مع كل متابعة لحال الفلسطينيين، إن في لبنان، أو في فلسطين، تبرز من جديد روابط وحدة، وتسقط معها مفاعيل التجزئة. آخر مكتشفات ذلك الترابط، واقع الحال بين بلدات زبقين الجنوبية اللبنانية، من جهة، والناصرة، وما يحيط بها من بلدات، وقرى فلسطينية، من جهة ثانية.
وقبل الوصول للرواية التي تم فيها اكتشاف عمق هذه العلاقة مجدداً، لا بد من الإشارة إلى أن زبقين تصحو على أصوات ديوك فلسطين، نظرا للمسافة القريبة التي تفصلها عنها، والتي تناهز السبعة كيلومترات.
وفي الروايات التاريخية للروابط الفلسطينية اللبنانية، التداخل في النسب، والقرابة، وصلات الدم والأرحام، وما يتفرع منهما من صلات، في تداخل الانتماءات، والهويات.
ويكاد الموقف يصبح ملتبساً فلا يعرف العنصر الفلسطيني من العنصر اللبناني في هذا الترابط، وكثيرون، وكثيرات يوصفون بأنهم "فلسطينيون لبنانيون"، أما البيوت فتتداخل لهجات أبنائها، وجدرانها مليئة بالصور من كلا الجانبين، وفي أرجائها العناصر المتبادلة التي تعبر عن وحدة الحال اللبنانية الفلسطينية.
ويزيد على ذلك ما بني تاريخياً من تقاليد، وعادات، وأمثلة مشتركة، منها على سبيل المثال، لا الحصر، قول أبناء زبقين: (برق الزيب ما بيخيب)، أي إذا أبرقت السماء من جهة "الزيب"، فالشتاء واقع لا محالة.
والزيب بلدة فلسطينية متاخمة للحدود اللبنانية التي فرضها الاستعمار الأوروبي، وكرسها، وحرسها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، علماً أن هناك الكثير من البلدات الفلسطينية، واللبنانية متقاربة جغرافياً، وتاريخياً، واجتماعياً، ويوم وقعت النكبة على رؤوس البلدات الفلسطينية، كان توجه أهاليها الأساسي شمالاً، لما عرف لاحقاً بلبنان، لكنها لم تكن كذلك قبل تجزئة مؤتمر بنرمان 1905، التي تكرست لاحقا بتجزئة سايكس - بيكو.
في بحثها المكثف، والمركز في العلاقات العائلية الفلسطينية التي تقوم بها مؤسسة "هوية"، عثر ناشطو المجموعة على صلات تقارب بين زبقين اللبنانية، والناصرة، وجوارها، في فلسطين، وقام وفد من "هوية" يقوده مسؤولها ياسر قدورة، بزيارة لزبقين، يحدوه ما اكتشفه الفريق من عمق علاقة بينها، وبين الناصرة عبر عثوره على هوية لمواطن لبناني هو علي نايف بزيع، وذلك سنة 2019.
الهوية صادرة سنة 1947، للراحل علي، وأعطيت له بسبب إقامته في الناصرة لبضع سنوات أربعينات القرن الماضي، مما يدل على تداخل العلاقات، فلم تكن للحدود أن تفصل أبناء المنطقة عن بعضها، ولم يبلغ الانفصال مرحلة متقدمة، فكان التنقل بين فلسطين، ولبنان أمراً اعتيادياً، وهذا كان واقع حال الحجاج الذين كانوا يحجون إلى القدس قبل سنة 1967 دون عوائق حدودية.
هوية
مدخل الاكتشاف الحديث الذي عثرت "هوية" عليه هو عائلة بزيع عبر عثور "هوية" على هوية شخص من زبقين هو الراحل علي نايف بزيع، فحاولت الوصول للعائلة، معتمدة الاتصال مع شاعر لبناني معروف من العائلة، وهو شوقي بزيع الذي أرشد "هوية" على العائلة.
كما وقعت هويات أخرى للعائلة بين يدي "هوية"، فكان كل ذلك حافزاً لزيارة العائلة في زبقين لفهم الموقف، وتمت الزيارة أول تشرين الأول/أوكتوبر الجاري.
