عبد الرزاق محمد احمد ابو حاشيه
الموطن الاصلي: قرية سلمة/يافا
العمر: سبعين سنة/يافا
مكان الاقامة: مخيم بلاطه/نابلس
قاموا الانجليز بتسليم الدوائر المدنية والعسكرية للجماعات اليهودية شيئاً فشيئاً لتمكينهم من السيطرة على الارض وذلك من خلال مجموعات يهودية صغيرة كانت تأتي على شكل مجموعات سياحية تقوم بتصوير الاراضي ورسم الخرائط، السكان لم يكونوا يعلمون شيئاً عنهم على اعتبار انهم سياح فقط، لا يضر وجودهم في شيء، الا انه وبعد فترة وجيزة، اخذت الاخبار تتوالى في الورود الينا عن طريق الراديو اللي كان عباره عن صندوق كبير موصول بهواني كبير يوضع على سطح البيت، واحياناً نعرف الأخبار عن طريق الصحف التي كانت تصل الينا، ربما كانت الصحيفة تسمى صحيفة الدفاع الفلسطينية، كانت نسبة السكان الذين يعرفون القراءة قليلة جداً في القرية لذلك لم تكن الصحف واسعة الانتشار، وكان الذي يقوم بقراءة الصحيفة يطلعنا على اخبار الرؤساء والقيادات العربية والفسطينية والاحداث التي كانت تقع من قبل اليهود مثل قيامهم بقتل الناس في القرى التي يغيرون عليها مما ادى الى شعور الناس بالخوف الشديد من القتل او نسف بيوتهم على رؤوسهم، ولكن كانت هناك ثورة وشعور بالغضب من قبل جيل الشباب الموجود في القرية الذي كان يحترق في داخله لعدم توافر السلاح اللازم للقتال والمقاومة.
بالرغم من اننا توقعنا وصول الحرب الينا، الا اننا لم نتوقع وصولها بهذه السرعة، وذلك نظراً لوجود الجيوش العربية التي جاءت لمساعدتنا، ولكن عند وصول اليهود الى اعتاب القرى المجاورة، تأكد لنا ان النكبة ستحدث وسوف نُهجّر من بيوتنا وذلك بسبب ضعف الفلسطينين وقلة سلاحهم والضغط ايضاً من قبل الانجليز على المقاومة ومساعدة اليهود في صد هجمات الثوار.
اما من ناحية الاستعدادات فكان في شراء للاسلحة التي تم تهريبها من مصر الى القرية والقرى المجاورة عن طريق الثوار والمناضلين الذين كانوا من عدة جنسيات، منهم اللبنانيين ومنهم المصريين، وايضاً من الفلسطينيين طبعاً والذين خدموا الأرض بعيونهم ولكن لم يُذكروا او يُعرف عنهم شيء.
اما من ناحية الأكل والغذاء فلم يكن من الضروري ان نقوم بتخزينه وذلك بسبب وجود البيارات من البرتقال والمشمش والليمون والقمح والخضراوات التي لا بدّ من زراعتها في البيارات، كان قيام الحرب في الوقت الذي كان مناسباً لنمو المحاصيل وجنيها حيث انه حدثت في فصل الربيع. ومن الاستعدادات التي قمنا بها حفر الخنادق على مداخل القرية، اما من يجيد فنون القتال والكفاءات العسكرية فكنا نعيش حياة القراوة، اي ان الجميع يعمل في المحاصيل الزراعية، القليل من السكان من الأطفال والصبية يتعلمون، لم يكن هناك وقت للتدرب على حمل السلاح، وكان اللي بيجيد حمل السلاح هما الثوار ومجموعة من الرجال لا يتجاوز عددهم التسعة من اهل القرية.
لم نكن نتوقع وصولهم الينا ولكن بعد انهزام الجيوش العربية، ايقنا وصولهم الينا وحينها وقع الفاس في الراس، وبما ان الانجليز كانوا قوة محتلة وكانت تسعى لتمكين اليهود في البلاد، فقد كانت تقوم باعدام الرجال الذين يكون بحوزتهم سلاح، وكانوا يعلمون بذلك من خلال الجواسيس الذين كانوا ربما واحد او اثنين في القرية، وقد شاهد الناس الكثير من عمليات الاعدام في القرية بسبب السلاح، حيث ان هذا السبب كان من الاسباب الرئيسية لانتصار اليهود علينا.
عند قيام الحرب، توقف الناس عن الذهاب الى الحقول التي كانوا يعتمدون عليها في غذائهم وبسبب قلة تدبيرهم وتفكيرهم لم يكونوا قد خزنوا الغذاء، ولكن من اللافت للنظر انه لم ترتفع اسعار المواد الغذائية ولم تحدث فوضى في القرية وكان الجار يساعد جاره بما لديه من غذاء، والذي زاد الرعب في قلوبنا قيام الجماعات اليهودية التي كان والدي واعمامي يقولون انها جماعة الهاجاناة بالقصف ليلاً بواسطة المدافع والرشاشات التي بحوزتهم.
كان رحيلنا قد تم في الليل دون أي اتفاقات، ولكن كان هناك اتفاقات بسيطة، ولكن بسرعة تم نقضها من قبل اليهود الذين هم مشهورين بنقض الاتفاقات دائماً، واذكر انه عندما قاموا بمهاجمة القرية قتل اربعة رجال من القرية على الجبهة الشمالية، ولكن لا اذكر اسماءهم، حيث قاموا بنصب كمين للعصابات الصهيونية التي تهاجم القرية في الليل، وبسبب كثرة الصهاينة تم قتلهم واستشهدوا. في البداية كانت الهجمات تتم في الليل، ولكن بعد فترة وجيزة اصبحوا يتجولون في القرية في وضح النهار، واتخذوا من اماكن في اطراف القرية مراكزاً لهم، واخذوا يتدربون على الرماية بالرصاص الذي كان صوته عالياً، وأحياناً كنا نتسلل الى مسافة قريبة ونرى الاطفال والشباب وحتى الكبار في السن يتدربون على السلاح.
