مأساة عائلة مقدسية
روما -أيمن أبوعبيد:
تخيل نفسك وأنت تقرأ هذه السطور وإذا بجنود مدججين بالسلاح يقتحمون منزلك ويقذفون بك في العراء، وعندما تكلمت منددا بفعلتهم غرموك آلاف الدراهم، وكي يضاعفوا تعذيبك جعلوك تشاهد بأم عينك كيف يعيثون فساداً في دارك، التي كانت حتى البارحة ملكاً لك وأصبح محرماً عليك الاقتراب منها .
هذا ليس ضرب خيال أو مشهداً من فيلم، وإنما حقيقة حدثت لغيرك ، غيره وغيرهم، وتقع الأحداث نفسها يومياً لهم مع تغيير طفيف في التفاصيل، وربما كنت أيضا ضحية هذه الأحداث إذا كنت تعيش في
القدس وإذا كانت “إسرائيل” هي التي تحتل مدينتك . وما تخيلته أنت في السطور أعلاه هو كابوس تجسد على أرض الواقع وتعرضت له سيدة في الستينات من العمر، لم يتبق لها من الحياة سوى منزل حجري وزوج مقعد فوق كرسي متحرك، فأرادت “إسرائيل” أن تحرمها من زوجها المشلول فقتلته بجلطة قلبية، وأرادت أن تحرمها من منزلها فنهبته منها، وأرادت “إسرائيل”أن تحرمها من أولادها فقضت محكمة الاحتلال المجحفة بمنع أولادها من مشاركتها الحياة داخل بيت عائلي واحد .
وأمام هذه الإرادة غير المتكافئة، لم تجد المرأة الستينية التي لا حول لها ولا قوة لمقاومة كيان وجيش سوى أن تنصب خيمة أمام منزلها، فماذا كانت ردة فعل الكيان؟ هجوم بقوة عسكرية يتجاوز عددها ثلاثة آلاف جندي وتطويق للخيمة وإزالتها، لتبقى المرأة بين الحجارة على قارعة الطريق، من دون أن ترفع راية الاستسلام، الأمر الذي أغضب المحتل، فرغم أن جنوده سلبوها كل شيء فإنهم لم ينجحوا في مصادرة كرامتها وعزتها وإصرارها على استرداد حقها .
“الخليج” التقت أم كامل الكرد، أثناء وجودها في روما ملبية دعوة الجمعية الخيرية في إيطاليا لمناصرة الشعب الفلسطيني كي يتعرف الأوروبيون حقيقة الانتهاكات “الإسرائيلية” بحق المقدسيين من خلال مأساة أم كامل، المرأة التي ولدت في القدس عام ،1952 وتزوجت في منزلها بحي الشيخ جراح، الذي أنجبت فيه خمسة أبناء وشهد على ولادة ستة عشر حفيداً .
احتيال وتواطؤ
عن بداية المأساة تحكي أم كامل وقائعها ل”الخليج”: “في عام ،1999 قررت ترميم منزلي المقسوم إلى قسمين، قسم يسكن فيه أولادي وذريتهم وقسم لي أنا وزوجي، وبعد أن تمت عملية الترميم، حضر إلى المنزل شخص اسمه “عزرا” ادعى أنه من البلدية ويحتاج إلى أوراق الملكية للتخليص الضرائبي، فأعطيته ما طلب، وبعد أسبوع وكان يوم عيد الفطر، فوجئت باستدعاء من المحكمة “الإسرائيلية” في الساعة الثامنة صباحا يطلب منا المثول أمام القاضي في ظهر اليوم ذاته، من دون شرح الأسباب، ولأنه يوم عيد لم نستطع أن نجد محامياً متفرغاً يرافقنا إلى المحكمة، فذهبنا بمفردنا وهناك كانت الصدمة، إذ وجدنا الشخص الذي زارنا قبل أسبوع منتحلاً صفة موظف البلدية واكتشفنا انه نصب علينا، فهو ليس موظفاً وإنما مستوطن ينتمي إلى إحدى الحركات المتشددة” . أضافت: “جن جنون أولادي حين قال القاضي لنا أن نجد صيغة تفاهم حول ملكية المنزل مع هؤلاء المستوطنين، وكان التفاهم المطلوب هو تنازلنا عن منزلنا مقابل مبلغ من المال، فرفضنا واحتد النقاش بين أولادي والمغتصبين المستوطنين، فحكم القاضي علينا بمغادرة قسم المنزل الخاص بأولادي وترك المفتاح لدى المحكمة إضافة إلى تغريمنا 120 ألف “شيكل” (مايعادل 112 ألف درهم)، كما قضت المحكمة بمنع أولادي من البقاء في المنزل خلال الليل، وأن يقتصر وجودهم أثناء النهار، وفي حالة مخالفة الحكم ندفع غرامة ألف “شيكل” عن كل ليلة ينام فيها أحد أولادي عندي” .
