محمد سعد الدين يتغنّى بجمال قريته وحنين أهلها لطوفِة العريس على صخرة البؤباء على الشاطئ
محمد سعد الدين (أبو غالب) أحد أبناء قرية الزيب (73 عامًا) وهو الشخص الوحيد من مواليد الزيب الذي بقي على قيد الحياة في البلاد لأن غالبية سكان القرية تمّ تهجيرهم إلى لبنان وسوريا عام 1948.
تقع قرية الزيب قضاء عكا، على ساحل البحر، تحدّها من الشمال الحدود اللبنانية ورأس الناقورة، ومن الشرق قرية البصّة المهجّرة (مستوطنة شلومي اليوم) وتمتد نحو حدودها أراضي قرية الكابري.
اليهود أجوا علينا من الشقّة القبليِّة وخلّوا الشقّة الشماليِّة من جهة الناقورة مفتوحَة
عندما التقيت بأبي غالب قال لي يائسًا: لا فائدة من الكلام عن الماضي لأن البلاد قد بيعت والحكّام العرب ما زالوا يتاجرون بنا حتى اليوم.... قلت له: مهلك، أنت الوحيد ممن بقوا على قيد الحياة ويجب أن تروي لي قصتك وقصة عائلتك لكي يدوّنها التاريخ ولكي لا تضيع القضية.... أبو غالب: الزيب تْحوّل لمُنتجع سياحي وما بِقي منها إلا بعض شواهد القبور وبقايا الحجارة، إحنا كنّا ساكنين بالقرب من لِعقودِة.. يا زلمِة لو كان أهل البلد يِعِرْفوا إنُّهن مش راجعين، ما كان حدى طِلِعْ بهذاك الوقت وترك أملاكُه وبيتُه وأرضُه.
قلت: شو اللي صار كيف طْلِعتوا من البلد في الـ 48؟.... أبو غالب: أجوا علينا اليهود من الشقّة القبليِّة وخلّوا الشقّة الشماليِّة من جهة الناقورة مفتوحَة عشان الناس تُهرُبْ، ألغالبية الساحقة من سكان القرية وعددها 2216 نسمة هجِّروا إلى لبنان، والدي وإخوتي الثلاثِة شَردنا أكم يوم بين البيارات والبساتين، ورجِعنا عالبلد وِبْقينا ملاحقين حتى بعدين فات جيش اليهود وحمَّلونا أنا وإمّي وأبويْ وأكم عيلة بِنْعَدّوا على أصابع الإيد الوحدِة بالسيارات وجابونا عالمزرعة، وإخوتي الاثنين إنهزموا على لبنان وعاشوا في صور وما التقينا معهم لغاية اليوم.
الزيب كانت تقع على فَقْسْ الموجْ
قلت: إوْصِفلي البلد بْتُذكُرها منيح؟.... أبو غالب: إالبلد كانت حِلْوِة على فَقْسْ الموجْ... قلت شو يعني فقس الموج؟... أبو غالب: قريبِة عالشطّْ، وِبأيام الشتاء، لما البحر يِقوى يِرُشّْ رذاذ الميّْ على شبابيك لِبيوت... قلت: شو أسماء العائلات في الزيب؟... أبو غالب: بعرف دار عَطايا، دار يوسف، دار سعد الدين، ودار منصور وفي كمان عائلات أخرى.... قلت: رُحت مع أبوك عالزيب كثير بعدين؟... أبو غالب: وين الزيب اليوم!!!... غيّروا معالم القرية كلها، صارت منتجع سياحي، السواح بيجوا بِتْطلّعوا على الأثارات وما بِعِرفوا إنُّه صحابها بعدهِن عايشين لليوم، كان أبويْ كل ما يْزور الزيب يِبكي. بنوا على أراضينا (كيبوتس ساعر) وبلدة (غيشر هزيف) والمَسبَحْ وغيرها وبِتْمَتّعوا بشاطيء القرية وخيراتها، ما بِقي من البلد غير المسجد والمقبرة وعَقِدْ (بيت من قناطر) للشيخ جمال السعدي، هذا الشيخ زيباوي، تعلّم وصار في وقت من الأوقات إمام المسجد الجزار وسكن في عكا، وكان في عين للزيب، عليها فرس مع حَنّانِة ينشلوا أهل البلد منها ويِشربوا، لما أجو اليهود سحبوها عالماتورات.
