في هذا المجال يقول الشيخ عبد الرحمن مراد أمين سر اللجنة القومية في حيفا:
في يوم الثلاثاء الواقع في 20/4/1948 وبعد شعورنا بالخطر. وذلك من خلال الوضع العسكري السيء في المدينة، فالسلاح قليل لدينا وكذلك الذخائر بينما عدونا مدجج بالسلاح ومدرب أحسن تدريب ومنظم تنظيما دقيقا رأينا أن نطلب النجدات من الدول العربية ومن القرى المحيطة فأرسلنا عدة رسائل وأجريت عدة اتصالات فاتصلت بأهالي قرية الطيرة أكبر قرى فلسطين المجاورة طالبا النجدة العاجلة وطلبت من مختارها عبد الله السلمان الاتصال بالكتيبة الاردنية وقائدها للتحرك لانقاذ المدينة التي هوجمت من جميع النواحي.
وبالفعل جاء الرد سريعا من قرية الطيرة فارسلت 300 مقاتل من نخبة مقاتليها ومسلحين بالبواريد والرشاشات والقنابل وجاؤوا عن طريق فرش المرقصة ورأس المهلل. ولكنهم صعقوا لما رأوا الحصار المحكم من قبل الانكليز المدججين بالاسلحة الثقيلة. وحاولوا اختراقها لكنهم صدوا. ولو استمروا في عنادهم لا بيد الجميع. وكانت القرية بحاجة إلى كل مقاتل منهم. عادوا إلى القرية يمضغون الالم والمرارة فحيفا وأهلها يلفظون انفاسهم الاخيرة. وأهل حيفا هم أهل الطيرة.
احتلال المرقصة:
وعند عصر ذلك اليوم استشهد أمين سعيد عويس من عناصر حراسة المرقصة بطلقة خاطئة. فنقل الشهيد إلى مركز الاسعاف المقام في الجامع على الحمالة الوحيدة التي يملكها مركز الاسعاف والذي يشرف عليه أسعد غنام. ونزل مع الشهيد عناصر الحراسة في المرقصة. ولم يدركوا أن اليهود يتربصون بهم فانقضوا على الموقع واحتلوه. وبدأوا بقصف القرية منه. وساندتهم قوات تقصف من مستعمرة اخوزا وكان القصف بممدافع الميدان وبالصواريخ والهاون. والرشاشات الثقيلة والخفيفة.
وبالمقابل رد المقاتلون في القرية برشاشاتهم ومدفعهم المورتر وبنادقهم على القصف كما نزلت إلى القرية مصفحات للجيش العربي. وأخذت ترد على النيران ووجهتها إلى اخوزا والمرقصة. واستمر تبادل النيران حتى التاسعة مساء.
أثناء القصف اختبأ الأهالي في المغاور والجامع وبعض الأبنية المحكمة وفي الخنادق أوأثناء تنقلهم استشهد: محمود أبو حسان – يوسف غنايم – محمود حجير – علي سليمان ادريس – امرأة البلعاوي – محمد منصور – محمود حسين عمورة – وجرح العديد منهم نذكر فاطمة العاقلة (عباس) وكاملة الانيس (عباس).
أما الاسعافات فكانت تعالج ميدانيا وبطرق بدائية وكان عدد القتلى والجرحى يستنفذ قوى نقطة الاسعاف الوحيدة في القرية.
وعند المساء ونتيجة الرد العنيف الذي لاقاه اليهود اضطر إلى الانسحاب من المرقصة ووقف القصف من اخوزا. شهود من القرى المجاورة قالوا أن الطيرة في هذا اليوم كانت كتلة لهب. معركة حقيقية يشهد لها كل من في القضاء.
الخروج الأول:
بعد هذه المعركة كثر الحديث عن الرحيل إلى شرق الأردن وجاء من يروج له فانتهز الأهالي وقف القصف وخرجوا بقليل من الامتعة متجهين إلى باب النهر وبقوا هناك ثلاث ليال يبيتون في العراء بعد ذلك أمر الجيش العربي الاهالي بالعودة إلى القرية فعاد قسم وبقي قسم آخر. وما أن حل المساء حتى عاودوا القصف عشوائيا من اخوزا وبعنف أشد. وكان ذلك في 23/4 أي بعد سقوط حيفا بيوم واحد فقط، فهرع الناس إلى باب النهر. وكأنهم على ميعاد!! (الزوارق الصغيرة) في البحر والقطار والشاحنات كلها تنتظرهم وتحت تصرفهم. وقيل لهم اخرجوا وبعد أيام ستعودون. اتركوا الأمر لنا غدا سندمرهم بجيوشنا الجرارة "والايام طالت وطالت وتطول".
