لمحة تاريخية وقانونية: قلما تذكر وسيلةٌ إعلاميةٌ خبراً عن الفلسطينيين في العراق، بل قلما تجد دراسةً تتحدث عنهم، ونادراً ما يتعرض السياسي الفلسطيني ووسائل إعلامه لمجاميع اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وطوال السنوات الستين الماضية كانت طاحونة الزمن تأكل من تاريخهم ونضالهم الكثير، إلى أن جاء القدر بمحنةٍ جديدةٍ وأزمةٍ اعتاد الفلسطينيون ألا يظهروا للإعلام ولا يراهم أحد إلا من خلالها.
جاء اللاجئون الفلسطينيون إلى العراق عام 1948م حملتهم عربات الجيش العراقي الذي شارك في جيش الإنقاذ حينذاك، لم تكن أعدادهم قد تجاوزت خمسة آلاف على أكثر التقديرات، سكنوا في معسكرات ومقرات حكومية تحت إشراف وزارة الدفاع العراقية التي كانت توزع عليهم الطعام والمخصصات اليومية كأي قطعةٍ من قطع الجيش، وبقي هذا الحال حتى عام 1950م حيث انتقلت ولايتهم إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي أنشأت مديريةً خاصةً بهم تحت اسم مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين في العراق والتي قامت بدورها بإعادة توزيع سكن اللاجئين الفلسطينيين وفق نظام السكن الجماعي الذي افتقر لأدنى متطلبات الحياة الصحية، هذه المساكن التي زارها وزير الشؤون الاجتماعية والعمل العراقي أحمد الحبوبي بعد حرب حزيران عام 1967م ليُفاجأ بحجم المأساة التي يعيشها ساكنوها من اللاجئين الفلسطينيين فدفعته لإصدار مذكرةٍ إلى مجلس الوزراء العراقي يصف فيها مساكن اللاجئين بالقبور التي يسكنها أحياء، ويصف فيها وضع المساكن الصحي والاجتماعي البائس مستشهداً بقوله «ليس السامع كمن رأى» ويختم الحبوبي رسالته بسؤالٍ استنكاريٍ: أهكذا يعيش العائدون؟
كانت رسالة الحبوبي أول تحركٍ رسميٍ بل غير رسمي يسلط الضوء على مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق الذين غادرتهم وكالة الأنروا مبكراً أواخر العام 1950 وأخرجت العراق من مناطق عملياتها بموجب اتفاقيةٍ بين الحكومة العراقية والأنروا يتحمل بموجبها العراق رعاية شؤون الفلسطينيين اللاجئين لديه من مختلف الجوانب مقابل إعفاء العراق من أي التزامات مالية تجاه الأمم المتحدة، وفعلاً خصصت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل العراقية مبالغ سنوية لرعاية اللاجئين الفلسطينيين بدأت بـ«160 ألف دينار» ولم تزدد طوال الأعوام 1955م وعام 1973م إلا بمقدار «50 ألفاً» بينما كانت أعداد اللاجئين تزداد بنسب عالية وصلت إلى أربعة أضعاف، فضلاً عن اختلاف قيمة الصرف خلال هذه المدة، وبالعودة إلى رسالة وزير الشؤون الاجتماعية والعمل العراقي أحمد الحبوبي فقد اتخذت الحكومة العراقية آنذاك قراراً يقضي بتخصيص أراضٍ للفلسطينيين اللاجئين مع سلفٍ مالية للبناء إضافة إلى مساعدات نقدية، إلا أن القرار لم يرَ النور فقد كان انقلاب حزب البعث في تموز عام 1968 أسرع من التعليمات التنفيذية للقرار، ليحل مجلس قيادة الثورة مكان الحكومة السابقة حيث عالج قضايا اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات أصدرها عام 1969 قضت بإنشاء مجمعات سكنية شعبية ينتفع بها اللاجئون الفلسطينيون دون تملكها، ومن دون أن يكون هناك حق للاجئ الفلسطيني بتملك الأراضي والعقارات.
بعد سقوط بغداد وأشياء أخرى..
