جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
مات الشيخ بسام أبو زيد رحمه الله قبل أن يمضي عليه ستون عاما ولكن كانت هذه السنوات كافية أن يستثمر الشيخ المرحوم كل ثانية منها وان يصنع خلالها سجلا حافلا من الأعمال الجليلة والمواقف المشرفة في مسقط رأسه مدينة يافا. فهناك في يافا عروس البحر ومنذ بداية السبعينيات قبض الشيخ المرحوم على دينه كالقابض على الجمر وسط غربة مرة وفساد جامح، وقد أدرك سلفا أن تمسكه بدينه يعني له تمسكه بهويته الإسلامية العربية الفلسطينية، ويعني له التمسك بالثوابت والقيم التي لا تفاوض عليها ولا تنازل عنها في يوم من الأيام، ويعني له التمسك بالرباط حتى الممات في بيته وأرضه ومقدساته في يافا. وهناك في يافا دون أن ينتظر مددا إلا من الله تعالى فقد صدع الشيخ المرحوم بكلمة الحق من على منبر المسجد الكبير لا يخاف في الله لومه لائم. وقد أكرمني الله تعالى وسمعت الكثير من خطاباته ودروسه ومواعظه فكان يفتتحها بقوله: هنا صوت الإسلام من مدينة يافا وظل صادعا بكلمة الحق ولم يصمت حتى مات، وقد تعرض للأذى الشديد بسبب هذه الكلمة إلا انه لم ينكسر فقد استدعي الشيخ المرحوم لسيل من التحقيق العبثي الاستفزازي من قبل بعض اذرع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وهددوه في لقمة طعامه وشربة مائه وقابلية بقائه في بيته إلا انه لم ينكسر، وقد وصل الأمر وألقى على بيته بعض الحاقدين الإسرائيليين القنابل وأرسلوا له رسائل التهديد بأحط الأساليب إلا انه لم ينكسر وظل صامدا كالطود الشامخ يردد بلا خوف ولا وجل : هنا صوت الإسلام من مدينة يافا. بعيدا عن الدعم والاستطلاعات نعم بعيدا عن الدعم المالي الذي تحظى به بعض الجمعيات في مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل من صناديق أوروبية وأمريكية لا بل من صناديق صهيونية بهدف الحفاظ- في حساباتها- على هويتنا الوطنية وبهدف الحفاظ في حساباتها على حق العودة لكل لاجئ ومهجر !! وبهدف الحفاظ في حساباتها على تراثنا الفلسطيني !! وبهدف مقاومة الخدمة المدنية ومخاطر الأسرلة في حساباتها!! وبعيدا عن عقد الأيام الدراسية التي اعتادت أن تغمرنا بها بعض الجمعيات في مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل وبعيدا عن جيوش التوصيات التي اعتادت أن تستعرضها أمامنا كالمارش العسكري بهدف أن ترشدنا كيف نبقى عربا ؟! وكيف نبقى فلسطينيين ؟! وكيف نتكلم اللغة العربية ؟! وكيف نتمسك بحب الأرض والبيت والبيدر وزيت الزيتون والزعتر ؟! وكيف نحافظ على جذور الآباء والأجداد ؟! وبعيدا عن الاستطلاعات الساخنة التي اعتادت أن تمطرنا بها بعض الجمعيات في مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل كي تكشف لنا - مشكورة - عن نسبة من يختارون منا فلانا أو فلانا أو فلانا كي يحظى بلقب رجل العام أو حتى تكشف لنا عن نسبة انتشار هذه الصحيفة أو تلك من صحفنا في الداخل الفلسطيني أو أن تكشف لنا عن نسبة من يؤيدون المنتخب الايطالي أو المنتخب الاسباني أو المنتخب الفرنسي . بعيدا عن كل ذلك وبعيدا عن انتظار أي دعم مالي من تلك الصناديق وبعيدا عن الهرولة لعقد مئات