حوار مع الكاتب الفلسطيني الساخر أكرم الصوراني
ضيف هذا الحوار الاستثنائي ومن داخل خيبته في دير البلح التي نزح إليها قادماً من رفح، هو أكرم غازي الصوراني إبن مدينة غزة، وهو من أبرز الكتاب الفلسطينين في مجال الأدب الساخر وأعماله وكتاباته تجاوزت خارج حدود فلسطين.
وجاء هذا الحوار الحصري في ظروف استثنائية، متزامنة مع حادثة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسماعيل هنية بغارة إسرائيلية على مقر إقامته في طهران.
يعيش الصوراني الكتابة الساخرة والناقدة المستقاة من واقعه المعاش ليستطيع وشعبه تجاوزه.
أكرم الصوراني حاصل على شهادة البكالوريوس في الحقوق وصدر له ثلاث مؤلفات “وطن خارج التغطية” أول كتاب ينشر له وكتاب” وطن نص كوم”، وكذلك كتاب “شسمو”.
يتجاوز أكرم الصوراني في كتابه “وطن خارج التغطية” السماء التي لا حدود لها بنقاش ونقد مستوحى من جدلية صمود الشعب الفلسطيني على أرضه الذي يعاني القهر والإذلال والاحتلال، كما يعاني الانقسام الداخلي والشرذمة الوطنية من جانب أخر، إذ يحاول الصوراني بث روح السخرية في نفوسنا كي ننظر لواقعنا المؤلم بتلك الحسرة المضحكة المبكية التي تضيع عادة في الوقت الذي جفت به أقلامنا وارتعدت به كلماتنا خوفا من الأخر وربما نفاقا له.
وفي وطن نص كوم جمع الصوراني كتابه الذي يحكي فيه هموم الوطن المحتل، ثلاثة وخمسين مقالاً سياسياً ساخراً له.
فتحدث عن الهموم الفلسطينية العامة والخاصة، وتداعيات الانقسام الفلسطيني الذي زاد أعباء الشعب الفلسطيني على المستويات كافة، استخدم الصوراني الكلمات العامية واللغة البسيطة بشكل كبير في كتابه الساخر من أجل إيصال أفكاره بسهولة إلى مختلف الشرائح.
وإليكم نص الحوار:
وطن خارج التغطية هو من الأعمال الأدبية الساخرة التي سلطت فيها الضوء على صمود الشعب الفلسطيني، وحاليا يعيش قطاع غزة حربا ضروسا مستمرة منذ 9 شهور جراء العدوان الإسرائيلي الغاشم هل وطن خارج التغطية تنبأ بالأحداث الجارية في غزة؟
ليته لم يتنبأ.. وليتني لم أكتب.. كانت الأحلام كبيرة.. وفجأة ودون سابق إنذار تبخّر كل شيء.. كأننا في ‘وطن خارج التغطية’ ‘وطن نص كوم’ و’شسمو’ وهي أسماء مؤلفاتي الثلاث التي كتبت فيها منذ سنوات وليتني لم أكتب أو كما يقول لي الأصدقاء أكرم لازم نحاكمك بعد الحرب لانك سنة 2015 كتبت “خيمة تخيبنا!” وعام 2018 كتبت “كلنا مشاريع شحادة”، وسنة 2020..
“في غزة”
دبّ انفجار
دب الحصار
دب الصوت
دب الموت
في غزة دب الرعب والزّفت
في غزة صَفَّينا على الاسفلت
في غزة من في غزة إلا أنت..
في غزة من في غزة.. لكن لا ترى في غزة إلا الموت!
وكامل النص بالنص والصوت على صفحتي على فيس بوك، وكنت قبل ذلك كتبت قصيدة “الأحّا” ضمن لقاء على الهواء، في ختامها خشيت من الإمام ودينا وأن تكون الآخرة سينا!..
وكنت جداً متفائل بأن أمتنا أمة واحدة ذات رسالة خامدة.. ومن شدة تفاؤلي كنت كتبت راح يجي يوم نصحى من النوم وتصحى الأمة وتحكي شالوم!
في “وطن خارج التغطية” ووطن نص كوم أيضاً كتبت “غزة على موعد مع التخلف” و”بالبكيني” وقراءة أولى في مشروع قانون الانقسام” و”جمهورية الشجاعية المستقلة”
كتبت “في الغباء الوطني” و”مش زمن عنتر” وكإنوا ع الفاضي وغزة خرجت ولم تعد وعن النكبة الثالثة والخيمة ثلاثية الأبعاد.. وها نحن في 2024 وصلنا الخيمة ووصلنا بالسلامة الى المجهول.