يروي قدورة وصول "هوية" للعائلة، ويفيد أنه "بعد الاستفسار عن العائلة، ومعرفة موطنها، حرصنا على إرسال نسخة عن هذه الوثيقة لأفراد عائلة الراحل علي، المقيمين في زبقين عبر وسائل التواصل".
في عام 2021، يفيد قدورة، أن "هوية" وقعت على شهادتي هوية مماثلتين تخصان كلاً من محمود محمد بزيع، وحمد محمد بزيع، صادرتين في السنة عينها (1947)، فارتأينا أن نقوم هذه المرة بمحاولات للتواصل المباشر مع العائلة لإيصال الوثائق لأبناء أو أحفاد أصحابها".
بعد عدة محاولات، وأكثر من اتصال، تمكنت هوية من التواصل مع وسيم بزيع الذي أخبر قدورة أن حمد محمد بزيع توفي منذ بضع سنوات، والحاج محمود على قيد الحياة، وهو خاله.
بعد يومين انطلق فريق "هوية" من مدينة صيدا إلى زبقين، وكان وسيم في استقباله، وجرى لقاء في منزل الحاج محمود بزيع، وكانت بداية الحوار مع الحاج محمود حيث "وضعنا شهادة هويته التي تحمل صورته وهو شاب بين يديه، وسؤاله عن صاحب الصورة”، كما روى قدورة، متابعا: "إذ ذاك، علت ضحكته المصحوبة بتعابير الدهشة والإعجاب: "هذا محمود .. هذا أنا".
يذكر أن الحاج قد ناهز من العمر 97 عاماً، ولكنه كتلة من النشاط وذاكرته قوية بل حادة، بحسب ملاحظة قدورة.
دارت أحاديث بين الضيوف والمستضيفين، تناولت العلاقة التاريخية بين البلدين، بتفاصيل وعرض لأحداث وتطورات، ولفتت مشاركة الأحفاد، وأبناء الجيل الجديد
بالمعلومات التي تبين أن الجيل القديم أورثها لأبنائه وأحفاده، وهذا ما دأبت عليه معظم العائلات الفلسطينية مما جعل القضية حية في عقول، وقلوب مختلف الأجيال الفلسطينية، فسقطت مقولة "الكبار يرحلون والصغار ينسون”.
وللتعرف على ما ورد في الروايات، انتقل وفد "هوية" مع الحاج محمود، وأبناء وأحفاد العائلة إلى مشارف الوادي المطل على فلسطين، وهناك تم التعرف على التلال، والقرى المحيطة، وعلى الطرق التي توصل إلى فلسطين على مرمى حجر.
في طريق العودة، توقف الحفيد يوسف عند منزل المرحوم علي نايف بزيع، الذي أرسلت "هوية" وثيقته عام 2019، والتقى الجميع بابنته ليلى، ودخلوا البيت للتعرف إلى والدتها "اللبنانية الفلسطينية" بحسب قدورة، مضيفا أنهم جالوا في المنزل الذي، كما قال، "تعبق فيه رائحة فلسطين من خلال الصور، والوثائق المعلّقة على جدران المنزل”.
وحضر نبيل، ابن الراحل علي، ونقل ما أخبره به والده عن تجربته في فلسطين، ومع الثورة الفلسطينية.
في العودة، كان لابد من استضافة على مائدة فطور، فتعددت القصص والحكايات حول فلسطين بروح العائلة الواحدة التي تحب فلسطين وأهلها.
"عند مغادرتنا زبقين، شعرنا بما يشدنا للعودة إليها"، قال قدورة، لأن "هناك بيوت وعائلات أخرى في البلدة لها قصص، وحكايات مختلفة مع فلسطين، وهناك جمال الطبيعة في زبقين، وفوق ذلك طيبة أهلها، وأصالتهم، وحسن استقبالهم".
ويختم قدورة أنه "تبيّن لنا ان في بلدة زبقين عدد من العائلات التي عاشت في الناصرة قبل النكبة، وأن إحدى هذه العائلات مثلاً هي عائلة مسلم، والتي لا يزال بعض أفرادها يعيشون في الداخل، ويحملون الآن اسم عائلة ظاهر”.
المصدر: الميادين