بالشهر التاسع فما وصلت رميش حتى ولدت على بيادرها ليلا «بدون ميّ ولا ضيّ» كما يشهد أبو شوقي. ومن هناك لفت العائلة (الوالدان وخمسة أبناء أكبرهم أبو شوقي) بين بنت جبيل وعين الحلوة قبل انتقالها إلى طرابلس بالقطار وهناك منعت من التقدم لأن السلطات السورية لم تعد تسمح بتدفق اللاجئين فاضطروا للنوم داخل القطار 15 يوما قبل أن يعودوا لمخيم عين الحلوة مجددا. حديث الذكريات ويتابع أبو شوقي «في عين الحلوة لم نجد مكانا لمحط قدم فانتقلنا وأقاربنا واستوطنا داخل كنيسة قيد البناء في أطراف صيدا». ولم تنج العائلة من الملاحقة، إذ حاصر الدرك اللبناني الكنيسة وأجبرهم على الرحيل بشاحنة استحضرها مسبقا فسافرت بهم طيلة الليل حتى بلغت بعلبك في الصباح. ومن بعلبك عادت العائلة لمخيم عين الحلوة بحثا عن أقاربها، وبعد أيام قررت العودة للوطن بعدما سمعت أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي شرعت بتوزيع بطاقات هوية. لكن السلطات الإسرائيلية شتتت شمل العائلة، فبعضها حاز على بطاقات ورفض البعض الآخر، وتم تهجيره بالقوة إلى جنين ولبنان. وظل أبو شوقي وأسرته في قرية عرابة في الجليل، وأقامت في عدة أماكن بائسة لكن الأب، أبو محمود كّد وجدّ فعمل بتجارة المواشي والحبوب واهتم بتعليم أبنائه في مدارس الناصرة وكفرياسيف. ومع الوقت اقتنى بما ادخّره، قطعة أرض في عرابة، كانت مزروعة بأشجار الزيتون وبالشجرة العملاقة. وكبر أبو شوقي وعمل مدرسا للرياضيات في عرابة، فأحب طلابها وأخلص لهم وبادله أهلها الوفاء بالوفاء. وهكذا ورغم بلوغه الثمانين اليوم فأبو شوقي يتحرك بتوقيت «ألماني» دقيق شاكرا والده الراحل الذي رباه على النشاط والنظام. يزور أبو شوقي موطنه الأصلي في حطين، يتجول بين الكروم قبل أن يخلد للاستراحة في أفياء المسجد التاريخي المبني منذ فترة المماليك والأيوبيين الذين انتصروا بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة فاصلة عرفت باسم البلدة لوقوعها بالقرب منها. يحاط المسجد التاريخي بأسلاك شائكة ويحظر ترميمه وما زالت مياه العيون تتدفق من ساحته وفيها يغسل أبو شوقي وجهه وتعبه ويطفئ حنينه بمياهها الباردة كلما زارها مرة بالشهرين. عن القدس العربي 13/6/2014