هل الانقسام الفلسطيني كان أحد أسباب طول هذه الحرب على القطاع ؟
الانقسام الفلسطيني كان ولا يزال عار ونكبة تضاف فوق رأس الفلسطيني أينما كان.. الانقسام شرٌ كله وباء حل على البلاد والعباد ولا نصر دون الوحدة الوطنية الفلسطينية هذا ما لست فقط أقوله لكن جل قيادات الفصائل وعلى رأسها حركتي فتح وحماس لا نصر ولا قضية ولا دولة ولا استقلال ولا هوية وطنية تعددية ديمقراطية ولا حرية تحت حراب الانقسام والاحتلال.. الانقسام والاحتلال وجهان لنكبة واحدة..
مالفت انتباهي كذلك انك تحدثت في كتاب آخر لك بعنوان وطن نص كم عن الصراعات الداخلية في البيت الفلسطيني ونكبة الانقسام، من منظورك هل نحن أمام تغريبة جديدة؟
رغم مشاهدتي مسلسل التغريبة الفلسطينية إلا أنّي كنت أحرص بين فترة وأخرى على إعادة مشاهدة المسلسل وتحريض أولادي على ضرورة متابعة التغريبة والنكبة الكبرى عام 1948، لم أكن أتخيّل يوماً أني سأكون شاهداً لا مشاهداً على نكبة جديدة، نكبة ديجيتال، نكبة ثلاثية الأبعاد، ‘4K’ بالصمت والصورة!
منُذ نزحت النزوح الأوّل من غزة إلى خانيونس كنت أَتردّد كل ليله في الكتابة عن يوميات الحرب، وكل ليله أضع على وجهي البشكير للوقاية من ذُباب الشّتاء وما تَيَسَّرَ من صراصير، وهو بالمناسبة ذُباب غبي وبليد جداً، لا يقل بلادة عن الغسيل الذي ننشف من الخوف وهو لا ينشف، القصف يشتد بعنف ليلاً، والذّباب أيضاً، ولا أسوء من الليل المليء بالقصف والذّباب إلاّ انقطاع الانترنت بين الفَنَّة والأخرى!
المهم “حتى الآن مازلنا أحياء” وهي عبارة جاهزة ومتوفرة في الأسواق لكل من يسأل ‘عن الحال’، ولأنه من الكذب والسخافه أن تخبر أحداً أنّك بخير ما عليك سوى نسخ العبارة أو أن تقول له حتى الآن مازلنا أحياء!.
كيف تقرأ بؤس الفلسطيني في حرب غزة؟
يقول “علي الشيخ يونس” اللاجئ في التغريبة الفلسطينية لوليد أبو سيف “لم تكن خشونة العيش جديدة علينا.. و لكننا نكتشف الآن أبعاداً جديدة للبؤس.. إننا نفعل الآن ما لم نكن نتصور من قبل أننا سنفعله.. إننا ننحدر بسرعة إلى حيث لا يبقى غير غريزة البقاء بأي ثمن.. علينا أن نتخلى عن ما نصفه بالمشاعر المرهفة لأنها الآن تعوق قدرتنا على التكيّف والبقاء، ولكن.. هل نستطيع أن نفعل ذلك دون أن نخاطر بمستوى إنسانيتنا! دون أن نتخلى عن إحترام الذات؟”
لقد اكتشفت كما علي أبعاداً جديدة للبؤس، وأكثر ما يؤذيني الآن هو التعوّد، قبل الحرب كنت لا أحب التعوّد على شيء، بعد الحرب صرت أخشى من التعوّد، ظهري مثلاً تعوّد على فرشة الأرض، أتخيّل أنّي لو عدت لبيتي ستؤلمني مؤخرتي من السرير، تعوّدت على حياة النزوح، كأنّ حياتي قبل الحرب كانت محض خيال، محض حلم، قبل الحرب كانت ذاكرتي “سَمَكِيَّه”، ضعيفه جداً، لدرجة أنّي ومع كل صورة أقلبها في الجوال أجدني نسيت تفاصيل معظم حياتي قبل الحرب.. بعد الحرب لم أعد أنسى شيء فأنا اليوم رجل بلا ذاكرة!
لقد فقدت نسختي القديمة من نفسي، ومع أنها كانت متخمه بالمشاكل والهموم إلا أنني اكتشفت بعد الحرب أنها كانت أكثر سعادة وراحة وطمأنينه.. وبعد الحرب فقط اكتشفت معنى راحة البال ومعنى قهر الرجال!