الأيام الدراسية بسبب أو بغير سبب . وبعيدا عن الحرص الشديد - غير المبرر في كثير من الأحيان - على نشر نتائج استطلاعات على الحامي والبارد، نعم بعيدا عن كل ذلك فقد شمر الشيخ بسام أبو زيد رحمه الله عن ساعديه وراح ينقذ شباب يافا لوحده من خطر الضياع أو من خطر الإدمان على المخدرات أو من خطر الذوبان، ذوبانا منتحرا في المجتمع التل- ابيبي الملاصق ليافا أو من خطر الغرق في بحر لجي من الفساد أو من خطر انقراض اللغة العربية وآدابها والتزاماتها، ولم ينس الشيخ المرحوم أن يخصص قسطا من وقته وجهده لرعاية جيل الفتيات، ولأن كلمته كانت حرة ولان جهده كان مخلصا ولان عطاءه كان في الظل بعيدا عن أضواء الإعلام وتصفيق الجماهير لأنه كان كذلك فقد انبت جهده جيلا مؤمنا من الشباب والفتيات،سيماهم في وجوههم من اثر السجود منزرعين في يافا من المهد إلى اللحد ومرابطين في أرضهم وبيوتهم ومقدساتهم وفخورين بهويتهم الإسلامية العربية الفلسطينية ولسان حالهم يقول :" نحن على العهد يا يافا " . لولا هذا الجيل رغم أن الكثير منا قد كتب المطولات - مشكورا - لنصرة يافا ورغم أن الكثير من حركاتنا وأحزابنا السياسية في الداخل الفلسطيني قد وزعت آلاف المناشير - مشكورة - للدفاع عن مقدسات يافا ورغم أن الكثير من أعضاء الكنيست العرب قد قدموا الاستجوابات - مشكورين - شاجبين بشدة كل مظاهر الاعتداء على المساجد والكنائس والمقابر في يافا .رغم كل ذلك لا يمكن إخفاء الحقيقة كما لا يمكن حجب الشمس بغربال، نعم لا يمكن إخفاء الحقيقة التي تقول : لولا هذا الجيل من الشباب والفتيات الذي بناه الشيخ بسام أبو زيد رحمه الله ولولا جهود هذا الجيل بعد فضل الله تعالى لضاعت مساجد يافا ومقابرها وبعض كنائسها، ولكن هذا الجيل هو الذي أنقذ مسجد حسن بك بعد أن كاد يباع بيعا حراما آثما بثمن بخس دراهم معدودة، وهذا الجيل هو الذي أنقذ مسجد المينا بعد أن كان وكرا للفساد وبعد أن كان متصدعا يكاد ان يزول، وهذا الجيل هو الذي أنقذ مسجد النزهة بعد أن كان نسيا منسيا اتخذه البعض سكنا لهم، وهذا الجيل هو الذي أنقذ مسجد الجبلية بعد أن كادت مشاريع تهويد يافا المشؤومة تبتلعه وتحيله إلى مطعم وخمارة أو " قصرا" لأحد الخواجات الأثرياء، وهذا الجيل هو الذي أنقذ المسجد الكبير هذا المبنى الكبير ذو الطابع العثماني الفاخر، وهذا الجيل هو الذي أنقذ مسجد العجمي هذا المسجد المتألق بمئذنته الشامخة التي لا تزال منتصبة منذ عشرات السنوات كأنها الحارس الأمين لبحر يافا وهذا الجيل هو الذي لا يزال يصر على إنقاذ مسجد الطابية ومسجد السكسك ولو بعد حين، وهذا الجيل هو الذي تصدى لاعتداء إرهابي قام به متطرفون يهود على كنيسة يافا، وهذا الجيل هو الذي أنقذ عشرات المقابر التي كادت أن تنبش بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية عظام موتاها وتلقيها في البحر وان تقيم على أنقاضها الفنادق والمتنزهات والأحياء السكنية . وهذا يعني بفصيح العبارة بركات أن هذا الجيل ما هي إلا بركات جهاد وجهود الشيخ بسام رحمه الله. في وجه غرشون بيرس كان ذلك بعد أن حبك البعض الرخيص مؤامرة بيع مسجد حسن بك في مطلع الثمانينيات للمدعو غرشون بيرس بهدف أن يصبح المسجد في حسابات هذا الغرشون محلا تجاريا يحمل بصمات الفن المعماري القديم وكادت أن تتم صفقة البيع، وكاد هذا الغرشون أن يشرع بمسخ المسجد ممنيا نفسه انه سيقص شريط افتتاحه محلا تجاريا ذات يوم وكادت هذه الجريمة بكل هذه الأبعاد أن تقع لولا أن الشيخ بسام أبو زيد كشف هذه المؤامرة وهي في مهدها فماذا فعل يومها ؟ لم ينتظر أحدا حتى يؤازره بالانتصار للمسجد ويومها لم يجد نفسه مضطرا أن ينتظر لجنة المتابعة العليا حتى تعقد اجتماعا طارئا ثم تدعو إلى نصرة المسجد، ويومها لم يجد من المجدي أن يواجه مؤامرة بيع المسجد بمظاهرة جبارة أو بتظاهرة احتجاج أو بمهرجان شعبي كبير بل قام يطوف لوحده بين قرانا ومدننا في الجليل والمثلث والنقب يكشف لنا عن تلك المؤامرة الآسنة ويدعو علانية لشد الرحال من كل مواقع مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل لنصرة المسجد ورص الصفوف وأداء صلاة الجمعة في رحاب ذاك المسجد المهدور الكرامة فكان أن زحفت عشرات الحافلات في يوم جمعة موعود ومشهود من الجليل والمثلث والنقب إلى مسجد حسن بك وحقا كان يوما مشهودا، كنا فيه آلافا واستمعنا إلى خطبة الجمعة يومها والتي كانت أول صلاة جمعة تقام منذ 1948م في ذاك المسجد، وبطبيعة الحال فقد كان خطيبنا الشيخ بسام ثم صلينا خلفه مؤكدين أننا لن نسمح لهذا المدعو غرشون ولا لمن هم على شاكلته ان يهدروا كرامة هذا المسجد ثم تواصلت همة إعمار ذاك المسجد وإعمار مئذنته التي كانت آيلة للسقوط . وها هو اليوم نعم المسجد الشامخ وها هو اليوم ورغم الفنادق التي تحيط به إلا أن الأهل في يافا يواصلون رفع الأذان من على مئذنته صباح مساء ويواصلون اداء الصلاة فيه منذ الفجر حتى العشاء وهكذا شاهت وجوه المتآمرين وخابت مؤامرتهم وعاد هذا الغرشون لا أقول" بخفي حنين " بل عاد بلا أي خف والحمد لله تعالى . معركة مقبرة طاسو لم اختر هذا العنوان للإثارة الإعلامية ولا لجذب الانتباه بل هي الحقيقة بلا وكس ولا شطط حيث كانت هناك معركة تخللها إطلاق الرصاص ووقع فيها جرحى وتعرض البعض للاعتقال ! متى حدث ذلك ؟! كان ذلك في مطلع الثمانينات يوم أن ضاقت حلقة المؤامرة على مقبرة طاسو وكادت المؤامرة أن تمر وكادت بعض اذرع المؤسسة الإسرائيلية أن تنبش عظام من فيها من موتانا وكادت أن تشق على أنقاضها شارعا قطريا عملاقا ولكن الشيخ بسام أبو زيد كشف عن حبائل تلك المؤامرة وهي في مهدها فلم يتردد ولم يتلعثم ولم يواجه مؤامرة تدمير المقبرة فقط بخطاب ناري وكفى الله المؤمنين القتال، بل أطلق صرخة استغاثة عاجلة باسم مقبرة طاسو في أهل يافا فالتف حوله المئات من الأحرار الذين هبوا إلى العمل فورا دون تأخير ولو لثوان معدودات . نعم هبوا للعمل وقسموا عددهم إلى مجموعتين: الأولى وقف على رأسها الشيخ بسام أبو زيد حيث شرعت تطوف مدننا وقرانا بلا كلل أو ملل وشرعت تجمع التبرعات المالية بلا توقف. أما المجموعة الثانية: فهي التي بدأت تبني سورا عملاقا حول مساحة كل مقبرة طاسو الواسعة ولم يكن عملهم سهلا بل ظلت بعض اذرع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تداهمهم كل يوم خلال بناء السور العملاق