خرج قرابة عشرين عائلة في الزوارق في البحر واتجهوا إلى السواحل اللبنانية وقوافل اتجهت إلى حيفا الساقطة مخترقة شوارعها المملوءة بافراد عصابة الأرغون وشتيرن واتجهت إلى حيفا الساقطة مخترقة شوارعها المملوءة بأفراد عصابة الأرغون وشتيرن واتجهت من حيفا إلى عكا – كفرياسيف – نهارية – الزيب – البصة – علما – رأس الناقورة – فالأراضي اللبنانية إلى صور – فصيدا.
قوافل برية بالشاحنات العسكرية والمدنية تخرج من حريق معمر – اجزم – تل عدس حيث يرتكب فيها مجزرة ويستشهد العديد نذكر منهم الشهيد حسن محمد يونس. وتتابع القوافل إلى نابلس – الأردن إلى اربد فالأراضي السورية إلى دمشق. وكان القطار أيضاً يمتلئ ويمر بطيئا بطيئا من أراضي القرية يقف الأهالي ينتحبون بطريقة لم يشهد لها أحد مثيلا. الرجال قبل النساء. يقف نمر ادريس على نافذة القطار ويصيح بصوت مخنوق وباحساس داخلي بأنه لن يرى القرية بعد اليوم يصيح "بخاطرك يا بلدنا" ويتعالى البكاء والقطار يسير غير آبه بما يحمل. واتجه القطار إلى عتليت فالخضيرة. وتوقف أثناء طريقه بمحطتين لليهود وفي احداها نجوا من مجزرة كانت سترتكب بحقهم. لولا رشوة الاهالي للإنكليز المسؤولين عن القطار وبالتالي تدخلهم لدى اليهود بحجة أن الركاب عمال. وهاتان المحطتان هما "بنيامين وزمارين وسار القطار متجها إلى طول كرم".
نزلوا من القطار فبقي قسم في طول كرم وقسما ذهب إلى نابلس وقراها مثل دير شرف التي احتضنت قسماً كبيراً من أهالي القرية. وقسم إلى مدينة جنين.
الهدنة:
دخلت الجيوش العربية وأخذت تحقق الانتصار تلو الانتصال وهذا ما اخاف اليهود فتراكضوا إلى الولايات المتحدة وبريطانيا للتدخل وبدورهم طلبوا وقف القتال لانقاذهم فرفض طلبهم وهددوا بالتدخل فرضي العرب بوقف القتال واقامة هدنة مدتها أربعة أسابيع. قام الاعداء خلالها بالتزود بكافة أنواع الأسلحة وأتاهم المدد بالرجال والعتاد فقوي ساعدهم بينما العرب بردت اناملهم. وبدأت الهدنة في 11/6/1948 وجاء برنادوت وسيطا ومشرفا على وقف اطلاق النار، وساعيا لحل المشكلة بالطرق الدبلوماسية ولم تمض أيام على مهمته إلا وقتل على يد العصابات الصهيونية.
وفي الطيرة محاربون لا يتعاطون السياسة. فرحوا لدخول الجيوش العربية وانتظروا يوم الخلاص لكن الهدنة بددت آمالهم لأن ما كان يجري على الأرض بعد الهدنة كان ينذر بالخطر هم محاصرون وعدد بنادقهم هابط ومحدود والذخيرة تتناقص. نفذ الوقود. يقولون عدنا لأيام الحطب والزناد والفتيل وحجر الصوان. قل الطعام وكدنا نأتي على الطيور الداجنة التي لا تجد لها علفا ولا عالفا. لا نخرج إلى الحقل إلا نهارا والسلاح بأيدينا.
زحف اليهود من الشمال واحتلوا الكبابير.
وفي ليالي الهدنة بدت الطيرة لنا كأشباح لا يوجد فيها من الآلاف سوى 500 – 600 مقاتل. فضعفت بعض النفوس. وخرجت في جنح الظلام بعد ما كان يقتلهم الشوق والجهل بمصير عائلاتهم التي خرجت ولم يعرفوا عنها شيئا.
اصبحوا يقولون أن الصمود يعد انتحارا. ولكن بقي فتية مصممون على المقاومة على إلا توصم جباههم بالعار فشدوا اسلحتهم وكان دافعهم ايمانهم بالله وبعدالة قضيتهم.
