أتوقف أمام هذا الشاعر الكبير، الذي حظيتُ بلقاء صامتٍ معه سنة 2001، اختلجت فيه أمامي بعض قصائده التي أحفظها. جلس في زاوية منفرداً في نادي خرّيجي الجامعة الأمريكية في "لقاء الثلاثاء الثقافي الفلسطيني" الذي كان يرأسه الدكتور أنيس صايغ، صديقه الذي دعاه إلى اللقاء، وفضل أن يجلس صامتاً حتى ينتهي اللقاء.
حاولت أن ألتقيه لأقول له: لقد صنعت لنا تاريخنا الأدبي، أنا الشاب الماثل أمامك أحفظ وأترنّم بأشعارك دائماً، ومثلي جيل عريض لا ينسى تحفة فيروز الفنية:
سنرجع يوماً إلى حيّنا .. ونغرق في دافئات المنــى
سنرجع مهما يمرّ الزمان .. وتنأى المسافات ما بيننــا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي .. على درب عودتنا مُوْهَنَــا
يعزُّ علينا غداً أن تعود .. رفوف الطيور ونحن هنــا
هنالك عند التلال تلالٌ .. تنام وتصحو على عهدنــا
وناسٌ هم الحبُّ أيّامهم .. هدوء انتظارٍ شجيُّ الغنــا
ربوع مدى العين صفصافها .. على كلّ ماء وَهَى فانحنى
تعبُّ الظُّهَيرات في ظلّه .. عبير الهدوء وصفو الهنا
سنرجع خبّرني العندليب .. غداة التقينا على منحنى
بأنّ البلابل لمّا تزل .. هناك تعيش بأشعارنا
ومازال بين تلال الحنين .. وناس الحنين مكان لنا
فيا قلب كم شرّدتنا الرياح .. تعال سنرجع هيّا بنا
هذه القصيدة التي يصعب أن تحذف منها بيتاً واحداً، لكمالها وجمالها..
أردتُ أن أقول له، إننا أكثر من جيل، من اللاجئين الفلسطينيين، رددنا نشيد الصباح في مدارس الأونروا:
عائدون عائدون إننا لعائدون
فالحدود لن تكون والقلاع والحصون
فاصرخوا يا نازحون
إننا لعائدون
عائدون للديار للسهول للجبال
تحت أعلام الفخار والجهاد والنضال
بالدماء والفداء والإخاء والوفاء
إننا لعائدون
عائدون يا ربا عائدون يا هضاب
عائون للصبا عائدون للشباب
للجهاد في النجاد والحصاد في البلاد
إننا لعائدون
وأردت أن أقول له: إننا حين استمعنا إلى الأناشيد الملتزمة، كان أبرز إبداع خرج به المنشدون الإسلاميون، قصيدة لك أيها الشاعر الكبير، في ألبوم "اليرموك ـ عشرون عاماً"، قصيدة "يا قدس":
ماذا سأكتب عن شوارعك المضاءة من دماء
ودموع شعبي الكادح المحزون في ليل العذاب
ماذا سأكتب يا قدس
لعينيها مدينتي التي سجنت
لمسجدها لأقصاها لحرمتها التي انتهكت
لخطو محمد فيها لما حملت وما حفظت
أنادي كل موتانا .. أنادي كل أحيانا
أناديهم أناجيلا.. إذا سمعوا وقرآناً
أناديهم باسم الله.. أشياخاً وشباناً
أناديهم من الأعماق.. فرساناً وشجعاناً
أناديها كتائبنا
وأدعوها سرايانا
أقول لهم لأجل القدس تصميما وإيمانا
لأجل القدس أدعوهم
فطهر القدس قد هانا
أناديهم لأجل عيونها المكـسورة الهدب
أناديهم باسم الله بكل طهارة الغضب
أنادي أمة العرب
أردت أن أقول له الكثير يومها، ولكنه رحل عنا في هذه الأيام من العام الماضي، أما وقد مرّ عام على رحيله، نسأل السؤال المنطقي:
أين وقف شاعرنا من النهضة؟
كما ذكرنا سابقاً، وأكثر من مرة أن النهضة موجات، يراها البعض موجتين وغيرهم يراها ثلاثاً (وأنا أؤيد الرأي القائل بالثلاثة، وربما أكثر).
