بلال محمد شلش
"وقد أعدمت {الحكومة الاستعمارية البريطانية في فلسطين} المئات من الشباب، وبعد أن وجدت أنها لم تستطع القضاء على الثورة بالمواجهة بعد أن استقدمت حوالي المئة الف جندي وعلى رأسهم كبار قادة أركانها مثل دل {Sir John Greer Dill}، وويفل {Archibald Wavell}، وعمدت إلى إفساد الثورة من الداخل وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير وانقسم الشعب على نفسه. ثم قامت بنزع السلاح بأقسى أنواع العذاب والبطش، وأنا لا أقول هذا الكلام تجني أو مبالغة، ويكفي أن أذكر مثلين اثنين عشت أحدهما بنفسي وهما، بيت ريما لواء رام الله <في شهر نيسان{/أبريل} 1939>، وحلحول لواء الخليل <في شهر {آذار/} مارس 1939>، فستبقى ما قامت به السلطات البريطانية في هذين البلدين وصمة عار في سجل الانتداب البريطاني".
قاسم الريماوي من نص مخطوط قيد الإعداد للنشر.
لماذا استحضر الدكتور قاسم الريماوي، عند الحديث عن ثورة 1936-1939 والقمع البريطاني لها، نموذجي حصار بيت ريما وحلحول؟ قد يُفهم أن الريماوي استحضر نموذج "بيت ريما" كونها مسقط رأسه، وأنه على اطّلاع على تفاصيل ما جرى من قتل وتعذيب وترويع لأهالي البلدة رجالًا ونساءً. لكن ماذا عن حصار "حلحول"؟
بتتبع الروايات الشفوية المتداولة عن هذه الفترة التاريخية، أبرز ما يحضر في شهادات الرواة عمليات التفتيش والحصار التي كانت تفرض على القرى والبلدات الفلسطينية المختلفة، من قبل كتائب الجيش البريطاني، ومن قبل عملاء بريطانيا وأنصارها ممن انقلبوا على الثورة، لأسباب مختلفة. وبتتبع الأدبيات العسكرية البريطانية، خصوصًا المتعلقة بتاريخ الألوية المختلفة، يبرز مصطلح Cordon And Search"" الذي يرتبط بشكل مباشر بعمليات هذه الفرق في فلسطين، إبان مكافحة الثورة العربية الكبرى (1396-1939) ومن ثم كاستراتيجية عسكرية بريطانية متبعة ضد المنظمات الصهيونية بعد الحرب العالمية.
المزرعة الشرقية، جيوس، السنديانة، المجيدل، كفر كنا، أم صفا، شعب، قاقون، سعسع، خرفيش، بيت أمرين أسماء لقرى تشكل نموذجًا لعشرات القرى الفلسطينية التي ذكرت في البلاغات الرسمية الصادرة عن الحكومة الاستعمارية البريطانية، لتعرضها لحملات تفتيش وحصار من فرق بريطانية مختلفة سجلتها البلاغات كالفرقة الثانية من جنود است بوركشير (Royal Berkshire Regiment)، أورطة رويال سكوتس (The Royal Scots)، الفرقة الأولى من جنود هاميشير (Royal Hampshire Regiment)، الأورطة الثانية من فرقة ليستر شير (Royal Leicestershire Regiment) الخ..
يحكي الدكتور الريماوي في نصه بعض ما جرى أثناء حصار بيت ريما، الذي استمر وفقًا للبلاغات الرسمية الاستعمارية من 23 نيسان/ أبريل ولغاية 2 أيار/ مايو 1939، ويقدم بعض التفاصيل. لكن ماذا جرى في حلحول!
سجلت بعض الشهادات الشفوية عن الحدث لضباط الكتيبة الثانية من فرقة بلاك ووتش (The Black Watch)، كما اهتم بإيراد بعض الشهادات الشفوية التي وثقت الحدث من بعض أهالي حلحلول. لكن حفظ رواية معاصرة للحدث، تكشف أثره ومختصرًا لما جرى، فأثناء البحث والتقصي لتحقيب هذه الحادثة كجزء من الانشغال البحثي على نصوص الدكتور الريماوي المخطوطة، وسعيًا للتأكد من الرواية المتداولة حول "الحصار" كانت هذه الوثيقة، التي كتبت إبان حصار حلحول ووقعت من "ضمائر مراقبة متألمة" وأُرسلت إلى القنصلية المصرية في القدس يوم 10 أيار/ مايو 1939.
