جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
كانت معادلة واضحة منذ اليوم الأول من النكبة: إن اقتلاعنا من أرضنا يجب أن يتم، فإن لم يحدث فيجب أن يقضوا على "هويتنا العربية الجماعية"! لم تكن قضية صراعنا على بقائنا وحدها، بل الحفاظ على هويتنا الثقافية ومنع المحاولات الإسرائيلية لاقتلاع جذورنا من أرضنا العربية.. هذا الصراع الذي لا يزال على أشده حتى لحظة كتابة آخر سطر في تقريرك هذا!" كانت كلمات المختص في شئون فلسطينيي الأرض المحتلة عام 48، نظير مجلي أكبر تلخيص لمأساة الصراع الثقافي بين المحتلين وأصحاب الأرض.. "سحق الهوية" عام 1948 تغيرت إلى الأبد حياة 150 ألف فلسطيني قرروا البقاء على أراضيهم المحتلة من قبل الإسرائيليين: لم يكونوا لاجئين، فهم في مدنهم وقراهم التي سكنها أجدادهم منذ مئات – بل وربما آلاف السنين، لكنهم خضعوا تحت حكم عسكري إسرائيلي قاس، كان واحداً أشنع من كل العهود التي مرت بها هذه الأرض! يقول مجلي لـ"فلسطين": " بقينا تحت الحكم العسكري الإسرائيلي ثماني عشرة سنة، كانت أسوأ حتى من الحكم العسكري المفروض على الضفة الغربية الآن: كنا أشبه بـ"مساجين" في سجون فسيحة الأرجاء هي مدننا وقرانا. كنا ممنوعين من السفر للخارج للتعليم مثلاً، أو حتى للعمل خارج محل سكنك إلا بإذن خاص من السلطات. بل حتى إن التنقل خارج مدننا وقرانا العربية كان ممنوعاً علينا إلا بموافقة حكامنا العسكريين!". كانت "أذونات الخروج"، كما يقول مجلي، تشكل أحد أخطر طرق "ابتزاز" السلطات العسكرية الإسرائيلية وقتها للمواطنين الفلسطينيين، وقد تصبح مجالاً للمساومات من أجل إجبار العديد من طالبي هذه الأذونات على "التعاون" مع السلطات الإسرائيلية بشكل أو بآخر. لكن السلطات الإسرائيلية لم تكتف بذلك، إذ إنها كانت تريد تدمير أهم وأخطر ما يمتلكه هؤلاء الباقون من الفلسطينيين على أرضهم: هويتهم الثقافية والحضارية، وهو المخطط الذي بدأ بعد عامين فقط من النكبة. يتابع مجلي الذي يقطن مدينة الناصرة شمال فلسطين المحتلة: " عام 1950 قررت الحكومة الإسرائيلية "منع تعليم اللغة العربية" في مدارسنا وبشكل قطعي! لقد كانت المسألة "نوعاً من التهويد القسري لنا" عبر فرض التعليم باللغة العبرية وحدها. وقتها خرج جميع فلسطينيي 48 في مظاهرات حاشدة لم تنته إلا عند إلغاء هذا القرار. كان نصراً محدوداً بالنسبة لنا في معركتنا طويلة الأمد للحفاظ على الثقافة، وفي ظل أوضاعنا الكارثية..". عندما نتأمل واقع فلسطينيي الأرض المحتلة عام النكبة، فسنجد معطيات مخيفة: لقد هاجر الأغنياء والمتعلمون والمثقفون ورجال الدين تاركين وراءهم الفلاحين في قراهم، بالإضافة إلى عدد محدود من سكان المدن التي فرغت جل أحيائها من سكانها الأصليين، مما يعني أن الطبقتين الأوليين المسئولتين عن تشكيل الوعي الجماعي لدى أي جماعة كانتا – ألا وهي المتعلمون ورجال الدين- قد غابتا فعليا عن هذه "المعركة"، واحتاج الأمر لسنوات طوال كي يعاد تشكيلهما من أفراد جدد، بدلا من أولئك الذين هُجِّروا من ديارهم. عند هذه النقطة، يعقب مجلي بالقول: " لقد كنا مقطوعين تماماً عن العالم العربي، بل هناك من اتهمنا بـ"الخيانة" لأننا بقينا على أرضنا، لكننا تجاوزنا ذلك كله، ورحنا نبحث في نهم عن أي مطبوع باللغة العربية يمكننا جلبه من خارج الحدود لقراءته، سواء أكان صحيفة أو كتاباً علمياً أو مجموعة قصائد شعرية. ولقد نشأ في رحم هذه المعاناة أعظم الأدباء والكتاب العرب في الداخل الفلسطيني، وعلى رأسهم الشاعر محمود درويش وإميل حبيبي وتوفيق زياد وسميح القاسم ومحمد علي طه..". لم تكن الطريق مفروشة بالورد أمام هؤلاء "المثقفين" الذين وقع عليهم عبء الحفاظ على وعي أبناء شعبهم، والحفاظ على الهوية