قليلة هي البلاد التي يبحث كل أبنائها عن دور لخدمة الوطن، لكن فلسطين التي لم تعُد بلداً فحسب، بل صارت قضية شخصية لدى كل أبنائها مهما تناءوا وابتعدوا..
والفلسطيني، مهما ابتعد أفقياً، تبقى فلسطين بوصلته. ومهما ارتقى وسَمَق يظل حلم العودة إلى جذوره يشغل فكره، وقد وجدت هذا شخصياً من كثرة ما يوصِيني المهاجرون على الكوفيات والثياب التراثية لأبنائهم وأحفادهم.
عبد الرحمن الكيالي من الذين ارتقوا في سلّم الدبلوماسية والوظيفة الحكومية الأردنية، إلى أنه أصرّ على عدم ترك واجبه الفلسطيني، بما يستطيع وبما يحب.
كان الكيالي من أوائل الذين تصدّوا لدراسة الشعر الفلسطيني ومضامينه الثورية، فكان كتابه المؤسس "الشعر الفلسطيني في نكبة فلسطين" الذي درس تاريخ الأدب الفلسطيني في تلك المرحلة. ثم صدرت كتب أخرى بعده، مثل كتاب "الشعر المقاتل في الأرض المحتلة" للشاعر هارون هاشم رشيد، و"دراسات في شعر الأرض المحتلة" لعبد الرحمن ياغي..
والدكتور الكيالي، رغم أنه أصبح دبلوماسياً أردنياً، إلا أنه كباقي فلسطينيي الأردن، تبقى فلسطين هاجسه، وبوصلته ومعيار الوطنية عنده. فهو حين عُيّن مستشاراً ثقافياً في السفارة الأردنية في الجزائر، انتسب إلى الدراسات العليا في جامعة الجزائر وحصل على دبلوم الدراسات العليا عام 1970، وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب عام 1973 (كانت ما تزال أحداث أيلول الأسود 1970 ـ 1971 ساخنة في ذلك الوقت)، وكان عنوان رسالته "الشعر الفلسطيني في نكبة فلسطين 1948 ـ 1967". ثم بعد تقاعده عمل مدرّساً في جامعة قسنطينة الناشئة حينئذ، وظل في الجزائر 15 عاماً حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
قبل التعريف بالشاعر نشير إلى أن عائلته منتشرة في البلاد العربية نظراً لأصولها النجدية، بل هي عائلة أشراف يصل بهم النسب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم عن طريق الحسين بن علي رضي الله عنه (نقلاً عن صفحة العائلة).
من هو الشاعر عبد الرحمن الكيالي؟
ولد شاعرنا في مدينة الرملة (وقيل في اللد، حيث تنتشر العائلة) عام 1916. درس المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة الرملة الحكومية، ثم انتقل إلى القاهرة ودرس أربع سنوات (1928 ـ 1931) في معهد القاهرة الثانوي التابع للأزهر الشريف. بقي في مصر لمواصلة تعليمه العالي فحصل على ليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة 1936. وفي ذلك العام فاز بالميدالية الذهبية للشعر، وقال عنه الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي بعد سماعه لقصيدته "الوحدة العربية الكبرى": (قولوا لصاحب الرائية إنه شاعر المستقبل الأكبر). كما كتبت عنه مجلة اللطائف المصورة بمناسبة فوزه بالميدالية الذهبية 1936 .
نشر شعره في الصحف العربية مثل الأهرام المصريّة، والآداب اللبنانية، واللواء الفلسطينية، ولم يجمعه كاملاً في ديوان. له دراسات أدبية في تاريخ الأدب العربي والشعر الفلسطيني ومقالات ومحاضرات نقدية كتبها في يافا خلال سنوات 1935 ـ 1936.
اشتغل بالتدريس في القدس والخليل بفلسطين الانتدابية. عيّن قاضياً شرعياً في يافا، وعمل نائباً لقاضي القدس الشرعي من 1947 حتى 1948، لكنه لم يمارس مهام وظيفته بسبب النكبة. بعد أحداث النكبة، لجأ إلى بغداد حيث عمل أيضاً في التدريس. ومن بغداد ذهب إلى حلب مدرساً في ثانوية المعرّي. ثم رجع إلى وطنه ودرّس في المدرسة الرشيدية بالقدس، ثم في كلية بير زيت، ثم في كلية الحسين الثانوية بعمّان، ثم في معهد المعلمين، وأصبح مديراً لدار المعلمين في حوّارة بإربد، ثم مفتشاً.
حصل على وسام الاستحقاق (القدس) للثقافة والآداب والفنون عام 1991. وتوفي في الأردن عام 1998.
مؤلفاته
في الدراسات الأدبية:
أهم مؤلفاته على الإطلاق: "الشعر الفلسطيني في نكبة فلسطين"، 1980. وقبله كَتَب "القريب في الأدب العباسي"، 1950. ثم أكمل جزأين آخرين وأصدر "الوافي في تاريخ الأدب العربي"، ثلاثة أجزاء، 1960. ثم "التأسيس في النقد الأدبي"، 1960. "معالم الأدب الأندلسي" مخطوط.. "أبو فراس الحمداني: حياته وشعره"، دراسة، مخطوطة. "حرية الفكر في الإسلام"، مجموعة مقالاته نشرها في "الجامعة الإسلامية".