كانت كل ليلة تاتي نجدات من القرى المجاورة مثل كفر عانا والعباسية ودير طريف وبيت نبالا، وعندها شعر السكان بالاطمئنان، ولكن بعد قيام اليهود بالهجوم لم نعرف كيفية التصرف، لم تكن لدينا معلومات عن الهجوم أو كيفية التصرف في حالة وقوع الهجوم، ولكن كان هناك مراقبة لتصرفات الصهاينة عن طريق تسلل بعض الصبية الى اماكن قريبة من مراكزهم. كان ما نراه بعد الهجمات هو تدمير لبعض البيوت في القرية، وكان هذا هو السبب الرئيسي لهجرة السكان من القرية بعد تدمير بيوتهم، الواحد تلو الآخر، والقيام بقتل من يجدونه داخل البيوت، والذي اثر ايضاً علينا انسحاب العرب من الحرب، وبذلك قامت عائلتي بالرحيل خوفاً علينا وكان ذلك في يوم 17/4/1948 بعد دخول الجيوش العربية بيومين وانسحابها وانسحاب المسلحين ايضاً.
كانوا اليهود في البداية يدخلون ويخرجون من القرية، ولكن بعد انسحاب الجيوش العربية، حاصروا القرية من الأربع جهات وتركوا منفذاً واحداً لخروج المسلحين والأهالي، اي للضغط عليهم بعد انتهاء العتاد والأكل من القرية، سياسة التجويع، مما جعل السكان يرحلون على شكل جماعات، ولم يبق من السكان احد، والذي بقي فيها شخص واحد معاق عقلياً، قيل انه قتل برصاصة في رأسه بعد دخول اليهود الى القرية.
وفي ذلك الوقت قاموا بتغيير معالم القرية وجعلها اماكن سكن لليهود والمهاجرين الى فلسطين، وكان بعض السكان يرجعون لجلب امتعتهم أو اخذ أي شيء يستطيعون الحصول عليه من ماشية وأدوات تساعدهم على العيش في المكان الجديد الذي رحلوا اليه، اما نحن فقد رحلنا الأسرة كاملة مشياً على الاقدام من سلمة الى الرملة، اما الذين تمسكوا بالبقاء في القرية حتى الرمق الأخير فهم الشيوخ وكبار السن والمسلحين الذين خرجوا في الآخر.
واذكر ايضاً ان مختار القرية بقي الى تلك الفترة وانسحب مع المسلحين من القرية، والذي كان يشجع على الرحيل هو الدعايات والاذاعات الصهيونية التي كانت تتوعد الناس بالقتل والمجازر البشعة. وعندما غادرنا القرية لم نأخذ أي شيء معنا لا ملابس ولا فراش ولا شيء بتاتاً، كنا نعتقد اننا مغادرون لفترة قصيرة وسنعود للقرية، وذلك بسبب الوعود العربية اللي وعدتنا انها ستعيد لنا أرضنا وسترجعنا الى بيوتنا.
اما رحلتنا فقد كانت في البداية الى مدينة الرملة، اعتقدنا انها آمنة، الا ان الحرب وصلت اليها ايضاً فاجبرنا على الرحيل الى بير نبالا، الا انها لم تسلم كذلك من الحرب، فانتقلنا الى دير عمار ثم الى مدينة نابلس حيث ان بعض العائلات الكريمة لم تبخل علينا بالأكل والاغطية والاماكن التي نأوي اليها في الليل والنهار، وفي بعض هذه القرى كنا نلجأ الى بعض الكهوف اذا لم توفر لنا المكان المناسب للنوم في الليل، الى ان وصلت امدادات الصليب الأحمر، وقاموا بتوزيع الخيام علينا في مدينة نابلس، ثم نصبت الخيام على ارض بلاطة.
اما من ناحية العمل فلم يكن لدينا اي عمل نقوم به بسب البطالة المنتشرة والناتجة عن الهجرة، وكانت قد حدثت وفيات كثيرة بسبب قلة المياه وانتشار الامراض بين المهاجرين، وبقينا منذ تلك الفترة أي سنة 1951 الى الوقت الحاضر في نفس المكان ولم ننتتقل الى مكان آخر بعده. اما المعلومات المتوفرة عن باقي افراد قريتي، فمنهم من وصل الى نفس المكان الذي انا فيه، مخيم بلاطة، ومنهم من رحل الى الاردن والى رام الله وغزة، اي تفرقوا في انحاء البلاد.
اما زيارتي للقرية فقد كانت في عام 1969 في رحلات مع الطلاب الى القرى المهجرة، ولم يعد احد الى تلك القرية، او لم يحاول اهلها العودة بشكل جماعي، وبعد عام 69 عدت الى القرية لزيارتها وتحدثنا مع اليهود الموجودين في البيت الذي بقي كما هو مع بعض التغييرات المضافة اليه، ولكن شكله الغالب بقي كما هو حين تم طردنا، ورفضوا دخولنا اليه حيث انهم جعلوا منه حانة للشرب.
اما شعوري نحوهم فاني افضل العمى ولا اراهم، كنا في قريتنا نعيش بسعادة وراحة ولم نؤذ احداً ولم نتعرض لهم بالرغم من انهم اخذوا ارضنا، الا انهم ايضاً قتلونا ودمروا حياتنا وسرقوا رزقنا وجعلونا نعيش بيأس شديد.
شهود النكبة
روايات شفوية للشهود العيان على حرب عام 1948
اعداد: علاء ابو ضهير