الثقافية، بحكم أن "المثقف الحقيقي هو الحارس الأول للمكنون الثقافي لشعبه": إذ إن سياسة "سحق" الهوية الثقافية العربية لم تكن مجرد "اقتراحات أو قرارات" من وزير أو مسئول إسرائيلي ما، بل كانت "سياسة" ممنهجة ومؤطرة على أعلى المستويات داخل (إسرائيل)، التي واظبت بانتظام على تصوير نفسها كـ"واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"! واستمرت المعركة "صراع الإرادات" حتى اليوم.. شبابنا.. عام 2012! يقيم نتائج المعركة الثقافية هذه المرة بين الجانبين مختص آخر في شئون الفلسطينيين المقيمين داخل أرض 48، وهو الشيخ عباس زكور القاطن بمدينة عكا، التي يقطنها 50 ألف شخص، عشرون ألفاً منهم فقط من الفلسطينيين، يقول لـ"فلسطين":" إننا نحيا الآن في مدينة "مختلطة" يحيا فيها العرب واليهود، إلا أننا حافظنا على هويتنا الثقافية ولم نسمح لهذا الواقع أن يجعلنا نتماهى و"نخسر" ثقافتنا العربية والإسلامية". إن الأقلية الفلسطينية العربية في الأراضي المحتلة عام 48 – والكلام هنا لا يزال لزكور- واجهت واقعها الصعب ببسالة نادرة، واستطاعت حفظ "هويتها" اللغوية والثقافية عبر بناء مدارسها التي تقدم مناهجها الخاصة. يتابع زكور قائلاً: " ستجد أن هنالك برامج تتبع للحركات القومية والوطنية والإسلامية للحفاظ على هويتنا، حيث تقوم هذه الأطراف بواجبها تجاه هذه القضية من خلال فتح النوادي وإقامة المكتبات وتنظيم المحاضرات ليعرف شباب اليوم جوانب حضارتهم العربية والإسلامية التي ينتمون إليها، وإحياء المناسبات الدينية المختلفة كذكرى الإسراء والمعراج مثلا!". والسؤال الفيصلي الذي يطرح نفسه في هذا التقرير: هل يتمتع الشباب الفلسطيني اليوم بهوية ثقافية عربية توازي تلك التي يتمتع بها نظراؤه في المحيط العربي الذي يحيا به؟ لقد كانت إجابة كل من مجلي وزكور "متطابقة" بهذا الشأن وإن اختلفت كلماتهما، إذ يقول مجلي:" إنني أرى أن شبابنا الفلسطيني يحافظ على هويته القومية والثقافية بأفضل مما تفعل الأقليات العربية في أي منطقة من أنحاء العالم، ويمكنك أن تقارن ذلك من خلال الأقلام المميزة والفنانين الرائعين الذين هم نتاج هذه "الثقافة العربية"، وقد كان هؤلاء هم الصوت الفلسطيني من داخل (إسرائيل) الذي استطاع خدمة أبناء جلدتهم في مختلف أنحاء العالم عبر الحديث صراحة وبصوت عال عما ارتكب من جرائم بحقهم مثل العدوان على غزة". أما الشيخ زكور، فيجيب بقوله: " لو كنت في عكا أو غيرها من مناطق الداخل، لوجدت أن من قام بفعاليات النكبة لهذا العام في معظمهم من جيل الشباب! الذين ظن منظرو الصهيونية أنهم سيقضون على هويتهم العربية بعد ثلاثة عقود على الأكثر، عبر برامج "غسيل الأدمغة" و"المحو الثقافي" المستمرة من قبلهم، لكن النتيجة أبهرت أصدقاءنا وأعداءنا على السواء: إن شبابنا لا يزال ينبض عروبة.. ليس هذا فحسب!". ويتابع زكور: " في عكا يزيد عدد طلبة المرحة الابتدائية العرب عن نظرائهم اليهود بفارق كبير، إذ يوجد 1500 طالب فلسطيني، مقارنة بـ1200 طالب يهودي فقط، رغم أننا نمثل 40% من سكان المدينة فقط! كما أن لدينا أكثر من 250 طالبا بمدرستي "الفرقان" و"حراء" القرآنيتين بعكا، بالإضافة إلى دور المساجد في توعية مختلف شرائح مجتمعنا..". ويستطرد زكور بالقول: " رغم مرور ما يقرب من ستة عقود نصف على الحكم الإسرائيلي، فإننا لا زلنا نحافظ على هويتنا القومية والإسلامية، ولم يخسر منا هويته العربية سو قلة قليلة لا تذكر. إن سلاحنا في المرحلة المقبلة هو هويتنا العربية والإسلامية، والتي يدرك دعاة الصهيونية جيدا أنها أكبر خطر يواجه فكرهم العنصري، كما أنهم كثيرا ما تحدثوا عن وجودنا العربي كـ"قنبلة موقوتة" لا يعلم أحد متى ستنفجر بهم..".
المصدر: فلسطين أون لاين