روووح ... خلقة لاجئ
قلت: بْتِدفَع ثمن بطاقة الدخول للمسبح المُقام على أرض بلدكو الزيب؟.... أبو غالب: لما تحولت البلد لمسبح، رُحت مرّة قلت للبُوّابْ: أنا من سكان الزيب... قللي بالعِبري: إشتري كرتْ وفوت، إذا ما بْتِشتري ما بتفوت، هاي الأرض إلنا يلاّاااا.. جاوبتُه: إحنا هون ساكنين أبًّا عن جد، وبعدين قُلّي لما أجا عمر ابن الخطاب وفات عالقدس كان هون بسّ المسيحيين الفلسطينيين وانتو وين كنتوا؟.... صفن أبو غالب وتابع: طبعًا اختصرت النقاش العقيم مع حارس المسبح وِاشتريت بطاقة الدخول إلى بلدي وأرضي، شو أعمل يعني، إحنا هون مْغَلّبين وأهلنا وأقاربنا في الدول العربية كمان مْغَلّبين، بِواجهوا نفس المصير بِالجْميلِة، بدون عمل وعايشين تحت رحمة الغير وبهدلاتْهِن، لا بِعطوهن يشتروا أرض ولا يشتغلوا ولا يتْطوَّروا، ومثل ما إحنا نواجه المقولات العنصرية، كمان أقاربنا هناك بِواجهوا مقولة (روووح ... خلقة لاجئ).
كان جيش الإنقاذ يحتل البلد اليوم، وفي اليوم الثاني ينسحب
قلت: مين من قرايْبك طِلعوا على لبنان؟.... أبو غالب: كثير ... عْمامي وإخوتي وتقريبًا كل أهل البلد، فَكِّروا يا حرام يُقُعدوا شهر شهرين حتى تُخْلُص المشاكِل ويِرْجَعوا، بسْ راحَتْ عاللي راحت عليه... شو بدّي أقلّك، باعونا، كان جيش الإنقاذ يحتل البلد اليوم، وفي اليوم الثاني ينسحب، وكإنُّه بمهِّد الطريق لليهود، ييجوا اليهود ويِحتلّوا البلد مرّة ثانيِة، في الكابري مثلاً صارت معركِة وقتلوا اليهود وانسحبوا على ترشيحا، وعِلقوا أهل الكابري لَحالْهِنْ... اليهود كانو جيش منظّم ومعُه سلاح، وإحنا يا حرام اللي معاه بارودِة مْروكْبِة وفيها عشرة خمستعشَر حَبِّة يُخُلصوا بسرعة تصير العصاة أحسن منها، ونِبقى لحالنا بدون ظهِرْ. بعدهِنْ عَربنا لليوم لا عارفين يِفاوضوا ولا يْقاتلوا.... قلت: إلتقيتوا مع قرايبكو من النكبِة لليوم؟.... أبو غالب: توفّى حياة أبوي قبل ثمان سنين بدون ما يشوف حدى من إخوتُه، وكمان إمي توفّت قبل أربع سنين وما شافت إختها بالمرّة. بَسّْ إبني غالب سافر للسويد والتقى مع بنت أخويْ اللي عايْشِة مع زوجها هناك.
خايفين من السلام وخايفين من الحرب
قلت: شو ممكن يصير؟... أبو غالب: يعني الوطن قَتّال، الواحد بِحنّ لبلدُه ومسقط راسُه.... قلت: بْتِحكي لولادك عن الزيب؟... أبو غالب: بقُلّهن: انشا الله يصير سلام ونرجع عالزيب، بًسّْ وين السلام، السلام بعيييييد، لأنهن اليهود يا عمّي بدّهِن الأرض بدون ناس، وإذا بَدَّك تضلّْ أهلا وسهلا فيك بًسّْ شَغّيلْ عِندهِن وتِخدِمهِن وممنوع تقول هاي الأرض إلي... يعني لو الواحد هَجّْ بِخاطرُه وبقدر يرجع لما بَدُّه ماشي الحال مَحْمولِة، أما يِطِلعوك بالقوِّة ويمنعوك ترجع على بيتك، صعبِة كثير كثير. بس بقُلك هاي الدنيا لا الراكب بضل راكب ولا الماشي بضل ماشي، في هايْ البلاد ما عَمّر فيها شعب، وأنا بقول لليهود: أحسن إشي إلهن يعملوا سلام مع العرب وعيشوا، لأنهن العرب اليوم تيوس، مين بِعرِف شو بصير بُكرة، أما هنِّ خايفين من السلام وخايفين من الحرب.
