مشاركة م. طارق ابراهيم محمد علي ياســين , من ابو شوشـــــة
* محمد علي فقيه / كاتب لبناني
مقدمة: اذا جاز لـ؟اسرائيل؟ ان "تحتفل" بذكرى انقضاء ثلاثة وخمسين عاما على قيامها فمن حقنا ان نستعيد الشريط ونذكر الجميع بالكيفية التي قامت بها هذه الدولة، ذلك ان 17 ايار الذي يعد ف...ي التقويم العبري يوم الاستقلال هو في تقويم العربي يوم حداد عظيم، اعلن فيه رسميا حكم النفي المؤبد على الشعب الفلسطيني ونعت صحف الصباح اغتيال وطن اسمه فلسطين. لن نستعرض شريط الذكريات كله. وبالاخص منه مهزلة الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة يوم ذاك بشخص رئيسها ترومان ووزارة خارجيتها وديبلوماسيها في العالم اضافة الى الضغط الذي مارسه اليهود والصهاينة الاميركيين على اعضاء الامم المتحدة للتصويت على قرار تقسيم فلسطين.
فهذا الجانب كتب عنه الكثير الكثير. لكن الذي بقي مغمورا ولم يحظى بشهرة مجزرة ديرياسين الواسعة هي تلك المذبحة التي سبقت مباشرة قيام دولة (اسرائيل). فهناك مذبحة ظلت مجهولة ومسكوتا عليها طيلة العقود الاربعة الماضية، وكشف عنها النقاب لاول مرة في شهر مارس 1995 حين اصدر مركز الابحاث في جامعة بيرزيت في الارض المحتلة كتابا عنها ضمن مشروع المركز الخاص بالقرى العربية التي دمرت عام 48 والكتاب خاص بقرية ابوشوشة قضاء الرملة وقد جمع مادته من شهود عيان الذين بقوا على قيد الحياة الباحثان نصر يعقوب وفاهوم الشلبي.
وقعت مذبحة ابوشوشة عشية موعد انتهاء الانتداب البريطاني (يوم 14 ايار) وبينما القادة الصهاينة يعدون عدتهم الاخيرة لقيام الدولة، كانت شوارع ومساكن قرية ابوشوشة ما زالت مخضبة بدم العشرات الذين قتلوا او قطعت رؤوسهم بالبلطات، ولم تكن تلك الدماء قد جفت بعد. مشاهد المجزرة كما رواها الاحياء من قرية ابوشوشة تتابعت على النحو التالي: قبل يوم 14 ايار ادرك سكان القرية ان التعزيزات ؟الاسرائيلية؟ اقتربت من ابوشوشة استعدادا للانقضاض عليها. اجتمع شيوخ القرية واستبعدوا فكرة النزوح عنها كما رفضوا اقتراح بترحيل النساء والاطفال والعجائز، وقرروا ان يبقى الجميع للدفاع عن قريتهم على ان يدفعوا بالنساء والاطفال خاصة الى مغارات في نطاق القرية حتى يكونوا بعيدين عن مخاطر القصف. كان في القرية 70 بندقية منها عشرون اقرب الى العطب، ومع البنادق توفر لهم مدفع "برن" قديم وبضعة الغام. وزع المدافعون الاسلحة على انفسهم وانتشروا حول القرية كي يردوا الهجوم المرتقب. فجر يوم 14 بدأ الهجوم الصهيوني بقصف عنيف بمدافع الهاون طال المنازل والازقة والدروب وغطى تقدم وحدات المشاة التي نجحت في اختراق القرية من الشمال. وقد ووجه هؤلاء بمقاومة ما لبست ان انهارت التفوق الكبير في تسليح (الاسرائيليين)، في تلك الاثناء بدأت الوحدات اليهودية المرابطة في الجهات الاخرى بالزحف، وتمركزت قيادتها فوق عمارة باسم "دار الخواجة" كانت فوق تلة ذات موقع استراتيجي مهم، منها تم توجيه قواتهم باحاكم للاستيلاء على القرية، وهو ما تحقق بعد سقوط عشرة شهداء وانسحاب بقية المدافعين العرب. حين انتشرت العصابات الصهيونية في القرية راحت تطلق النار على كل شيء متحرك من البشر والبهائم. وجد الصهاينة عددا من العجائز فقتلوهم على الفور، كانوا اربعة تجاوز كل منهم السبعين من العمر واثناء المطاردة دخل مجموعة من ابناء القرية (اربعة) دار هاشم عوض الله، للاختباء فيها، لكن عصابات العدو شاهدتهم واقتحموا عليهم الباب.
