بينَ الذين نذروا حياتهم لطبريا وأهلها الشيخ المرحوم طاهر الطبري (1895 -1959)، وقد أصبحَ شيخًا وهو بعدُ في الثالثة عشرة، ثم انتُخب مفتيا فلسطين خلفاً لخاله الشيخ عبد السلام الطبري، وظلَّ يشغل مركز الإفتاء في طبريا فضلاً عن تعيينه قاضياً شرعياً (رئيس محكمة الاستئناف الشرعية) فترةً طويلةً.
وبحكم عمله في القضاء، تنقل بين عكا وطولكرم وصولاً إلى الناصرة التي استقرَّ فيها عام 1946، لكنَّه أبدًا لم يترك زيارة طبريا إلى أن سقطت في عام 1948.
عن الشيخ طاهر الطبري قال حفيده خير الطبري فقال: "أنا أرجِّح ألا تكون هناك علاقة بين لقب العائلة "الطبري" وبين مدينة طبريا التاريخية، وهذا يؤكده وجود عائلة الطبري في دولٍ عربية أخرى كالمملكة العربية السعودية.
أمَّا طبريا في نظر جدي وعائلتي فهي "موطن الروح". كانت العائلة طبرانية ارستقراطية مثقَّفة، وجدي وقبله والد جدي وسلالة مِن مشايخ العائلة، حكموا المدينة بالدين والحُسنى".
ويقول خير طبري، المولود عام 1972: "تعلَّقتُ بجدي الشيخ طاهر، فقد ترك بصماتٍ كثيرة، وعُرف بمواقفه الجريئة والوطنية، وقد ترأس الجمعية الإسلامية المسيحية وشارك في مؤتمرات فلسطينية وعربية في فلسطين.
ومِن أبرز مآثره قصصٌ "قصة الفاتحة"، التي رواها كثيرون مِن أهل الناصرة ممن عايشوا النكبة وما بعدها فقالوا: "قرّرت شركة "الكيرن كييمت" الصهيونية عصرنة المدن الفلسطينية، وبينها الناصرة، فشاءت أن تُدخل خطوط المياه إلى البيوت، ومِن أجل ذلك دعت إلى احتفالٍ وإلقاء كلمات شارك فيه أعيان البلد وممثلون عن الحكومة الإسرائيلية ومندوبو الشركة، ودُعيَ أيضًا الشيخ طاهر الطبري، وكان ذلك في أوائل الخمسينيات، وراحت الكلمات تُتلى، وانتفخ البعضُ بالتبجح والتلوُّن أمام الحاكم، لكنَّ الشيخ طاهر ظلَّ يؤجِّل كلمته حتى أنهى الجميع خطبهم، فوقف قائلاً: "ماذا بقيَ لي أن أقول؟! واكتفى بقراءة الفاتحة، وقد أدرك الجميع أنه "يقرأ الفاتحة على ضياع الناصرة وطبريا وسائر فلسطين".
عائلة الطبري في الشتات
يتألم الحفيد خير الدين الطبري وهو يتحدث عن عائلته التي لا يزال جميع أفرادها الكبار والصغار لاجئين في الشتات، أكان ذلك في الأردن أو سوريا أو الكويت أو أوروبا وأميركا وسائر دول العالم، ويربط خير الطبري وفاة جده طاهر وهو لا يزال صغيراً، ووفاة عمه باحتلال طبريا، فالشيخ طاهر لم يقوَ على تحمُّل المأساة وفراق أشقائه وعائلته، فظلَّ يشعرُ بالقهر حتى رحل في العام 1959.
أما العم خير طبري فيقول عنه ابنُ أخيه الذي أُسمي على اسمه: "كان مِن المجاهدين ولم يَهُن عليه أن يرى طبريا تسقطُ، وحين طُلب من الثوار أن يسلموا أسلحتهم، أطلق الرصاصات في رأسه، فسقطَ شهيداً".
ويضيف خير الدين: "ظلَّ الشيخ طاهر يكافح في المحاكم الإسرائيلية بشراسة حتى استرد أملاكه مُسقطاً قانون "الحاضر الغائب"، وأنا أسيرُ على دربه، ولا زِلتُ حتى اليوم أتابع ملفاً عمره عشرات السنين، وسأسترد كُلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أملاكنا في طبريا".
رائدة طاهر الطبري
كانت رائدة ابنة الشيخ طاهر الطبري في الثالثة يومَ انتقلت بها العائلة إلى مدينة عكا، وهناك تعلَّمت في الصف التمهيدي قبل أن تنتقل العائلة إلى الناصرة.
وفي الناصرة كان الارتباطُ الأوثق الذي ظلَّ قائماً حتى العام 1971، حين تزوجت، وتركت الناصرة، لكنَّها ما تزال مرتبطة بمدينة الناصرة بالروح، وهي تشتاقُ إلى طبريا، ديار الأهل.
وتقول السيدة رائدة: "مؤخرًا زارتني ابنة أختي ريم التي تسكُن في أميركا، وقد سِرُت معها في كل زاويةٍ مِن زوايا طبريا: أحجارها، وتُرابها، وأنقاض بيوتاتها، فعدتُ بالذاكرة إلى الماضي، بيت جدي لأمي، وهي لم تزل تجاور دير التيراسانطة، أما سائر البيوت فقد أُقيمَ فوقها مستشفى "بوريا"، كما أذكُر البيوت التي احترقت، وسُوِّيت بالأرض".
وتضيف: "كانت أمي حين تشعرُ بالتعب في الناصرة تأتي إلى مدينتها لتستحم في حماماتها المعدنية، فتشعرُ بأنها استردت روحها.
وظلَّت والدتي تتمنى عودتها إلى بيتِ أهلها حتى فارقت الحياة. أمَّا والدي فظلَّ يذبُل يوماً بعد يوم حتى أصبحَ عليلاً.
وحينَ زارنا عمي، صدقي الطبري بكى والدي طويلاً، أما عمي الذي فقد إحدى عينيه بعد أن فقد طبريا، فتمنى لو أنه لم يترك فلسطين".