حيث كانت تقوم هذه الأذرع الأمنية الإسرائيلية بإطلاق القنابل المسيلة للدموع على العاملين في بناء السور وكانت تعتقل العشرات من الفتية الذين واظبوا على بناء السور ورغم كل تلك القنابل ورغم الدماء التي سالت من جراح الكثير منهم ورغم الهراوات القاسية التي كانت تلتهم من أجسادهم رغم كل ذلك قام الأهل في يافا يتقدمهم الشيخ بسام أبو زيد رحمه الله لنصرة مقبرة طاسو وظلوا على هذا الحال من التحدي الذي يرفع الرأس في وجه المتآمرين على مقبرة طاسو يجمعون المال وفي نفس اللحظة يواصلون بناء السور وصمدوا وهم على ذلك الحال في معركة مقبرة طاسو على مدار أسابيع طويلة حتى تكللت همتهم بالنجاح وأتموا بناء كل السور وهكذا حفظوا مقبرة طاسو التي كانت مهددة بالزوال، ويشاء الهه تعالى ويموت بطل هذه المعركة الشيخ بسام أبو زيد يوم السبت الماضي الموافق 5-7-2008م ثم يشاء الله تعالى ويدفن الشيخ بسام في مقبرة طاسو يوم الأحد الماضي الموافق 6-7-2008م وهكذا حفظ الشيخ بسام مقبرة طاسو وهو حي وحفظته وهو ميت وصدق من قال كما تدين تدان. جسد مريض وهمة عالية هكذا وجدت الشيخ بسام أبو زيد رحمه الله منذ أول لحظة عرفته فيها وقد أنهكت جسده الأمراض ولكن همته العالية أبت عليه أن يجلس في بيته ولو جلس لكان معذورا ثم اشتدت عليه الإمراض ولم يعد يقوى أن يقف على قدميه . ومرة أخرى أبت عليه همته العالية أن يجلس في بيته بل دفعته أن يواصل تجواله بين قرانا ومدننا في الداخل الفلسطيني وهو قعيد على عربة وهكذا ظل الشيخ بسام أبو زيد طوال حياته يلبي كل دعوة وينصر كل صيحة ويجيب كل نداء وكأن لسان حاله يقول : يقولون لي: ما أنت في كل بلدة وما تبتغي؟! ما ابتغي جلّ أن يُسمى وقام ولم يقعد ينشد الراحة من خلال التعب المطلوب لنصرة دين الله تعالى ولذلك لا أبالغ إذا قلت إنه ما من بقعة أرض من أرضنا الطيبة في الداخل الفلسطيني إلا ولها مع الشيخ بسام أبو زيد بعض الذكريات فهنا على هذه البقعة الطيبة في الجليل ألقى كلمة في حفل عرس إسلامي أو مهرجان كبير أو مظاهرة حاشدة وهناك على تلك البقعة المباركة من أرضنا الطيبة في المثلث شارك بوضع حجر أساس لبناء روضة إسلامية أو عيادة إسلامية أو مدرسة أهلية إسلامية وهناك على تلك البقعة من أرضنا الطيبة في النقب شارك بوضع حجر أساس لبناء بيت من بيوت الله تعالى أو بناء بيت لعائلة مستورة أو إعادة بيت هدمته المؤسسة الإسرائيلية وهناك في كل شبر من أرضنا الطيبة في يافا جهر الشيخ بسام أبو زيد بكلمة الحق وتصدى لكل مؤامرة رخيصة رامت هدم كرامة احد بيوتنا أو احد مساجدنا أو إلحاق الأذى بإحدى الكنائس أو أحد المقابر وجال من بيت إلى بيت ومن مدرسة إلى مدرسة ومن مقهى إلى مقهى في أحياء يافا وشوارعها يقتلع الفساد من جذوره ويصلح ذات البين ويرد شبابا وفتيات إلى آبائهم وأمهاتهم ويردد بين الأهل أنشودة الثبات والإقدام واليقين ولأن الشيخ بسام أبو زيد كان كذلك فلم يعش لنفسه بل عاش لله ثم لشعبه ومن عاش كذلك فقد عاش كبيرا ومات كبيرا ونسأل الله تعالى أن يُبعث كبيرا .وأخيرا وليس آخرا السلام عليك يا شيخ بسام يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.