وهكذا أصبح ممنوعا على أم كامل بين ليلة وضحاها وبقوة قانون عنصري أن تدخل نصف منزلها وتكبدت بلا وجه حق غرامة باهظة، غير أن الأمر على مرارته لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد عامين وأثناء وجود أم كامل برفقة زوجها المقعد في المستشفى، حيث يعاني أمراضاً مزمنة وإذ بجارتها تتصل بها وتخبرها بأن مستوطنين اقتحموا القسم المغلق وأنهم يحتفلون فيه الآن . حول ذلك تقول أم كامل “عدت بسرعة إلى المنزل وفوجئت بهم في القسم الخاص بأولادي الذي من المفترض أنه مغلق بأمر المحكمة وأن مفاتيحه لديها لحين البت في الحكم، فرفعنا قضية على المستوطنين الذين استولوا على المنزل، ولكن بسبب أن القانون “الإسرائيلي” ينفذ أمر الطرد بعد مرور عام على الاستيلاء، لم نستطع أن نخرجهم إذ إنهم كانوا يتناوبون في ما بينهم على الإقامة في منزلنا لمدة أقل من عام، وهكذا كلما حصلنا على أمر طرد أحدهم كنا نفاجأ بأسرة جديدة تستوطن المنزل، فنعاود الكرّة ونطالب بإخراجها، وعشنا في هذه الدوامة لمدة ست سنوات متواصلة من دون جدوى” .
ترهيب صهيوني
ولأن الظلم لا حدود له، لم تكتف هذه الشرذمة من المستوطنين بالاستيلاء على نصف المنزل، بل تعدته إلى انتهاج أسلوب التعذيب والترهيب للمرأة المسنة وزوجها المقعد، محاولين توريطهما في قضايا جنائية . تحكي أم كامل عن نماذج من هذه الممارسات: “هجموا علي في المنزل ذات يوم في وضح النهار وكانوا ستة مستوطنين مسلحين، فالتجأت إلى ربي ليخرجهم، وأصبت على إثر هذا الاقتحام باكتئاب نفسي استمر علاجه لمدة عامين، وفي يوم آخر قام مستوطن مهاجر من أمريكا بوضع قطعة سلاح تحت شرفة بيتي، وطبقا للقانون “الإسرائيلي” فإنه ينص على معاقبة الفلسطيني الذي لديه سلاح في منزله بأن يهدم المنزل أو يسجن صاحبه مدى الحياة، فابتعدنا عن القطعة ولم نحاول لمسها وهي موضوعة لمدة يومين تحت شرفتي، وعندما يئس المستوطن من أن ألمسها وتوضع عليها بصماتي، عاد أدراجه وأخذها، وفي واقعة ثالثة قامت إحدى العائلات التي استوطنت المنزل، بمغادرته لمدة ثلاثة أيام تاركة الباب مفتوحا على مصراعيه، وليس من قبيل المصادفة أن الشرطة التي تتفقد أمن الأسرة كل نصف ساعة في العادة، اختفت هي الأخرى طوال الثلاثة أيام، وكأنهم اتفقوا على هذا السيناريو لكي يتم توريطي في حالة دخولي إلى البيت الذي هو منزلي في الأساس، ولكني كنت حذرة فتجنبت حتى أن أضع يدي على مقبض الباب لأغلقه كي لا يتهموني بجناية ويستغلوا بصماتي على المقبض في ذلك الاتهام، وهناك الكثير من المكايد التي حاولوا إيقاعي فيها، ناهيك عن الأذى، مثل إغلاق مصارف منزلي بسدها من الخارج بمواد لا تسرب المياه، أو جلب حافلات لأطفال المستوطنين للعب في باحة منزلي وإصدار ضوضاء تزعج زوجي المقعد، ثم يتركون بقايا أكلهم ومخلفاتهم لأقوم بتنظيفها” .