علاقة البصة والزيب علاقة نسب وأهل
قلت: كيف كانت علاقتكو بأهل البصة: كانت علاقة البَصِيِّة والزَيابْنِة منيحة كثير، علاقة نسب وأهل، نشارك بعض بالأفراح والأتراح، وبين البصة والزيب كانت قرية صغيرِة إسمها لِمشيرْفِة، كان فيها نَبْعَة، وهالناس تيجي من البصة والزيب تتسبّح وتشرب. في الزيب كانت مدرسة إبتدائية للصف الرابع، وفي البصّة كان في مدرسة تبشيرية. إلصراحة وين كان في مسيحيين كُنت تلاقي تقدُّم أكثر وتعليم أفضل، لأنه كانت الكنايس والمطارنة تدعم التعليم والثقافة، وإحنا الإسلام في الزيب وغيرها ما كنا نتلقّى أي دعم يذكر. في بلدنا كانت الأكثريِّة إسلام بس ما كنت تفرِّق المسيحي عن المسلم.
ألزيب أجمل قرى الساحل
قلت: شو اللي كان يميِّز الزيب؟.... أبو غالب: كانت من أجمل قرى الساحل، فيها معصرة زتون وبابور طحين، وإذا تعركست الحالِة عند الواحد، كان يوخذ الغابِة (عصاة الصيد) ويروح يتصيد شوية سمك يطعمهن لولادُه، شو بدّي أقلّك، كانت الناس عايشة ومبسوطة وهِادْيِة البال. كان عمري ستّ سنين، وهالناس تشتغل بالفلاحَة وبِكروم الحمضيات والبُرتقال وصيد السمك، حتى إذا واحد فقير بدُّه برتقال، كان ينزل عالبساتين ويوخذ للبيت حاجتُه من صاحب البستان بدون مصاري، كان بموسم الحمضيات والعنب يبعثوا يوزعوا الجيران على بعض، اليوم ما في حدى بسأل عن الثاني.
رغم الفقر زمان كان الغذاء دائمًا طازج، إذا بدّك توكل بيض تروح عالقُنّْ تلاقي بيضتين ثلاثة تِفقِسهِن ويِمشي الحال، حتى السمك إذا ما أكلتُه بنفس اليوم بِخرَبْ، وإذا بدّك توكُل بندورَة تنزل عالأرض تْنقِّبْ زِرّين ثلاثِة وتعمل سلطة وتوكل، اليوم كُلّْ شي بالبراد، البندورة والسمك والجاج وكل شي، هذا عدى عن الفيتامينات اللي بِعطوها للجاج، بيومين الجاجة بتصير 2 كيلو، والبيض نفس الشي الجاج عايش عالضو ببيض ليل ونهار، فِشّْ إشي صحّي، كان في نكهة للأكل زمان مش زيّ اليوم.
كان العريس يطوف على البؤباء عند الصخرة المقدوحَة
قلت: كيف كانت تصير الأفراح في الزيب؟... أبو غالب: كان العريس يطوف على البؤباء عند الصخرة المقدوحَة زمنها تفوت ميِّة البحر عالبركِة، يُقعُد العريس على التلِّة وتصير الخَيّالِة تُرقُس على لِخيولْ وهالناس تغنيلُه ويِزِفّوه على صوت أمواج البحر.... قلت: كانت التجارة مزدهرة في الزيب؟... أبو غالب: البصّة كانت محطّة تجارية بين لِبلاد أكثر من الزيب، لأنُه بلدنا كانت بعيدِة شويّ عن الشارع الرئيسي، بس في الزيب كان في ميناء صغير، هالصيادين يِبِحروا على صور في لبنان ويِتاجروا بالحمضيات والمؤن والسمك عالخفيف، كانت الطريق مفتوحة بدون مشاكل.... قلت: وكيف كانت علاقتكو بعكا والقرى المجاورة؟... أبو غالب: العلاقة كانت بين القرى المجاورة مثل البصة ولِمشيرفِة، عكا كانت بعيدِة، ما كان في سيارات زيّْ اليوم، إللي عِندُه دابِّة توخُذْ معاه سفر يوم حتى يِقضي حاجْتُه، واللي ما عِندُه دابِّة ما كان يصل عكا إلا هو مِسْتوي، رغم كل ذلك الناس كانت مبسوطة ومِرتاحة.