المفاوضات:
وبسكوت العرب عن سقوط حيفا ونجاح مسرحية الهجوم من هنا والانسحاب من هناك قويت آمال الخصوم في نجاح دولتهم. وبات الشريط الضيق المطل على البحر من الطيرة إلى اجزم بحكم الساقط عسكريا. وهذا السقوط النظري ساعد الصهاينة على التفرغ للدخول في لعبة فزاعة الحقل الدولي دون أن يغفلوا عنصر الحرب النفسية مع رجال الطيرة – الذين ارعبوهم حينا من الدهر واضطروهم إلى صعود الجبال وتغيير خط السير بين حيفا وتل أبيب بعيدا عن مواجهتهم. فأملوا بالحصار الشامل واطالة عمر الحرب أن يفت في عضد المجاهدين. فإما أن يستسلموا أو يخرجوهم بغير حرب. لكن صمودهم خيب كل الظنون والتوقعات فاستعاض الصهاينة عن الخنق بالحصار إلى الإرهاب المدفعي المتقطع والغارات الجوية بين حين وآخر مدة شهر كامل حتى يئسوا من أن ينالوا من الروح المعنوية للمجاهدين ولذلك لم يجدوا بدا من اللجوء لأسلوب آخر علة ينجح فلجؤوا أخيراً إلى التفاوض. فأرسلوا رسالة إلى الوجهاء في القرية عن طريق حسن الزعطوط ومن المحامي اليهودي يعقوب سلمون يطلب فيها من القرية الاستسلام والبقاء في القرية. ورفض طلبه على الفور. ثم شكل وفد من شبتاي ليفي، رئيس بلدية حيفا، وسبكتر مختار اخوزا وكرستين ضابط كبير في الهاغانا واطلقوا سجينا لديهم هو كرم الفهد لينقل رسالة شفوية إلى وجهاء القرية يبلغهم عن تشكيل وفد للتفاوض معهم وحدد المكان في منطقة ذراع عبد الحفيظ الأحمد والوقت هو الحادية عشرة بعد ظهر يوم 14/7/1948وعند الموعد جاء الوفد اليهودي. وقابله وفد من القرية مؤلف من يوسف أبو راشد – أحمد محمد أبو غيدا – نايف العبد المحمود – حسن عللوه (السروة) وأحمد سليمان الصادق وسليمان عبد العال حجير.
وأول ما سأله الوفد اليهودي أين المختار عبد الله السلمان. فأجابه أحدهم قائلا أنه مريض. وبدء الاجتماع بقول ليفي: أن إسرائيل قامت وأصبحت واقعا وعليكم أن لا تتعلقوا بالأوهام. ونحن جيران منذ سنين. وأن الطيرة قرية لا مثيل لها ولا بديل لأهلها عنها. لا تتركوا القرية. لقد سقطت حيفا فلا أمل لديكم في الاستمرار. وطلباتنا هي: الاستسلام وإلقاء السلاح وتسليمه لنا واخراج الغرباء من بينكم وبعدها لن يمس أحد بأذى. دعونا نعش سويا وأنا اكفل وأتعهد بذلك. علق يوسف أبو راشد على هذا الكلام قائلا: إنكم قوم لا عهد لكم وأن هذا العرض عرض استسلام كامل لن نقبل به. فقال له سبكتر أو كرستين هذا ما عندنا فرد عليه يوسف أبو راشد اخرجوا من هنا فسنحاربكم بهذه. ورفع الباكورة بوجهه فردوا عليه بأنها لا تساوي شيئا ولن نعتبره ردا. أمامكم ساعتان وسنستمع بعدها لردكم وخرجوا من الاجتماع. وخرج الوجهاء وعرضوا ذلك على المجاهدين فانقسم الناس بين من يريد أن يبقى في أرضـه ويسلم ومن هو يريد القتال حتى الموت. وأخيراً طغى رأي من أرادوا الصمود.
الحمم من كل مكان:
ومرت الساعتان ببطء وما أن انقضتا حتى نزلت بالقرية الحمم من القذائف من البر والبحر والجو. وتحركت الدبابات واخذت تقصف قصفاً عشوائياً وبكثافة لا مثيل لها. واستمر القصف حتى المساء فسقط الشهداء وسقط الجرحى وشعر المقاتلون بحجم الكارثة. ومن القتلى الذين سقطوا أثناء القصف محمد عبد الحفيظ – علي حسين حجير – عمار المغربي – حسن أبو حمدة – ومحمود حسين المص – ومحمود دغنوس وولده أحمد أما الأطفال فهم خليل أحمد محمد سعيد وخالد هاني عللوه وشقيقته ومن الجرحى حسين مصباح البطل وراضي عبد القادر السمير ومحمد أبو شقرة الذي توفي متأثراً بجراحه ونايف عباس (السرية) وغيرهم.