ملايين الدولارات للتنازل عن الحق
وهكذا عاشت أم كامل زهاء عقد من الزمان في هذا الجحيم، وعندما أيقنت “إسرائيل” أن طغيانها لم يزد المرأة الستينية إلا تمسكا بحقها، بدأ المستوطنون يتحولون من سياسة الترهيب إلى الترغيب في التعامل معها، تقول: “عرضوا علي مبلغ عشرة ملايين دولار فرفضت وقلت لهم باللهجة الفلسطينية: اللي جري واللي مشي، ما ناله من الدنيا إشي، إلا القطن والكفن والقبر صندوق العمل” . مضيفة “حاولوا تكرار العرض وفي كل مرة يرفعون السعر، حتى إنه حضر إلي وزير سياحتهم وعرض علي مبلغ 15 مليون دولار، فكررت رفضي، وهذه المرة، ردوا على تشبثي بحقي بأن طوقوا الحي بفرقة عسكرية لا يقل عددها عن 3000 جندي، ودهموا منزلي فجرا، وكنت أنا وزوجي المقعد وحدنا، لنفاجأ باقتحام أكثر من خمسين جندياً وثلاث مجندات غرفة نومنا، وألقوا بنا في العراء، فأصيب زوجي بجلطة إثر هذا المشهد، لكن إجرامهم لم يتوقف عند هذا الحد، بل تمادوا إلى درجة منع سيارة الإسعاف من دخول الحي لنقل زوجي إلى المستشفى . بينما قام فريق منهم بإفراغ البيت من محتوياته ومصادرة أثاثه” .
خيمة أمام المنزل
بعد هذا التصعيد الهمجي، وما أصاب أم كامل، أصبحت المرأة وحيدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحاول جيرانها أن يقفوا إلى جانبها، وعرض الأهل عليها الاستضافة في منازلهم، لكنها أبت أن تبرح أرض منزلها، فنصبت خيمة مقابل البيت واعتصمت فيها . حول ذلك تقول أم كامل: “بمساعدة الأهل والأصحاب قمنا بنصب خيمة مقابل منزلنا الذي اغتصبوه، لكن قوات الاحتلال طوقت المنطقة وكأنها في عملية عسكرية معقدة، من أجل هدم الخيمة البسيطة التي أقمنا فيها، ولم يتحمل زوجي هذا الأمر، فأصيب بجلطة على إثرها وتوفاه الله، ليموت بالملابس التي كان يرتديها أثناء هجومهم على المنزل وطرده بكرسيه المتحرك منه” . مضيفة “عاودنا نصب الخيمة، فعادوا وهدموها، وتكررت هذه العملية ست مرات، ننصبها فيهدمونها، وفي نهاية الأمر هددوا الأخ صاحب الأرض التي كنا ننصب فيها الخيمة بأنهم سوف يصادرونها إن سمح لي أن أنصبها للمرة السابعة، فارتأينا ألا ننصبها منعا للضرر، وقمنا بالانتقال إلى خيمة أخرى كانت قد نصبتها عائلة فلسطينية في باحة منزلها بعد أن استولى المستوطنون على قسم من بيتها، وحالياً نعتصم مع عائلات أخرى في هذه الخيمة . وينضم إلينا يومياً العائلات التي يتم تهجيرها من بيوتها قسرياً” .