وكما يروي احمد صالح البلبيسي الذي كان عمره آنذاك عشر سنوات، ان الجنود قالوا للعرب حين دخلوا عليهم "خسارة تموتون بالرصاص" وضربوا رؤوسهم بالبلطات. وبينما كان جنود العدو يداهمون بيوت القرية عثروا على بعض الشبان والقوا القبض عليهم وامروهم بالاصطفاف ووجوههم الى احد الجدران حيث رشوهم بالرصاص وقتلوهم جميعا. استمر سيناريو المجزرة: احد شباب القرية الذي كان يعمل حارسا على الزرع لدى اليهود ظن انه بحكم علاقاته بهم لن يؤذوه لكنهم اعدموه حين رأوه، وحتى العجزة لم يسلموا من عربدة عناصر فرق القتل الذين نشروا الموت في كل مكان. قتلوا الشيخ المقعد محمد عيسى ابوالسعود، والمرأة العجوز آمنة الحق، الشيخ الطاعن في السن محمد الحايك، وكانوا قد تركوا في منازلهم لصعوبة نقلهم الى المغارات، ووجد الطفل خليل محمد سلامة مذبوحا في وسط الشارع. وخطف محمد الزغموري ولم يظهر له اثر الى الان. وهناك من قال ان جثته وجدت في وادي المالح في غرب القرية.
بعد ثلاثة ايام من احتلال القرية اكتشف الجنود الصهاينة وجود السيدات والاطفال والشيوخ المختبئين في المغارات الثلاث. وتم ذلك مصادفة حين تسللت سيدة اسمها فاطمة نمر الصوالحة من احدى المغارات لكي تحضر بعض المياه للعطاشى، فلمحها الجنود وعرفوا منها قصة المختبئين. حينئذ ذهبوا الى المغارات وطلبوا من الجميع مغادرتها. على ان يتوجه كل انسان الى بيته. اثناء عودة النساء والاطفال الى بيوتهم صعقوا لرؤية الجثث المتناثرة في كل مكان، والمتعفنة بسبب الطقس الحار. وبعد مرور ثلاثة ايام هرعت النسوة الى واحد من الشيوخ تركه الصهاينة حيا هو الشيخ سلامة الذي نقل الى قيادة الجنود وابدينا رغبتهن في دفن الموتى. وحين سمحوا بذلك تشكلت لجنة من 6 نساء للقيام بالمهمة قدر استطاعتهن، جمعن بعض الجثث في الخنادق التي كانت معدة للدفاع، ووضعن جثثا اخرى فيما تيسر من حفر، واكتفين باهالة التراب على الباقين.
كان هناك قرارا بتهجير سكان القرية، لذلك استمرت عمليات القتل ودب الرعب في نفوس الاهالي. يذكر في هذا الصدد ان طفلا اسمه خليل الازعر عمره 10 سنوات كان مع امه في المغارة، وبعد ساعات من السماح للنساء بالذهاب الى بيوتهن عن السبب قالوا ستعرفين حالا، وبالفعل ذهب احد القتلة بالطفل مسافة عشرين مترا، وامام عيني امه رفع بلطة وانهال بها على راسه فانفلق ومات الولد على الفور، ثم التفت القاتل باعصاب باردة الى الام الذاهلة وقال، احكي للنسوان ما رايته. تقررت عملية الترويع على هذا النسق حتى جاء اليوم الذي نودي فيه على من تبقى من سكان القرية لكي يخرجوا من دورهم، وحين استجابوا وجدوا انفسهم محاصرين بين صفين من الجنود، وطلب منهم مغادرة البلدة باتجاه قرية القباب الواقعة شرق ابوشوشة، ولم يسمح لاحد بان يحمل شيئا معه، وارغم الجميع على السير باتجاه واحد فقط. ولحثهم على الاسراع بالخروج شرع احد جنود الصهاينة باطلاق الرصاص بين ارجلهم فاصيب كثيرون واجهضت سيدات وهرول الجميع هربا من الموت. ولم يسمع احد بالمجزرة سوى سكان القرية القريبة التي آوت من تبقى من اهل ابوشوشة.
لقد محيت القرية من الوجود وتحولت ارضها الان الى حدائق مزروعة بالخوخ والبرقوق تابعة لمستوطنة زراعية باسم "كرمي يوسف" واقيمت في تخوم القرية اربع مستوطنات اخرى. اما منحدراتها الجبلية ومنحدراتها فانها مزروعة الان باشجار المشمش. لكن قرية ابوشوشة لم تمحى من الذاكرة الفلسطينية والعربية والاسلامية لا هي ولا 240 قرية و15 مدينة التي تم احتلالها وتراوح مصيرها بين الاغتيال والاسر والابادة. ولا تزال الخريطة الكاملة لفلسطين حية في اعماق ملايين الفلسطينيين في الشتات وتحت الاحتلال.