خنساء فلسطين
فاطمة العاروقي
خنساء فلسطينية تودع عشرة شهداء
من أشقائها وأبنائها وأحفادها
استشهد شقيقها في نكبة 1948
وابنها الأول عام 1956 والثاني 1967
وثلاثة في الانتفاضة الأولى (زوجها وحفيداها يوسف وجمعة)
واربعة في أنتفاضة الاقصي أبنها سلمان العاروقي وابنة نعيم العاروقي
وحفيدها يحي وعمر اخوة الشهيدين يوسف وجمعة أبو محيسن
حيث أصبحت أما لعشرة شهداء والمسيرة لم تنتهي بعد
إلى الشرق من مخيم «المغازي» وسط كروم اللوز والزيتون, تعيش خنساء فلسطينية, قدمت أول الشهداء في نكبة عام 1948, وآخرهم قبل حوالي عشرة أشهر في أيار 2001 خلال أحداث انتفاضة الأقصى.
وفي تلك المنطقة النائية من قطاع غزة, عُرفت الخنساء الفلسطينية بـ «أم الشهداء» التي بدأت في سباق مع الموت منذ العام 1948 وحتى الآن اذ فقدت سبعة من الشهداء, ولم تستطع لغاية الآن خلع ثياب الحداد..
إنني أعيش حسرة وألماً منذ ثلاثة وخمسين عاماً بثياب الحداد التي أرتديها دائماً, وكلما مرت سنوات واعتقدت بأنه باستطاعتي ان أعيش كأي أم, ذقت مجدداً مرارة فراق الأحبة, وبقيت هكذا بعد أن فقدت سبعة من الشهداء, ففي نكبة عام 1948 استشهد شقيقي جمعة العاروقي, وبعد سنوات وفي عام 1956 استشهد ابني «سلامة» في خانيونس في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر».
وكان ابني الشهيد «سلامة» ضمن مجموعة من الفدائيين تقوم بعمليات داخل غزة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي أثناء فترة العدوان الثلاثي على مصر. واشتدت مطاردة الجيش الاسرائيلي لسلامة وزملائه, فقرر السفر الى مصر عن طريق البحر مع زميله, ولكن ظروف زميله لم تسمح له بالسفر, فرفض ابني ان يسافر وقرر البقاء في غزة مع زميله الفدائي في المجموعة. واتخذت المجموعة مقراً لها في «حظيرة أبقار» داخل مدينة خانيونس في قطاع غزة, حيث حفروا تحت أرض الحظيرة ملجأ صغيراً كانوا يجتمعون به ويخططون لعملياتهم العسكرية ويخزنون الأسلحة في الملجأ».
تقول «أم الشهداء»: «وبقي الجيش الاسرائيلي يطاردهم من مكان الى مكان حتى اكتشف المخبأ, فحاصرهم من الجو والبر, وطالبهم بالخروج مستسلمين فرفضوا, وواصلوا المقاومة وإطلاق النار وهم محاصرون بقوات كبيرة من الجيش الاسرائيلي رغم أن الذخائر كانت قليلة معهم والأسلحة محدودة, واستمرت المعركة عدة ساعات حتى قام الجيش الاسرائيلي بتفجير المكان فاستشهد ابني «سلامة» وزميله والآخرون أصيبوا بجروح وتم اعتقالهم».
تواصل «أم الشهداء» حديثها والدموع في عينيها تتذكر رحلتها مع الموت والشهداء فتقول: «لم أصدق حينها أن «سلامة» استشهد لأنني كنت أعتقد أنه يختبئ بمكان أمين, لا يعرف عنه أحد, وجاءت إحدى الجارات وأبلغتني بالخبر, ففقدت الوعي, ثم ركضت بعد ذلك الى مستشفى «ناصر» في خانيونس, أبحث عن «سلامة» فلم أجده وقيل لي بأنه دفن, فذهبت الى المقبرة ولم أجده مدفوناً بعد, ووجدت جثمان سلامة وزميله هناك, فحفرت لهما قبرا بيدي ودفنتهما ودفنت قلبي مع سلامة».