بقي واقع الفلسطيني في العراق موضع تجاذب ويخضع للاعتبارات السياسية أكثر من خضوعه لتشريعات قانونية واضحة تنظم علاقته بالدولة المضيفة حتى عام 2001م حيث صدر القرار 202 عن مجلس قيادة الثورة الذي نص على معاملة الفلسطيني المقيم إقامة دائمة في العراق معاملة العراقي في جميع الحقوق والواجبات باستثناء الحق في الحصول على الجنسية العراقية، إلا أن القرار الذي انتظره الفلسطينيون اللاجئون في العراق أكثر من خمسين عاماً لم يقع موقع التنفيذ بسبب تأخر التعليمات التنفيذية له إلى أن سقط النظام العراقي عام 2003م بعد الحرب الأميركية البريطانية على العراق، وهنا دخل اللاجئ الفلسطيني أخطر مراحل حياته في العراق، وهي المرحلة التي امتزجت بالدماء والتهجير الممنهج والمدروس، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم يعيش الفلسطيني في العراق مراحل متعددة من الشد والجذب مع واقع العراق المجمل، حيث استهدفته مليشيات طائفية عاثت فساداً في مناطق سكناه وهجّرت الآلاف إلى مخيمات صحراوية منها ما تفكك باتجاه بقاع مختلفة في العالم من البرازيل وتشيلي إلى أستراليا ونيوزيلندة إلى أوروبا فالهند وسيرلانكا هرباً من الموت الذي مورس ضدهم بأبشع صوره تمثيلاً وتنكيلاً، ولا يزال حتى كتابة هذه السطور المئات من اللاجئين الفلسطينيين على الحدود العراقية السورية في مخيم الوليد منذ سنوات في أدنى مستوى حياةٍ يمكن أن يقبل به آدمي على وجه الأرض في القرن الحادي والعشرين، واليوم مع بقاء بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في العراق وخصوصاً بغداد في مجمع البلديات الذي يقع في منطقة ذات لون طائفي واحد، وبعد أن أخذت المليشيات العراقية شكلاً قانونياً بتحولها إلى أجهزة أمنية تتبع لوزارة الداخلية، باتت الهجمة على الفلسطينيين حملة مقننة باسم مكافحة الإرهاب، وتم استهداف رموز المجمع من الفلسطينيين لدفع السكان إلى الهجرة خارج المنطقة للوصول إلى مشروع النقاء الطائفي في منطقة الرصافة شرق القناة من العاصمة العراقية بغداد، ولم تفلح محاولات عديدة من التفاوض مع المرجعيات الدينية والأجهزة الحكومية التي اتضح في نهاية المطاف أن المشروع لا يخرج عن كونه مشروعاً برعاية حكومية وطائفية لم تراعِ حرمةً للقضية الفلسطينية كقضية إسلامية وعربية، ولا لتاريخٍ من التعايش المشترك بين الفلسطينيين والعراقيين، ولا لحرمة رموزٍ وشيوخٍ لم يكن آخرهم عميد الجالية الفلسطينية في العراق الشيخ السبعيني توفيق عبد الخالق «أبو العبد» الذي اختطف وعُذب ونُكل به من قبل مختطفيه بأبشع الأنواع ليس أقلها المثقب الكهربائي «دريل» الذي بانت آثاره على جثته التي وجدت بعد أيام من اختطافه من قبل المليشيات الطائفية عام 2008م.
مسؤولية من؟
اليوم يدرك الفلسطينيون أن لا مكان لهم شرق بغداد، فهي منطقة اتضح أن مختطفي العراق قد قرروا أنها لا تتسع إلا للون واحد، وندرك كفلسطينيين أن قدرنا في ظل حالةٍ فلسطينيةٍ مترديةٍ لن يكون أكثر من حطب لأزمات العرب، هكذا كنا في أيلول الأسود عام 1970 - 1971م، وهكذا قُدر لنا في حرب لبنان الأهلية، وهكذا كنا في حرب الخليج 1991م، وفي نهر البارد في لبنان، واليوم في العراق.
بقي أن نقول: خسرنا من الفلسطينيين في العراق الذين يشكلون أقل من 1% من مجموع السكان المئات قتلى وجرحى ومعتقلين ليس أمام العدو الإسرائيلي وإنما أمام أناس يتكلمون بلغتنا ويوحدون بديانتنا، وخسرنا الآلاف مشردين مهجرين في أكثر من 45 دولة ليس بينها واحدة عربية، فإلى أين يتجه المسار؟ وما مآلات من بقي ينتظر مصيره؟ نحن أمام مشكلة إنسانية في بعدها الطارئ تحتاج لحلول إنسانية سريعة، أما إشكالنا السياسي والاجتماعي في مجتمعاتنا العربية فهو تاريخي ومزمن ومستعص.
المصدر:مقال للأستاذ طارق حمود