معركة قصر الخوري وسقوط حيفا
22 نيسان 1948
في مثل هذا اليوم وقبل 75 عامًا انهارت مدينة حيفا على سكانها الفلسطينيين، اصحابها وبُنَاتها منذ قرون طويلة. تشتت شملهم، وتفرقوا في بقاع الارض نازحين، مشردين مطرودين لاجئين. قام محتلو المدينة بهدم كل ما بناه اصحاب المدينة عبر الأزمان، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل ازدهار حياتهم وتطورها. وحلّ محلّهم غرباء، مستعمرين مستفرسين. كلّ همّهم الاستيلاء والسيطرة والقمع والطمس وتغيير المعالم. لم تعد حيفا كما ارادها واشتهاها أهلها اصحاب البلاد. العزاء الوحيد أنّ من بقي فيها يُمسك بالجمر ويعمل من جديد على إعادة تشكيل المدينة، أو في الحدّ الأدنى بناء مجتمع المدينة وسط فضاءات من الممارسات السياسية والاقتصادية الصعبة والقاسية والمؤلمة.
إنّها حيفا، إنّها الجنّة كما كتب ابنها الشاعر المرحوم أحمد دحبور.
وبناء عليه، توجّه إلي عدد من الأصدقاء والمعارف وأبناء مدينة حيفا القاطنين فيها، والمهجّرين عنها قسريا، بعرض آخر لمعركة أخرى وقعت في المدينة عشية سقوطها بيد العصابات اليهودية. وأعتقد أن إحدى أبرز هذه المعارك، إلى جانب معركة الحليصة وبيت النجّادة، هي المعركة على قصر الخوري.
ولا بُدّ لنا قبل التطرُّق إلى تفاصيل المعركة وتداعياتها، أن أُقَدِّم موجزًا عن القصر(أيّ موقع المعركة) وعن أصحابه، وما حلّ به وبهم على مر الزمن.
عائلة "الخوري" لبنانية مسيحية مارونية من بلدة بكاسين. وصل أحد أبرز رجالاتها سليم الخوري إلى حيفا في سبعينيات القرن الـ 19. وكان في جيبه بعض المال فاشترى قطعا من الاراضي في مدينة حيفا، وفي مناطق الياجور والخرَيبة(جبل الكرمل) وقيرة وقامون والخضيرة وكركور وغيرها. وعمل في قطاع التجارة، وكان له حظ وفير في حصد اموال كثيرة، ما سهّل عليه التبرُّع بقطعة أرض لإقامة الكنيسة المارونية في المدينة، وأيضًا لبناء بيتٍ له عند منحدرات جبل الكرمل يُشرف على البحر . لم يكن البيت الذي بناه في 1906 عادياًّ، كان أشبه بقصر ضخم، فيه عشرات الغرف والصالات والشرفات. وتميّز بتصميمه المدمج بين الاوروبي والعربي والعصري. كان القصر آية في الفن المعماري في ذلك الزمن(انظر الصور). إلّا أنّ سليم الخوري وورثه تعرّضوا إلى تفشّي داء بيع أراضيهم لممثل الصهيونية "حانكين". فتمّ بيع أراضي الياجور ثمّ الخضيرة، عندما بدأت مصالح آل الخوري بالتزعزع. ولمّا لم يتمكّنوا من تسديد ديونهم، وضعت دائرة الاجراء يدها على القصر، فآضطرت العائلة إلى بيع منطقة الخريبة لشركة هخشارات هييشوف الصهيونية. وتمّ تحويل القصر إلى مقرّ لشركة القطارات الفلسطينية التي كانت تُدير خطي: الحجاز ورمزه (HR ) والانتدابي الفلسطيني ورمزه (PR ). وهكذا بدّدت العائلة ثروتها ولم يبقَ لها شيء. فغادر بعض أفرادها إلى لبنان قبل النكبة، وبعضهم عند وقوعها. وأطلق اسم العائلة على الشارع الممتد من غربي القصر وصولاً إليه. أمّا القصر نفسه، فبقي مهجورًا بعد سقوط المدينة وحتى هدمه في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وبناء مجمع تجاري مكانه باسم "مُجمّع الأنبياء".
وعودة إلى معركة القصر. ففي اللحظة التي اعلن فيها الجنرال البريطاني هيو ستوكويل قائد حيفا والمنطقة عن نيته بتنظيم عملية مغادرة قواته لحيفا، انقضّت الهاغاناه على معظم ثكنات وقواعد ومخازن الجيش البريطاني واستولت على السلاح والذخيرة والمعدات التفعيلية(بمعرفة وموافقة القائد، وإن لم يكن ذلك رسميا). وبدأت قوات الهاعاناه بقصف أحياء المدينة مثل حيّ وادي الصليب، الحليصا، وادي النسناس، البلدة التحتا، الحيّ الشرقي الواقع شرقي جامع الاستقلال... وكان هدفها هو إخلاء المدينة من سكانها، والسيطرة عليها بالكامل. فتحرّكت فرقٌ من المقاومين من أهالي حيفا الذين لبُّوا نداء الدفاع عن المدينة بالرغم من قلّة السلاح والذخيرة وقلّة التنظيم. بعضهم وصل الى بناية قصر الخوري وسيطروا عليها، وجعلوها مقرًّا لهم. والبناية واقعة على خط التماس بين الاحياء العربية وحي الهادار، وقريبا من حيّ وادي النسناس العربي. مقابلهم، تحرّكت قوات من الهاغاناه من طرف شارع الانبياء باتجاه القصر. وانهالت القذائف على القصر وعلى الشوارع المحيطة. لم يبق أحد من السكان في بيوتهم. كان الميناء يعجُّ بالنازحين خوفًا من الموت الذي شهدته شوارع وطرقات وادراج المدينة. حيث استعملت الهاغاناه مدافع الهاون والقت بقذائف صوتية، كما دحرجرت براميل المتفجرات والتي احتوت على مسامير ومتفجرات ومواد كيماوية مشتعلة كشلالات النار(كما وصفها ايلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"). بالإضافة الى تفجير سيارات مفخّخة في مواقع مختلفة من المدينة، ما دفع بالأهالي إلى البحث عن الأمان في أيّ مكان ريثما تهدأ الحالة. وهكذا بدأت الأحياء العربية القريبة من مواقع الاشتباك تشهد نزوحًا عنها. وبالرغم من قلّة الذخيرة والنقص فيها(جراء تلكؤ وتقاعس القيادات الفلسطينية والعربية على حدٍّ سواء)، ووصول أنباء تفجير قافلة السلاح التي قادها الشهيد الملازم محمد حمد الحنيطي في معركة موتسكين في 17 آذار 1948، إلّا أنّ المقاومين في قصر الخوري شكلوا سدًّا منيعًا أمام قوات الهاغاناه من اختراقهم. ولمّا علم وأدرك قادة الهاغاناه، وعلى رأسهم موشي كرملي قائد منطقة حيفا، بأن المعركة ستطول، أمر بإلقاء زجاجات حارقة ومتفجرات قوية فاشتعل القصر بالنيران وتوقفت المعركة.