تقول «ام الشهداء»: «أما ابني الثاني «صقر» فقد غادر الى لبنان بعد حرب حزيران 1967, وكان ضمن المجموعات الفدائية التي تقوم بعمليات عسكرية ضد اسرائيل عبر الحدود اللبنانية, وفي إحدى العمليات الفدائية استشهد «صقر» ولكنني لم أعلم ذلك, وبقيت فترة طويلة لا أعلم عنه شيئاً هل هو حي أم ميت حتى سافرت الى عمان وراجعت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالأردن, وهناك عرفت باستشهاده, وكانت صدمة كبرى وأخرى لي وفاجعة لا أستطيع وصفها, تحولت حياتي الى بركان نار لم يهمد منذ سنين طويلة, حتى جاءت الانتفاضة الأولى لتتجدد الآلام بقوة, حيث استشهد من أولاد ابنتي «يوسف وجمعة أبو محيسن» في مخيم «المغازي» في عام 1993, ولحق بهما خلال الانتفاضة الأولى زوجي أيضاً, وتقبلت كل هذه الآلام صابرة محتسبة عند الله ولكن الحسرة والألم في القلب لا أتي الحدث المؤلم الأخير خلال انتفاضة الأقصى فتقول «أم الشهداء»: «لقد كان كل هؤلاء الشهداء في كفة وشهيدي الأخير في كفة أخرى, ففي 13 آيار 2001, استشهد ابني «سلمان العاروقي» خلال قصف اسرائيلي لمنطقة شرق «المغازي» بقطاع غزة. توصف».
قد كان الشهيد «سلمان» بالنسبة الي نور الدنيا, لقد عشت في منزله لمدة شهرين قبل استشهاده, وحاول طوال تلك الفترة أن يمسح دموعي, وحاول أن يعوضني عن أحزاني التي أعيشها طوال حياتي حتى استشهد وكنت في منزله, فشعرت بأن الحزن مكتوب علي, وهذا قدري فلم تدم سعادتي حتى اختطفه الموت مني..
يوم استشهاده, كنا نجلس سوياً في منزله مع زوجته وأولاده نتابع أخبار الانتفاضة على شاشة التلفزيون, وفجأة سمعنا صوت قذائف الدبابات الاسرائيلية وهي تقصف المنطقة التي نسكنها, فقلت للشهيد «سلمان» حافظ على أولادك من القصف الاسرائيلي ولم أشاهده بعدها. فقد قفز خارجاً من المنزل لإنقاذ عائلة قصفت منزلها الدبابات الاسرائيلية, وأسرع يطلب لهم الإسعاف, ولكن الموت كان أسرع, حيث انه استشهد بعد إصابته بقذيفة اسرائيلية مضادة للأفراد, لقد كان «سلمان» مؤذنا في مسجد قريب من المنزل, ولم يفارق المسجد أبداً, حتى أصابته القذيفة أمام باب المسجد وسقط شهيداً هناك, ليكون الشهيد السابع الذي أفقده في حياتي, حتى الآن قدمت لفلسطين سبعة شهداء, وبقيت وحيدة دون هؤلاء الأحبّة, أتمنى دائماً الشهادة, ولم أنالها,هنالك ما هو أصعب من الموت نفسه, وهو مرارة وألم فراق الأحبة, وأسأل الله الخير وأن أكون من الصابرين ولم يبق من العمر بقية, قضيت ثلاثة وخمسين عاماً من حياتي أودع الشهداء شهيداً تلو الشهيد, أرتدي ثياب الحداد التي لم تفارقني طوال هذه السنين, ولن تفارقني هذه الآلام إلا عندما أرى القدس وقد عادت لفلسطين والعرب والمسلمين ورحل عنها الاحتلال الاسرائيلي