مشاهد النزوح مُبكيه.. لا حروف تصفها.. وحدها الدموع تُدَوِّن الحدث
أكرم الصوراني في دير البلح
مؤخرا كتبت مقالا في أنباء إكسبريس حول خيمتك في رفح، ماهي العلاقة الرمزية بين خيمة رفح ووطن نص كوم ؟
دعني أفضفض لكم من قلب الخيبه وأطمئن الجميع عرب وعجم وفرس وروم وهكسوس ومسلمين أنه ما من داعي للقلق علينا في غزة فنحن لسنا بخير ونموت كل دقيقة والحرب رائعة وحققت لنا انجازات غير مسبوقة!
فأولادي كانوا يذهبون للمدرسة ويحملون الكتب على ظهورهم كما حمّالة الحطب نَحَلت أجسادهم وانحنت ظهورهم وألقوا الكتب في النار علّها تزيد من لهب الحطب وَلَّعوا بالتاريخ وبالجغرافيا وبالتربية الوطنيّة وهذا انجاز غير مسبوق!
كان آخر همنا الأكل صار أوّل همنا الأكل، وبعد مشاهدة الناس وهيّا تهجم على قوافل المساعدات وتحصل على ما تيسر من طرود تشاهد لأول مرّة في حياتك الفقر وهو يمشي على عكاز، وتتمكن بكل سلاسه دون الحاجه لمدرس قواعد خصوصي من استيعاب معنى الحرمان واعراب جملة “الجوع كافر” وهذا انجاز غير مسبوق!
كنّا متعودين ننام على “تخت” وفرشه خمالتها 30 سم صرنا ننام على الأرض لغاية ما حصلنا على فرشة خمالتها 4 سم وهذا انجاز غير مسبوق!
نساؤنا كانت تستخدم غسالات “فل أوتوماتيك” تعلّمو غسيل “الطشت” والبَح والعصر اليدوي في العصر الحادي والعشرين وهذا انجاز غير مسبوق!
أولاد أختي كانوا “مأنَّفين”ويغسلو الخضرة والفاكهة بالخل صاروا يأكلوها بدون غسيل وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنت أنام على صوت الهدوء صرت أنام وأصحى على صوت “سرسكة اسنان” طلعت اسنان “أبو السّيد” فرشته مقابل فرشتي وأسنانه في وداني، والمنبه بتوقيت “شَخّة خضر”، والصحوة من صراصير الصبح على صوت أصغر نازح الطفل المعجزة “مروان” الذي يشبه في شكله وحركاته السريعه الخاطفة لكل شيء حتى للنّوم من عيونك الطفل الشهير في فيلم “هوم ألون”.
وبالعودة لقصة “شخّة خضر” خاصة لمن يقتله الفضول، يرن منبه جوال والدة خضر كل ليلة عند الثالثة بعد منتصف الليل وهو توقيت “شخته الليلي”، لانّو خضر لو ما “شخ” في هذا التوقيت مشكلة، مشكلة مع تفاصيل تحميم الأطفال في الحرب، ومشكلة مع نشر الفرشة، ومشكلة بين الفرشة والمطر، ومشكلة مع غسيل الأواعي.. حدوته تدوخ وأنت تطل وتشرح تفاصيلها، المهم صرنا ومنعاً للمشاكل نصحى كل ليله على صوت رنّة الجوال وصوت ‘شخّة خضر’ دون أي تَأَفُّف أو تَذَمُّر وبصمت عالي المستوى وهذا إنجاز غير مسبوق!.
كان عنّا بيوت وأبواب وشبابيك صار عنّا خيمة وصرنا ننام فيها وعاملين “رحلة سفاري” مفتوحة ومجانية وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نشتري البندورة والخيار والبطاطا والبصل بالكيلو والرطل صرنا نشتريهم ‘زي الأجانب’ بالحبّة وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنا بكرش ومتختخين وأقل واحد فينا 100 كيلو عملنا ريجيم رباني وأقل واحد نزل 30 كيلو وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نشرب الشاي مع السكر والملح نرشو رش صرنا عاملين حميه طبيعية وبطلنا السكر والملح وهيك ضمننا حياة صحيّه من غير سكري ولا ضغط وهذا انجاز غير مسبوق!.
كانوا الأولاد يروحوا ع المدرسة يتعلمو صاروا يتعلمو تجارة المعلبات وبيع كراتين المساعدات وتطيير الأطباق ولعب الجلول في الخيم والحارات والشحدة على البسطات وهذا انجاز غير مسبوق!