سكّنونا في بيت من بْيوت المهجّرين المتروكِة غصب عنّا
قلت: طيب شو صار معاكو في المزرعة؟... أبو غالب: طلّعولْنا قسايم، وأعطونا بيت من بْيوت المهجّرين المتروكِة، وسكّنونا فيه غصب عنّا، كانت أغلب لِبيوت مَنهوبِة وما فيها شي... شو اشتغل أبوك وكيف دبّرتوا أموركو المعيشية؟... أبو غالب: أبويْ اشتغل في نهريا بالبساتين بالفلاحة. وبعدين انفتح العمل بالعمار... يعني مين اللي فَلَح الأرض لليهود غير العرب ومين اللي بنى لٍبلاد لليهود غير العرب اللي بِقيوا في لِبلاد، كان العامل اللي بحصل على عمل في شركة العمار الحكومية (السوليل بونيه)، كان يحسّ إنُه انقبل لتعليم موضوع الطب.. أما اليوم بتشوفهن بترجّوا الواحد يشتغل بالبناء لأنُه اليهود ما بِدهِن هذا النوع من العمل.... قلت: كيف كانت علاقتكو مع أهل المزرعة؟.... أبو غالب: أغلب أهل المزرعة الأصليين انهزموا في الـ48 وبقي بس أكمّْ عيلِة، وصِفيت البلد للمهجّرين من 12 بلد مْهجّرة، من لكويكات والغابسية ودنون وعمقا والسميرية والزيب والمنشيِّة والبصّة والنهر وغيرها، يعني تْحوّلت المزرعة زيّ مخيّم للاجئين، بس الناس كان بدها السُترة، في زمن الإنجليز كانت المزرعة مركز تشغيل عند الإقطاعيين (سِرسق) و (دار بدون) وغيرهِن من الإقطاعيين، كانوا يشتروا الأرض بتراب المصاري، كان الفلاح يقُلّك شو بَدّي بالأرض لما مش قادر أحرُثها وأسقيها، مش زيّ اليوم بالتراكتور بتحرُث مئات الدونمات مَرّة وَحَدِة، يعني الفلاح يقول لَحالُه: بِكفّيني دونم أو اثنين أزرعهن وأطلع مونِة السنِة.
مْنِرجَعْ للجنرال ماكلين الإنجليزي أجا وقال للناس: ما تِطلَعوا من البلد، وإذا أجوا اليهود أنا بَحميكو، ولولا ماكلين ما كان ضلّ حدى هون، كان ماكلين ساكن في قصر سعيد باشا، تُركي الأصل، قصر كبير مع بركة سباحة، يقع اليوم بين المزرعة وكيبوتس عِبرون، تركُه سعيد باشا عزمن الأتراك وسلَّمُه للجنرال ماكلين، وبعد ماكلين عزمن إسرائيل استلموه البهائيين وبعدُه تحت سلطتهن لليوم.
الدين لليهود والوطن لليهود
قلت: شو بتوصي ولادك وأحفادك؟... أبو غالب: شوف، أنا بقول انشالله بصير سلام قائم على العدل، ومنعيش مع بعض وبرجع كل لاجئ على بيتُه، الدين لله والوطن للجميع، بس المشكلِة مش عندنا، المشكلة عند اليهود، لأنهن بِقولوا الدين لليهود والوطن لليهود.
لقرايبي اللي بالغُربِة بقول: بسلِّم على كل دار سعد الدين وأهل الزيب جميعًا، فردًا فردًا، كبير وصغير ويقُلّهن إنشاء الله منلتقي عن قريب في الزيب، لأنُه الدنيا مثل الدولاب، ساعة بتكون فوق وساعة تحت وهكذا دواليك.
صحيفة الحقيقة