ولهول ما حدث قرر المقاتلون الانسحاب في جنح الليل فاتجه البعض إلى الدالية وعسفيا والغالبية إلى اجزم وعين حوض ومن ثم إلى طول كرم ونابلس.
وفي صباح اليوم التالي لف القرية صمت رهيب. وتكاثرت حشود الصهاينة التي أخذت ترقب الموقف وراعهم انعدام الحركة إلا من العجائز وحلقت الطائرات. فوق الخنادق والمغاور البيوت. ولكن لا أحد. وانتظروا لليوم الثاني والوضع كذلك حسبوا أنه كمين لهم فلا يعقل أن يحدث هذا من الطيرة التي أرهبتهم طوال أشهر عديدة. ولم يدخلوا إلا في صباح اليوم الثالث.
سقوط القرية:
يوم 17/7/1948 دخلت الدبابات القرية من الشمال والغرب إلى البيادر القبلية. وعندما انتشروا في القرية خرجوا من دباباتهم ملوحين غير مصدقين بأن الطيرة سقطت فأخذوا يتدفقون إلى القرية وجمعوا من بقي في القرية ومن العجائز والعجز وأركبوهم في شاحنة وأخذوهم إلى اللجون وأنزلوهم فيها. في نابلس وفي قراها كان الناس ينتظرون وما أن سمعوا خبر سقوط القرية من المذيع حتى هبوا حفاة إلى الشوارع يبكون ويصرخون لقد سقطت الطيرة أمنا الحنون. لقد سقطت أم الخيرات. أخذوا يجوبون الشوارع ويسألون عمن أتي من المقاتلين. ويا للقاء لقاء الصامدين مع أهلهم لقاء المنكسرين أمام أنفسهم. هم لم ينكسروا وهم لم ينتصروا. وصل المقاتلون والأحذية ملتصقة بأرجلهم وأخذوا يضمدون جراح بعضهم البعض جاءوا من إجزم وعسفيا مشيا على الأقدام بقي البعض في نابلس قرابة الشهر بعد سقوط القرية والبعض بقي أقل من ذلك وتوجهوا بعدها إلى الأردن وتجمعوا في مخيم أربد وقسم أكمل إلى سورية إلى دمشق وحلب وقسم خرج مع الجيش العراقي إلى العراق. بعد سقوط البلدة وأثناء الانسحاب اعتقل عدد من المقاتلين وقدر بـ 35 رجلاً.
منهم محمد زامل حميدة – أبو إسماعيل حجير – توفيق الرباني – محمد فرعون – ذيب الأبطح – حسن عمورة – صبحي الطيراوي – موسى النور عللوه – أحمد جمعة حجير – حسن أسعد أبو زيد – أسعد محمود الأبطح – إبراهيم أحمد الأبطح – عبد الله محمد وقد هرب من السجن بمساعدة عمال عرب كانوا يتكلمون العبرية.
ونقلوا إلى سجن الملبس في يافا وبقوا فيه مدة تسعة أشهر ونصف لاقوا فيها شتى أنواع العذاب والتعذيب بل خطط اليهود لارتكاب مجزرة بهم فوضعوا لهم أجزاء صغيرة من الشفرات في الطعام. وتم اكتشافها قبل أن يأكل أحد منها وقدم السجناء مذكرة إلى الصليب الأحمر لكي يتحققوا من ذلك وقد عملوا خلال هذه الفترة بالأشغال الشاقة. بعد ذلك تمت مبادلة الأسرى مع الأردن حيث بودل كل يهودي بعشرة مقاتلين عرب والتحقوا بأهاليهم وأبناء قريتهم في الشتات. وبهذه الكلمات يغلق الستار على مأساة لم يشهدها التاريخ لنفتح ستارا آخر ونوعا آخر من النضال وجيلا آخر يحب بلاده دون أن يراها. ويتعلق بقريته أكثر ممن عاش فيها ولن تسدل هذه الستارة حتى نفتتح ستارة العودة. العودة التي لا محال لها.
المصدر: كتاب طيرة حيفا
احمد مطصفى الباش