كانت الناس تعذّب حالها وتلبس وتصحى الصبح على شغلها صارت تصحى وتنام بنفس الأواعي وتداوم على أبواب البنوك ومحلات الصرافه لاستلام الحوالات وبتداوم على طابور الطحين وطابور الغاز والبنزين وإرتاحت من الشغل وهذا انجاز غير مسبوق!
العلاقات الاجتماعية كانت قائمة على النفاق والمجاملة اليوم بعد الحرب الناس لعنت بعض وكشفت حسب بعض والحماية دقت بالكنّه والكنّه دَقّت بأمها وأمها دقت بخالها وخالها دق في عمها وعمها دق في أبوها وأبوها دق في الخشبة مسمار وعمل خيمة وكتب عليها دار أبو ازدهار وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نركب سيارة لباب الدار صرنا نمشي أميال وأمتار ونركب عند اللزوم توكتوك وجار ومجرور وشحن تبع العجول وكارة حمار وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا ما يعجبنا العجب و”نتمزرط” شو ناكل وايش نطبخ بعد الحرب صرنا ناكل كلشي ما عدا الأكل ونطبخ كلشي ما عدا الطبيخ وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نتحمم مرتين في الأسبوع صرنا نتحمم ولا مرّة في الشهر وهذا انجاز غير مسبوق!
كنّا اصحاب إحنا واللحمة والجاج وكانت بيننا عِشرة عُمر وعِشرة مقلوبة وقِدَر صرنا لمّا نشوفهم كإنّا بنتقابل لأوّل مرّة ونفسنا يطوّل الحُضن وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا مش فاهمين شو يعني “دخول الحمّام مش زي خروجه” بعد الحرب فهمناها كتير صار لما بدّك تروح الحمام لازم تاخد معك لفّة الفاين تبعتك معك وتقتصد في التمسيح، وفي ترشيد استخدام المي، هاد لو كان في مي لانك فجأة تكتشف أن أصعب وأوسخ أنواع الاصابات في الحرب إصابة غادرة بالاسهال والمي قاطعه ومطلوب تدبّر حالك وتدخل في صراع سيكولوجي بين عقلك ومؤخرتك ويحسم عقلك الصراع لصالح الاحتفاظ بالفضلات في بطنك، وصارت الرحلة الليلية من الخيمة للحمّام ومن الحمّام للخيمة فرصة لتأمّل الطبيعة وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نشتري أكلنا وشربنا وتفاصيل بيوتنا صرنا نستلم طحين ومعلبات وتمر وفرشات ودبان أوّل مرّة أشوفه بحياتي وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا نعرف منيح عزّة النفس ونعرف منيح الكرامة.. بعد الحرب تعرفنا عليهم أكتر.. وزي ما بحكو ما بتعرف حد إلا لمّا تعاشرُه.. والعِشرَة ما بتهون إلا على أولاد الحرام.. هانت عليهم العِشرة.. وهُننا على أنفسنا وهذا انجاز غير مسبوق!.
كانت تدفينا حيطان بيتنا.. وكانت لمّة العيلة أحلى ما في العيلة.. بعد الحرب صار كل حدا في مكان وصار السفر ع الدّور كشوفات ودولارات وعائلات بتسيب البلد وتهاجر أسراب زي الحمام الزاجل وهذا انجاز غير مسبوق!.
صارت الناس تبيع سياراتها ومصاغ ذهب زوجاتها بثمن رخيص وتافه من أجل تأمين مبلغ الهروب وهذا انجاز غير مسبوق!.
كان المدخنين في اليوم يحرقوا في اليوم علبتين دخان وبعد الارتفاع الجنوني في كل أسعار السلع ومنها الدّخان، الذي وصل سعر سيجارتين ما يعادل سعر علبتين، توقف العديد عن السجائر ما أدى إلى تحسُّن جودة صحتهم ورئتهم وريحة نفسهموهذا انجاز غير مسبوق!.
الناس تعوّدت على شرب الميّه أيّاً كان مصدرها ونسبة تلوّثها وتعوّدت معدتها على البكتيريا وباتت الاصابة بالانفلونزا والكبد الوبائي أمر عادي ولو شربت ميّه معدنيه وأكلت أكل حقيقي ومحترم ستصاب بالمرض من النضافة غير المعتادة.. مناعة الناس أصبحت عالية جداً ضد الأمراض والجراثيم وهذا انجاز غير مسبوق!.