بالمقابل كانت اللجنة القومية العربية تتفاوض مع الهاغاناه بوساطة ستوكويل(يا للعجب العجاب.. بدلاً من أن يوفر الحماية لأهالي المدينة، وبالرغم من قراره بمغادرة المدينة واخلاء معظم القواعد البريطانية فيها، تحوّل الى وسيط). لكن اللجنة القومية رفضت شروط الهاغاناه المذلة والمهينة. إذ، فرضت الشروط خنوع واستسلام المدينة وتسليم السلاح لـ "محرريها"، والإذعان لأوامر القيادتين السياسية والعسكرية اليهودية. وكان ذلك في 22 نيسان 1948. ومن بقي من أهالي حيفا العرب، لا يتجاوز عددهم الستة آلاف(من أصل سبعين ألفا تقريبا)، قرّر بعضهم مغادرة المدينة. وقامت قيادة الهاغاناه بتجهيز حافلات (بينها من كان تابعا لعرب من المنطقة)، وسيارات شحن لنقلهم الى الجهة الشرقية من المدينة. وكانت هذه هي الموجة الأخيرة من موجات ترحيل سكان المدينة، أصحابها الاصليين عنها. إذ تمّت عمليات ترحيل على مدى اربعة شهور تقريبًا عبر الميناء، حيث كانت هناك القوارب والسفن والزّحافات تقوم بنقل المهجرين/المُرَحَلين الى عكا وصور وصيدا وبيروت (في لبنان)، وحتى إلى بور سعيد (في مصر). ويحلو لبعض المتوهمين والمتأسرلين الترويج (إلى يومنا هذا) أنّ شبتاي ليفي رئيس بلدية حيفا اليهودي قد وصل إلى بوابة الميناء راجيًا من العرب عدم تركها. أين كان شبتاي ليفي منذ نزوح الموجة الاولى في شهر كانون الاول 1947؟ وأين كان اليهود جيران العرب طيلة هذه الفترة؟ لم نسمع حتى يومنا هذا أنّ يهوديًا واحدًا من أهل المدينة، أو من مستوطنيها قد آوى عربيا أو أقنعه بعدم الرحيل، أو أوقف تهجيره عن المدينة؟
75 عامًا مرّت على سقوط حيفا بيد محتليها الذين يتبجّحون بأنّهم حرروها، وأن الحكم العبري سيوفر لسكانها الأمن والأمان والعيش المشترك ... مِنْ مَنْ تمّ تحريرها؟
75 عاما مرّت على سقوط عروس البحر وعروس الكرمل بيد الغرباء المحتلين الذين عملوا ولا زالوا على تغيير معالم المدينة العمرانية. وأبرزها هدم أكثر من 70% من العمران العربي، وإقامة عمران حديث مكانه. بعد أن تم استغلال هذا العمران لايواء المهاجرين المستوطنين.
عملية الطرد في حيفا كغيرها من عمليات الطرد في فلسطين كانت مندرجة في خطة التطهير العرقي المعروفة بـ "خطة داليت". الطرد، والتفريغ، ثمّ الاستيلاء على البيوت والأراضي والعقارات بقوانين تمّ تشريعها لخلق حالة قانونية في اسرائيل، والظهور امام العالم بغطاء شرعية هذه القوانين. والعالم، أيّ الدول التي اعترفت باسرائيل، لم يعمل منذ 75 عامًّا على تطبيق حقّ العودة وبضمنه عودة الممتلكات والأملاك. وهذا حق لا تنازل عنه.
تمّت إبادة الانسان والمكان والاسماء. فالأسماء تمّ ترحيلها أيضًا، واستبدلت بأسماء عبرية وتوراتية وصهيونية. (تمّ تبديل قرابة 80% تقريبا من الاسماء على مدى 75 عامًا). واختفى المكان الفلسطيني عن العين، وحلّ المكان اليهودي- الاسرائيلي- الصهيوني.
• نُضيءُ شمعةً عن أرواح شهداء المدينة الذين نعرف أسماء بعضهم، ونعرف قصصًا عن بطولاتهم دفاعا عن المدينة التي عاشوا فيها ومن أجلها.
• حيفا، المدينة والتاريخ والتراث تحمل وجعًا وألمًا في القلب والفكر. وما بقي منها هو الذاكرة التي يحملها كلّ فلسطيني عن مدينته، بما فيها مدينة "حيفا".
من صفحة جوني منصور