"فظائع الجيش البريطاني السافل في قريتي حلحول وبيت فجار- الخليل" بهذا عنونت الرسالة، وروست بالآية الكريمة "هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" وبمقولة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا". ثم أُتبِعتَت بأبيات من الشعر:
"لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم
زدني من البلوى أزدك تمردًا *** واملأ فؤادي بالأسى فأبوحا"
يتضح من مقدمات النص قبل الغوص في مختصره لما حدث وما زال يحدث في حلحول، أنه بيان تحريضي ضد الفعل الاستعماري البريطاني الممارس في تلك الفترة، وستنعكس هذه الرسالة بكل تأكيد على مضمون النص ولغته كما هو جلي، أما عن الحدث فيرد:
"بعد أن انقضى نظام منع التجول في الخليل (48 ساعة) وأخذ الجيش لشابين منها، أحدهما من عائلة نيروخ والآخر من عائلة النتشة، ورميهما بالرصاص في ناحية منعزلة فاستشهدا بريئين. طوق الجيش البريطاني الوحشي صباح يوم الخميس 6 أيار/ مايو 1939 قرية حلحول وبيت فجار على إثر رفضهما التوقيع على شروط السلطة ومنها (استنكار الثورة) مساعدة الجيش البريطاني في تنقلاته القاء القبض على المجاهدين، تقديم أسلحة. فجمعوا الرجال والنساء في ناحيتين يسومونهم أشد العذاب، تساوى فيه الطفل الرضيع والشيخ الهرم. تدلت ألسنة الأطفال عطشًا وخوت قلوبهم جوعًا يصرخون يا أماه -ماء- خبزًا- مستنجدين بالإنسانية والعدالة اللتين لا يعرفهما الإنكليزي إلا من قلل المدافع وأفواه البنادق فضاقت النساء صبرًا في قرية حلحول واشتبكن مع الجنود بالحجارة فشدخن رأسين من الجنود الظالمين وبعدها سمح لهن بالانصراف بعد أن اجهضت بعضهن وبعد أن قاست الأطفال سكرات الموت. أما الرجال فهذا اليوم الخامس على إحاطتهم بالأسلاك الشائكة، تحت زمهرير الشمس رافعين وجوهم تجاهها حيثما تدور. فراشهم الحجارة تحت قر الليل وطعامهم الضرب بالأسواط وأكعاب البنادق. والكثير منهم في طريق الاستشهاد إن لم يكن قد استشهد".
انتهى سرد المختصر لما كان يجري في حلحول، لكن لم تنتهِ الوثائق، فتكشف وثيقة أخرى تفاصيل لحدثٍ في ذات الفترة الزمنية كان يجري في قضاء رام الله، في قرية كفر مالك. أرسل علي سلامة مختار قرية كفر مالك يوم 8 أيار/ مايو 1939 رسالة إلى قنصل حكومة مصر بالقدس. تلخص هذه الرسالة تفاصيل ما كان يجري في البلدة منذ يوم الجمعة 5 أيار/ مايو 1939، ووفقًا للمختار:
"إن الجيش البريطاني حضر يوم الجمعة لقريتنا كفر مالك وطوقها، وجمع الرجال الشباب وضعهم داخل نطاق والشيوخ المسنين في نطاق آخر، ومن ثم اسمعوا يا جناب القنصل الأعمال البريطانية: أ- الشيوخ يسمحوا لهم في اليوم والليلة أكلة واحدة وشربة واحدة بسيطرة جدًا. ب- أما الرجال الشباب قد مضى عليهم أربعة أيام بلياليها بدون أكل ولا شرب، وهم في حالة الموت والنزاع والموت قريب جدًا، وهم مدرجين بدمائهم من كثرة الضرب المبرح. ج- الحريم والنساء والأطفال مجمعون على المجنة، أي المقبرة، ليلاً ينامون عليها ونهارًا يندبون حظهم العاثر. د-الجيش يهدم المحلات بالفوسوالمعاويل وهدموا جدران الكروم".