فالموجة الأولى هي التي برزت في أواخر العهد العثماني. ثم الموجة الثانية مع إبراهيم طوقان صاحبيه (عبد الرحيم محمود وأبو سلمى)، والموجة الثالثة مع محمود درويش ورفيقيه (توفيق زياد وسميح القاسم). وكما يقول الكاتب محمد عبد عطوات في أطروحته "الاتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر": وكانت تفصل بين الثالوثين مرحلة الذهول والفاجعة في الخمسينيات تمثلت بالشعراء: (هارون هاشم رشيد، معين بسيسو، محمود سليم الحوت، يوسف الخطيب، راضي صدوق، توفيق صايغ، محمد العدناني، وبرهان الدين العبوشي وغيرهم).
وهذه الـ"غيرهم" تضم نظراءهم المخضرمين مثل: حسن البحيري، كمال ناصر، علي هاشم رشيد، مصباح العابودي، رجا سمرين، خليل زقطان، خالد نصرة، فدوى طوقان، سلمى الخضراء الجيوسي، دعد الكيالي،سميرة أبو غزالة، وأسمى طوبى..
ترجمته
ولد الشاعر هارون هاشم رشيد في غزة عام 1927. درس في مدارسها وأنهى دراسته الثانوية عام 1947، ثم حصل على شهادة المعلمين العليا وعمل في التدريس في مدارس مخيمات اللاجئين (البريج والمغازي والرمال)، وعاش النكبة وعايش ضحاياها في (1947- 1954)..
انتقل إلى العمل الإعلامي، وعُيّن ورئيساً لمكتب إذاعة "صوت العرب" في غزة، كما عمل رئيساً لإدارة الشؤون العامة بإدارة الحاكم العام لقطاع غزة، وفي عام 1967 التحق بمكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالقاهرة، وممثلاً لفلسطين في اللجان الدائمة بجامعة الدول العربية، ومندوباً دائماً لدى الجامعة.
شارك في تحرير عدد من الصحف العربية التي صدرت في غزة بعد النكبة. كان غزير الإنتاج، وبنى علاقات أدبية وفنية في مصر، جعلت قصائده مقصد الملحنين والفنانين، حتى قاربت تسعين قصيدة غناها أعلام في الغناء العربي، وفي مقدمتهم: فيروز، وفايدة كامل، ومحمد فوزي، وكارم محمود، ومحمد قنديل، ومحمد عبده، وطلال مداح، وآخرون.
فاز بالجائزة الأولى للمسرح الشعري من الألكسو 1977، والجائزة الأولى للقصيدة العربية في إذاعة لندن عام 1988، وحاز وسام القدس عام 1990.
يُعتبر من أوائل الشعراء الذين تمخضت عنهم النكبة، فكان شعره يمثل اللاجئين خير تمثيل في مأساتهم وفي نضالهم وإصرارهم على العودة، حتى لقب بشاعر النكبة والعودة، حيث يمتلئ شعره بأصوات الثأر والثورة والعودة والدعوة للإعداد لمواجهة العدو.
يتسم شعره بالخطابة والمباشرة في تصويره أوضاع اللاجئين والتعبير عن معاناتهم وآمالهم، وقاموسه الشعري زاخر بالألفاظ التي تتصل بحياة اللاجئين.
توفي شاعرنا في كندا في 27 تمون (يوليو) 2020، عن عمر جاوز 93 عاماً قضاها في النضال والكفاح من أجل العودة والتحرير.
من أعماله الشعرية: "مع الغرباء" (1954). "عدة الغرباء" (1956)، "غزة في خط النار" (1957)، "أرض الثورات" (1958)، "حتى يعود شعبنا" (1965)، "سفينة الغضب" (1968)، "رسالتان" (1968)، "رحلة العاصفة" (1970)، "فدائيون" (1970)، "مزامير الأرض والدم" (1971)، "الرجوع" (1977)، "مفكرة عاشق" (1980)، "المجموعة الشعرية الكاملة" (1981)، "يوميات الصمود والحزن" (1983)، "غزة.. غزة" (1988)، "ثورة الحجارة" (1988)، "السؤال" (1971)، "عصافير الشوك" (1990).
ـ رواية "سنوات العذاب" (1970).
ـ دراسات "الشعر المقاتل في الأرض المحتلة" (1970)، "مدينة وشاعر، حيفا والبحيري" (1975).
المصدر: العربي21