
عشرة عقود والمدينة التي عشت فيها تنمو وتتمدد، ومعالمها القديمة لم تفارقني، في منتصف الثلاثينيات كنت صبيًا في أتنقل بين جموع الناس والتجار بين حارة القزازين وباب الخان، وشارع الشلالة الذي بدأت أطرافه بالتمدد نحو الغرب، حاملة معها ملامح جديدة لمدينة تحاول أن تنتعش في ظل استعمار بغيض، شارع الشلالة وحوانيته الحديثة التي تصنع الموبيليا وتبيع القماش، وتسير فيه السيارات نحو مدن فلسطين العامرة كالقدس ويافا والرملة، كان يغص بثكنة الجنود الانكليز وهم يحملون بنادقهم المصوبة نحو أعناق الفلسطينيين.
جنوب شرق المدينة عند مدرسة طارق بن زياد في حارة قيطون كنت أقضي الكثير من وقتي برفقة والدي في سوق الحلال، تلك البقعة التي تمتد دروبها نحو الكرك والشام والدوايمة والظاهرية، ويمشي فيها التجار بقطيع أغنامهم البلدية التي لم يهجنها الاحتلال بعد نحو السوق ومرتاديه، كان والدي يعمل تاجرًا للأغنام، هذا المورد الغذائي الهام في المدينة والذي كان يقوم عليه جزء كبير من اقتصاد المدينة، كانت الأغنام البلدية تحمل سمة خاصة فيها، حيث كان يبلغ وزن (لية الخاروف/ الجزء الخلفي منها ما يقارب 14 كغم) قبل أن يقوم الاحتلال بتهجين هذه الأغنام مع أغنام رومانية مستوردة، نتج عنها الخاروف العساف الذي نراه بكثرة في أيامنا هذه، هذه الليّة لا نتكلم عنها عبثًا لأنها في ثورة عام 1936م كانت الملجأ الوحيد للطعام في ظل الحصار والقتل، والكثير من الناس كانوا يحضرون من القرى لشراء هذا الكنز الأبيض لتقام فيه ولائمهم في الأفراح والأتراح طوال سنوات الثورة.
انتهيت من دراستي الابتدائية وقرأت القرآن عند الشيخ كنفوش بالقرب من بركة السلطان، وأحمل الحليب نحو مبنى الدبويا الذي كان يحتوي معمل لتصنيع الجبن، يملكه اليهودي الخليلي يعقوب عزرا مع شركاؤه من المدينة، يعقوب الذي غادر الخليل بعد صدور قرار التقسيم عام 1947م ولم يعد أبدًا بعد أن استولى المستوطنون الاسرائيليون على المبنى وحولوه لمستعمرة استيطانية، بعد ذلك انطلقت للعمل في مجال والدي، وبعد سنوات قليلة كنت أمشي للشام وبيروت والأردن لشراء المواشي والتجارة بها.
عند احتلال البلاد كنت أرعي المواشي في منطقة واد ننقر، هذه الجنة بين جبال الخليل، كان شلال الماء المتفجر من تحت الأرض يهوي مثل شلال على مسافة تقارب الخمسة أمتار، ويسيل الماء منه نحو واد الخليل الواصل لسواحل البحر الأبيض المتوسط، لطالما كان مجرى المياه الذي يقطع فلسطين من شرقها لغربها، طريقًا يسير بمحاذاته المسافرون والتجار والذاهبين لبحر غزة أو سوقها، وكانت الرحلات من القدس ويافا وباقي مناطق البلاد تأتي للاستجمام وسط طبيعته الخلابة، كما أتذكر في إحدى سنوات منتصف خمسينيات القرن الماضي عندما هطلت عاصفة ثلجية لم نرى مثلها، لم نستطع أن نخرج الأغنام من الوادي، حيث كنا ننام مع القطعان في مغاور الواد، أتذكر كيف حضر الناس وأصبحوا يلفون لنا الطعام والقش للأغنام من أعلى الجبل، ونحن بين الثلوج في الأسفل نحاول التقاط لقمة النجاة.
جانب قصير من اللقاء الممتع الذي أجراه فريق التأريخ الشفوي يوم أول أمس الأحد 29/7/2025 مع السيد عبد الفتاح داود العويوي مواليد الخليل عام 1926م، الشكر موصول له ولعائلته على حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
01/07/2025