“الحوض المقدس”
وبسؤالها عن دوافع الاحتلال إلى تهجير سكان حي الشيخ جراح تحديداً، تجيب “التهجير بدأ منذ عام 1948 ولم ينته إلى الآن، فالشعب الفلسطيني يتعرض للتهجير بوسائل خاصة وفردية حتى داخل المدينة الواحدة، من خلال طرق ملتوية ناعمة أحيانا وقاسية أحيانا أخرى، تهجير يتم من خلال تزوير ممتلكات، مصادرة أراض، هدم منازل وما شابه، وما نتعرض له في القدس أحد أشكال هذا التهجير، يضاف إليها خصوصية القدس، إذ إن الاحتلال قسم القدس إلى قسمين، قدس شرقية التي احتلها عام 1967وقدس غربية والمحتلة منذ عام ،1948 يفصل بينهما شارع واحد وهو الشارع الذي يفصل حي الشيخ جراح الذي يتبع القدس الشرقية عن القدس الغربية، لهذا يسعى الاحتلال إلى الاستيلاء على حي الشيخ جراح وبناء 250 وحدة استيطانية تحت مسمى الحوض المقدس ل”إسرائيل”، وهكذا تتمكن دولة الاحتلال من فرض نفسها على الأرض وتحرم الشعب الفلسطيني من العيش في سلام بما تبقى له من القدس” .
وحول جدوى اللجوء إلى المحكمة “الإسرائيلية” تقول: “نحن نعمل على تأكيد ملكية الحي، ولدينا الوثائق التي تثبت أن حي الشيخ جراح هو وقف إسلامي أقره سعد الدين الجراح منذ عام 1200 ميلادياً . صحيح أن الاحتلال يحمي المستوطن ويدعمه، ولكن دائما صاحب الحق هو الأقوى بغض النظر عن أساليب الآخر ووسائله، فالحق موجود ولا أحد يستطيع أن ينكره، وأنا متفائلة و مؤمنة أن هذا حقي أمام نفسي وأمام الناس ومن قبلهم أمام رب العالمين” .
وبسؤالها إن كان قد أصابها الخوف منهم وهي تحاول أن تظهر حقيقتهم للعالم الحر، تجيب “أنا لا أخاف إلا من رب العالمين، وأقول ما أريده في وجه أعتى صهيوني، فلا يقطع الرأس إلا من ركّبه، ولا ينهي العمر إلا من بدأه، فالله وحده هو من يقدّر مصيرك وليس الكلام من يقتلك، أنا عندما أتكلم أعبر عن رأيي وما أقوله هو رأيي في ما أراه وفي ما أحياه من حياة مؤلمة واحتلال مرير، أنا لا أكره أحدا، لا أكره اليهود أو غيرهم، لا أكره أي دين أنزله رب العالمين ولكني أمقت الاحتلال “الإسرائيلي” الذي نهب حقوقنا، وأنا أريد حقي ولا أطلب أكثر من حقي، حقي في النوم في داري، في أرضي، في وطني ووطن أجدادي حالي حال أي انسان على هذا الكوكب” .
وتنهي أم كامل حديثها ل”الخليج” برسالة توجهها إلى العرب والمسلمين: “أحب أن أقول للعرب والمسلمين، أن ينقذوا بيت الله أولا، ففلسطين ليست مقدسة بسكانها أو مبانيها، فلسطين بقيمتها ومكانتها العقائدية والدينية، والاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة اتفقا على ذل الإسلام وطعن المسلم في معتقداته، وطالما بقي بيت المقدس تحت وطأة الاحتلال، فإن كل الشعوب العربية والإسلامية محتلة في مكانتها وذليلة في دينها، فحرروا أنفسكم بتحرير بيت الله . فما دام الأقصى مقيداً سنظل مقيدين”
جريدة الخليج - 10/07/2012