كنّا ولا مرّة نتخيّل كيف في ناس بتنام في خيمة.. بطّلنا نتخيّل.. صارت الخيمة حقيقة.. نسينا حياتنا قبل الحرب.. كإنها كانت حلم.. راح البيت وراحت كل تفاصيل حياتنا.. وتشفّرت أحلامنا.. وتفرمَتَت ذكرياتنا.. وصارت الخيمة بيتنا.. وصرنا مشرديّن وهذا كله انجاز غير مسبوق!.
كلمة ختامية
ختام آخر أيامنا في غزة وأعقاب القصف طلعنا في الشارع وطلعنا غلطانين.. أي كُنّا مُخطئين عندما عاقبنا ابننا الصغير يوماً ما بتهمة كسر الفنجان لم نكن نعلم أننا أيضاً ننكسر!
بعد أسطوانة جيش الاحتلال بالاخلاء والنزوح قسراً لم نترك خلفنا شيء إلا وتركناه، تركنا المنزل والشبابيك والستائر والصابون ومعجون الحلاقة والكنب وكل الفناجين حتى الطقم المُعتَقَل بالبوفيه بتهمة ‘هاد ممنوع يطلع إلا لهادولاك الضيوف!’ والليمونه التي كنا نحرص دائماً من باب الهبل على وضع نصفها في باب الثلاجه الذي ربما هو نفس الباب الذي غنّى له عاصي عمرك شفت شي باب عم يبكي..؟ لأ.. شفت خيمة!
تركنا خلفنا حوارات ونقاشات وطوش وقُبَل لم تكتمل على السرير وبقايا طعام وزجاجة كولا سعة لتر وربع وكاسات كرتون وحواديت ما بعد العشاء وخصوصيات تناثرت على الشارع وسلسلة مفاتيح وسلسلة مشاكل كانت تبدأ ولا تنتهي!.
تركنا خلفنا أوّل قُبله، وأوّل سنة حب، وآخر الممر والجزّامة ورائحة الجرابين والكلاسين وصوت الغسّاله المُزعج و’الوجبه البيضا’ وتعليمات الحكومة المنزليّة “ميّة مرَّة حكيت تشلحوا الجزم ع الباب.. طارت الجزّامة وطار الباب وطار معه برج من نافوخي!.
القصف حتى اللحظة يكاد لا يتوقف.. يبدو نسف لمربعات سكنيه “الصوت واصلنا من السما والارض”.. الزنانات فوق رأسنا أيضاً لا تتوقف، و’الكوادكابتر’ رعب في الليل خاصة عند الذهاب للحمام.. وصلنا العراء.. بين السماء والطارق.. بالبلدي في الشارع..
نزحنا من رفح كما الآلآف تحت تهديد القصف العنيف.. وصلنا كما يعتقد البعض الحلقة قبل الأخيرة.. وصلنا “المواصي” وهي منطقة قريبه جداً من البحر ‘خمس دقائق مشي’ ووصل معنا ذباب حقير وحشرات ناشونال جيوغرافيك لم تتعرف عليها بعد.. فقدنا غزّة وحياتنا وممتلكاتنا هناك وفقدنا آدميتنا في الخيمة.. قريباً سنتحول لكائنات برمائيه وفي أحسن الأحوال لماوكلي فتى الأدغال..
الحمدلله عندي خيمة غيري مش ملاقي.. خيمة تخيبنا.. حلمي في السّفر تبخّر بعد احتلال المعبر.. آمل أن لايحدث معنا كما حدث مع حلمي!
مازال بحوزتي “أوقية أمل” أن تنتهي الحرب قريباً مع أن ذلك بعيد.. ومازال بحوزتي أمل أن يحفظ الله أسرتي وعقلي بعد أن انتهت صلاحيتنا للحياة!.
الاتصالات صعبه.. والانترنت رديء بعض الشيء “ما أجتش عليه” بعد ما الدنيا كلها أجت علينا!.
وبودّي أن أخبركم أن السنة الدراسية انتهت ولأوّل مرّة لا أكون فخور بتفوّق أولادي.. خالد وكارمن سنة أولى خيمة!، بدأنا فصلاً جديداً من المعاناة والخيبه.. “دير البلح”..
النزوح الرابع.. والمحطة القادمة في علم الغيب!، من تحت القصف، من فلسطين من غزّة، إلى خانيونس، إلى رفح، إلى المواصي، إلى الخيمة، الى دير البلح “وصلنا بالسّلامة الى المجهول ولم تصل أحلامنا بَعد، ولم تصل آمالنا بَعد وأخشى أن تكون قد تَبَخّرَت في الطريق!”
وداعاً.. أكرم الصوراني