وله في الشعر:
"الساحل الوضّاء"، مجموعة شعرية، 1993. "شاهد العصر"، مجموعة شعرية مخطوطة.
من شعره:
صباح العيد
الليل يزحف، لاهثَ الأنفاسِ مبتورَ الرجاء
وغداً.. سينطلق الرصاص مفجّراً فيك الدماء!
أطفالك الأيتام! من يرعاهم من بعد موتك؟!
أسرع وأوصِ فإنّ ظلّ اليُتم يمرحُ فوق بيتك!
***
وكَوَسْنةِ الغافي عَلى أَحلامِ آمالٍ سَعيدَهْ
مَرّت بِهِ الأطيافُ هادئةً الخُطى تَمشي وَئيدَه
كانوا.. عَلى أكتافِهِ يَتَلاعَبونَ ويَمرَحونَ
وَيُدغدِغونَ خُدودَه حِيناً، وَحَيناً يَعبثون
وَعَليهمُ الأمُّ الرؤومُ تَصُبُّ أطيافَ المَحَبَّه
وَتَضُمُّهم زَهراً عَلَيهِ غِلالةُ الأَنداءِ رطْبَه
***
في العيد.. في غَدِنا؟ سَنَرفِلُ في جَديدِ ثِيابِنا
وغداً سَنَسكُبُ فرحةَ الأعيادِ في ألعابِنا
لا تُبعِدِي هَذي الثِّيابَ! وقرِّبي هذي التُّحَف
كيما تَكونَ إذا الصباحُ أطلَّ -يا أمُّ- الهَدَفْ
وأَفاقَ!.. مذعوراً على الصَّوتِ الأجَشّ يُرَوّعُ
"أسرِعْ وأَوْصِ دَنا المَصيرُ وَعن قريبٍ تُصرع!"
وأضاءَ وجهٌ فيهِ أمواجُ البشائرِ تزخرُ
وافترَّ ثَغرٌ منه ينداحُ الشُّعاعُ النيِّرُ
***
ومشى الشهيدُ إلى الخلودِ وثغرُهُ مُتبسِّمُ
والقيدُ للحرّيّةِ الكُبرى فَمٌ يَتَرنّمُ!
واهتزَّ مُنتشياً على صَوتِ الرَّصاصِ يُدمدمُ
صَدْرٌ عليهِ مِنَ الدّماءِ وِسامُهُ المُتكلِّمُ
وَهَوى فَدَوَّتْ صَيحَةٌ حَمراءُ يَسقيها الدَّمُ
العيدُ أقبلَ أيُّها الأطفالُ؟!
فَالهوا وانعَموا
فليسقط المستعمرون، ومن بهم يستعصمُ!
وَلْتَهنأ الأجيالُ إنَّ قيودَها تَتَحطّمُ
من قصيدة: الساحل الوضاء
(قصيدة مليئة بالوصف وأحاسيس اللاجئ المنكوب، كتبها واصفاً ساحل فلسطين، من جبال الضفة الغربية، ونشرتها مجلة الآداب البيروتية في العدد التاسع من عام 1955، انظر الصورة)
هذي المشاعلُ في الشطوطِ مشاعلي .. والساحلُ الوضَّاءُ ذلك ساحلي
هي من دمائي تستمدُّ زيوتَها .. وضياؤُها من بسمتي وتفاؤلي
نَشَرتْ على الرملِ الحبيبِ شُعاعَها .. ورمت ظلالَ السحر فوق خمائلي
وتَبَسَّمت والشوقُ يُرسِلُ في دمي .. نَغَمَ الحنين إلى تراب الساحل
**
هذا الضباب وما أرقّ دثاره الـ .. منسوج من وهج الأصيل الذابل
متعاقِدٌ عندَ المساءِ كأنَّه .. قبَبٌ طُلينَ بأرجوانٍ سائِلِ
والشمس راعفة الجراح ذبيحة .. تمشي لمغربها بخطو ذاهل
ومبعثرٍ عند الصباح كما جرت .. إبلٌ تنفِّرُها سهامُ النابل
**
إني هنا فوق الجبال موطّئٌ .. قدميَّ أرقب موطني ومنازلي
أحيا بمرآها الجميل وأنتشي .. بعبيرها في بكْرتي وأصائلي
وأغازل البدر المطل كزورق .. للتبر يمطرها بنور وابل
وأمتِّع الطرفَ المَشوقَ لِمَلعبِ الـ .. غيدِ الأوانسِ تحتَ ظلٍّ رافلِ
وأشمُّ زهرَ البرتقالِ وأسمعُ الـ .. همسَ الخفيَّ من الغُصينِ المائلِ
وأعبُّ مِن ماءِ يصرُّ نميرهُ الـ .. منساب بين حشائش وجنادل
وأشارك الحسون في تغريده .. والقبَّراتُ رقصنَ فوقَ سنابلِ
هذي المشاعلُ في الشطوطِ مشاعِلي .. والساحل الوضّاء ذلكَ ساحِلي
ختاماً، لا أبالغ إذا قلت إن هذه القصيدة من أجمل ما قرأت في مجال الحنين إلى فلسطين وسواحلها، أعادنا الله إليها منصورين محررين غير مخذولين.. آمين.
المصدر: العربي21