إجبار المقدسي على هدم منزله بيده بدعوى عدم الترخيص من بلدية القدس المحتلة هو رش الملح بسخاء فوق جراح من يعاني الأمرَّين صباح مساء في مدينة يجري تبديل ملامحها لخدمة المستوطنين.
أول قصة الهدم لمنازل المواطنين ومعالم المدينة بدأت في نكبة فلسطين عام 1948م، وعندما وقعت القدس تحت الاحتلال عام 1967م ازدادت عمليات هدم المنازل، لكن عام 2012م شهد تحولاً كبيراً في الظاهرة.
ترى لماذا تلجأ سلطات الاحتلال لإجبار المقدسي هدم منزله بيده؟ وما هي الآثار النفسية والاجتماعية والسياسية لاختفاء صور جرافات الاحتلال وهي تزيل الوجود الفلسطيني وتركه يدمر تعب العمر بيديه؟.
وتجبر سلطات الاحتلال المقدسيين الذين يحاولون استكمال بناء منازلهم أو إقامة منازل جديدة على هدمها، وتفرض عليهم في كثير من الأحيان غرامات مالية بعد فشل دعاوى قضائية محسومة مسبقاً لصالح بلدية القدس.
وتجري عمليات الهدم عامة في القدس المحتلة وفق أربع ذرائع، الأولى الهدم العسكري: وهو هدم البيوت بيد الجيش بدعوى حماية المستوطنات والثانية هي الهدم العقابي: وهو هدم منازل العائلات الفلسطينية بيد الجيش عقب تنفيذ أبنائهم عمليات عسكرية، وثالثاً الهدم الإداري: الأكثر شيوعًا، بذريعة البناء دون ترخيص ورابعاً الهدم القضائي: بقرار يصدر عن المحاكم الإسرائيلية.
الهدم العقابي
قبل أسابيع أجبرت سلطات الاحتلال المواطن جمال بكيرات على هدم منزله في صور باهر بيده وتوجت العدوان بفرض غرامة مالية كبيرة بدعوى تأخره في تنفيذ قرار الهدم.
يقول بكيرات لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "المنزل غرفتان وصالة ومرافق يسكنها 5 أفراد الآن، هم أسرة ابني، ودعوى القرار: عدم الترخيص والواقع عجزنا الكامل عن استصدار ترخيص.. هدمته على نفقتي، ودفعت 4 آلاف شيكل غرامة تأخير".
وكان بكيرات الذي ورث الأرض والمبنى القديم عن والده، تحمل مخالفة سابقة قيمتها 25 ألف شيكل في ذات القضية، ولكن على مبنى المنزل القديم قبل سنوات كقيمة غرامة يدفعها بالتقسيط من سنوات حتى الآن بواقع 500 شيكل شهرياً.
تشتت أسرة بكيرات بعد قرار الهدم، ولم يجد نجله مع زوجته وأطفاله مكاناً للإقامة إلا بالعودة مجدداً لحضانة والده في منزل آخر في القدس المحتلة.
وفي عام 2020م تكرر هدم المنازل بيد أصحابها بصورة غير مسبوقة، وكان من ضحاياها منزل المواطن ياسر عباسي في حي رأس العامود شرق القدس المحتلة.
أجبر الاحتلال عباسي على هدم منزله بيديه للمرة الثانية على نفقته، وذلك في إطار حملة مرتبة لصناعة خلل ديمغرافي يعزز تكثيف الوجود الاستيطاني في شرق القدس المحتلة.
وفضّلت عائلة حشمة في حي وادي قدوم تنفيذ قرار هدمها منزلها بيديها عام 2018م لسببين، الأول: عدم دفع غرامة باهظة إذا نفذت آليات الاحتلال الهدم، والثاني: محاولة إنقاذ شيء من مرافق وأضرار المنزل.
آثار اجتماعية
إجبار المقدسي على هدم منزله بيده، شكل مستحدث يطوّر فيه الاحتلال طريقته للنيل من معنويات وصمود الفلسطيني في القدس المحتلة.
يخالف الهدم الذاتي أو العقابي معاهدة جنيف الرابعة المادة (33) التي تنص على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي، ضد جريمة لم يرتكبها شخصيا"؛ الهدم العقابي يعارض النظام الأساسي لهذه المعاهدة والمادة (50) من "لائحة لاهاي".
ويؤكد د. درداح الشاعر، أستاذ علم الاجتماع، أن ظاهرة إجبار المقدسي هدم منزله بيده ظاهرة غير أخلاقية تنافي الإنسانية لمكان عادةً ما يشكل حالة استقرار وحنين دائم؛ فالمنزل جزء من الوطن.
