
عام 1942م تزوجت وانتقلت للعيش في الخليل، هذه المدينة التي لم يكن يربطني بها سوى كونها مسقط رأسي، كنت أزورها في الصيف حيث كنا نقيم في كرومنا لعدة أشهر في منطقة سبتة، من تلك الفترة أذكر جيدًا صوت الرصاص في الأرجاء بفعل الاشتباكات الدائمة بين الثوار والجيش البريطاني، كان أمي تلزمنا بالدخول للبيت وتخرج هي من أجل قضاء حاجيات البيت من الخبز والتقاط الثمار والخضروات المزروعة في بستاننا، وأذكر جيدًا ذلك الرجل الغريب في واد التفاح، الذي قنصه جنود الجيش البريطاني وقتلوه وهو يمشي دون أي سبب، ولدت في بيت لحم حيث كان يعمل والدي حلاقًا في باب الدير، وكان بيتنا في أسفل المنحدر المفضي لمسلخ البلدية، درست في مدرسة بيت لحم الأميرية للبنات، وتلك الطريق الصاعدة التي كنت أمشيها نحو المدرسة، صعدتها بسيارة وأنا ارتدي الأبيض وحولي النساء القادمات لأخذي للخليل كعروس متعبات من كثرة المطر ذلك اليوم.
عدت للخليل، تلك المدينة التي كان جدي يملك فيها فاخورة (مصنع فخار) بجانب الحرم، كان يصنع صحون الفخار وغيرها، تلك الصحون التي تم توزيع طعام زفافي فيها على المدعويين، كانت تأتي النساء لحفل الزفاف وهن يحملن معهن ملاعقهن لعدم وجود عدد كافي في بيت الزفاف، وعندما تعود النسوة لبيوتهن يحملن معهم صحن الفخار إلى جانب الملعقة، عشت في حارة السواكنة ثم في شارع بئر السبع، حتى انتقلت أخيرًا لبيت جدي فوق مقبرة اليهود، وهناك كنا على مسافة ممتازة لنراقب انسحاب الجيش البريطاني من المدينة قبل حرب النكبة عام 1948م، وكان خروجهم من الكرنتينا يحمل قصة، عندما لاحق آخر الجنود أولادنا بين الصخور في المنطقة، وكأنهم لم يرتووا بعد من دمائنا التي استباحوها لعقود طويلة.
في منتصف الستينيات كان هنالك أكثر من 20 شخص يحملون الجنسية الأمريكية، بدأو بالحفر والتنقيب في منطقة تل الرميدة، أكثر من عامين وهم ينقبون ويحملون ما يجدونه في الموقع، من كسر فخارية وغيرها من اللقى الأثرية في مقاطف نحو الكراج، ثم ينطلقون بها إلى مقر البعثة الاثرية في مدرسة ابن رشد حيث كانت تعمل فقط في الصيف، كانت المدرسة هي الوجهة الأخيرة لتلك اللقى ثم لم يعرف أحد مصيرها حتى اليوم، في تلك الفترة وبعد احتلال المدينة اثر النكسة عام 1967م كل شيئ اختلف في المدينة، والعديد من الشواهد اختفت، لا استطيع وصف ذلك لكن الذكريات الأليمة تعود في كل مرة بعد نسيانها، خرج الرجل الودود ابو حسن الشامي مطهر الاولاد الذي كان يجلس باب قهوة بدران عائدًا نحو دمشق ولم يعد ثانية، وتلك الفتاة اللاجئة التي جعلها الخوف تقفز داخل البئر في أرضنا لتموت في ظلمة أبدية، تجعلني في كل أمرة أتنهد لأن ذلك الماضي ذهب بعيدًا، لكن المستقبل لا يزال أكثر غموضًا وظلمة.
جانب من لقاء فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي يوم أمس الثلاثاء الموافق 28/1/2025 مع السيدة عزية علي نيروخ مواليد بيت لحم 1929م. الشكر موصول لها ولعائلتها على حسن الضيافة والاستقبال، وخاصة نجلها السيد محمد سعيد نيروخ مواليد عام 1948م على تفاصيله المكملة لبوح الأم.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
29/01/2025