ويضيف لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "البيت جزء من كيان الإنسان النفسي والبيولوجي، وهدمه محاولة لفصل الإنسان عن واقعه النفسي ما يدمر مأوى الأب ومستقبل أولاده، ويضيع ما جمعه طوال عمره".
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، هدم الاحتلال 976 مبنى عام 2020، منها 30% في محافظة القدس بواقع 180 مبنى داخل أحياء القدس، وبلغت عدد عمليات الهدم الذاتي 89 عملية معظمها في القدس، كما أصدر الاحتلال عام 2020 أوامر بالهدم ووقف البناء والترميم لنحو 1,012 مبنى في الضفة والقدس بزيادة 45% عن عام 2019م.
ويرى الدكتور الشاعر، أن الهدم العقابي أو الذاتي يهدم البناء البيولوجي والنفسي لشخص مقهور يعجز عن الدفاع، وأن هذا الإنسان يُعد من أول المحتاجين للمساعدة المادية والاجتماعية والاقتصادية، لأنه فقد كل شيء في حياته.
وفي الوقت الذي تهدم به سلطات الاحتلال المنازل الفلسطينية، وتضع العراقيل لإصدار تراخيص البناء، تصدّق على تراخيص بناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات "الإسرائيلية" المقامة على أراضي القدس، منتهكة القوانين والاتفاقيات الدولية.
أبعاد سياسية
الشكل الذي يجبر فيه الاحتلال المقدسي على هدم منزله بيده وهو صاغر، لم يأت عبثاً، بل يمضي وفق مخطط إسرائيلي لتكثيف الاستيطان، وتهويد القدس، وعدم الظهور بشكل المعتدي وهو يزيل الوجود الفلسطيني من القدس.
ويؤكد د.جمال عمرو الخبير في شئون القدس والاستيطان، أن سياسة هدم المنازل بيد أصحابها سياسة قديمة رافقت احتلال القدس عام 1967م، لكنها كانت بعدد قليل ولم تحظ بتغطية إعلامية.
ويشكل المقدسيون 40 % من سكان القدس، يخصص لهم الاحتلال10 % من موازنة المدينة التي تذهب معظمها لـ 220 ألف مستوطن شرقي القدس، ضمن مستوطنات تلف المدينة وتعزلها عن الضفة الغربية المحتلة.
أدت سياسة التضييق الإسرائيلية لقرابة 78 % من المقدسيين تحولوا تحت خط الفقر، بينما يعيش 200 ألف فلسطيني في المدينة بدون شبكات مياه مناسبة.
ويقول د.عمرو، إن عام 2012م شهد جرأة في عدوان الاحتلال على القدس وأهلها، تخلله هدم منازل وسحب بطاقات هوية ومنع إقامة وتنقل، وهو أمر مضى بتصاعد حتى عام 2021م.
وبالعودة إلى الوراء، شهدت القدس محطات عديدة في الصراع، آخرها كان انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000م بعد فشل عملية التسوية واتفاق أوسلو، ما جعل من القدس عنواناً للصراع تصدّر مؤخراً هامة معركة سيف القدس عام 2021م.
تفريغ القدس للمستوطنين
ويضيف د.عمرو: "انتفاضة الأقصى 2000م شكلت بداية أمل للمقدسي، ونالت إسنادًا من مقاومة غزة امتد من 2000 حتى 2021م مع استمراره.. هدم المنازل بيد أصحابها في سلوان والبلدة القديمة وكامل القدس يفرغ المدينة لصالح المستوطنين، ومثل حي الشيخ جراح حاضر في الذاكرة".
ظاهرة هدم المنازل بيد أصحابها لم تنل دعماً سياسياً من أحد، ولم تشكل لها لجنة وطنية خاصّة لمتابعة واقعها الميداني، والصمت عليها يعزز حسم متقبل القدس الاجتماعي والسياسي في البلدة القديمة مثل "سلوان-السوي-راس العامود-المكبر-العيسوية-بيت حنينا وغيرها.." والحوض المقدس.
ويشير الخبير عمرو، أن الهدف السياسي لما يجري في القدس يكرره الاحتلال بذات النموذج مع بلدات عربية في أرض 48، مثل بلدة قلنسوة وأم الفحم والطيبة وكفر قاسم.
يتجنب الاحتلال الظهور بصورته النمطية وهو يدمر المنازل فيجبر الفلسطيني على هدم منزله بيده حتى لا يظهر بوجهه الحقيقي أمام الكاميرا التي أصبحت في جيب كل مواطن.
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام