بدأ العرب الفلسطينيون يعدون العدة لمواجهة ذلك ويقتنون الأسلحة في سائر القرى العربية ومنها عين غزال، فقد أخذ بعض الحرفيين المهرة المهرة من أمثال صالح الشيخ عي وقاسم علي السعيد يصنعون البنادق يأيدهم، فكانوا يخرطون فوهاتها في حيفا ويشذبون مقابضها الخشبية بأيديهم ثم يصقلونها ويحسنونها فتصبح بنادق حقيقية صلح للقتال ضد أعدائهم.
غير أن الأسلحة الرشاشة والمدفعية كانت قليلة جداً لديهم. لنستمع إلى رواية عبد الحفيظ الجدعان كيف إستطاع الحصول هو وزميل له على رشاشين من أقاصي البلاد:
( عندما حمي وطيس القتال بيننا وبين اليهود أحسست أننا بحاجة ماسة لعدد من شاشات البرن، فإتفقت مع أحد وجهاء القرية محمد الصعبي على القيام بشراء رشاشين واحد لحارتنا الشمالية وآخر لحاتهم الجنوبية. فجمعنا الثمن وكان حوالي مئة جنيه لكل واحد. ثم عملنا مضبطة موقعة من وجوه البلدة لمن يهمه الأمر علها تساعدنا في عملية الشراء. وبعد وداع الأهل يممت وزميلي جهة الشرق في طريق جبلية وعرة وإتخذنا لنا دليلاً يساعدنا في بعض الطريق هو حسين الأيسة، وبعد جهد جهيد وصلنا قرية كفر قرع قبيل الصباح فبتنا على بيدر القرية ثم تحركنا بعد بزوغ الشمس صوب طولكرم، فرحنا نبحض عن أسلحة في المدينة فلم نعثر على شيء. وبعد ثلاثة أيام تحركنا إلى نابلس للغرض نفسه ولكن دون جدوى. وسمعنا بوجود رشاش في أريحا فإنطلقنا إليها فلم نجد ضالتنا، غير أن زميلي إشترى هناك بعض العتاد وأودعه عند أحد معارفه ليأخذه منه عند العودة. وفي القدس قابلنا الحاكم أحمد حلمي باشا الذي أعطانا كمية من العتاد الإيطالي ورشاش طمسون شبه مستهلك وكمية من القنابل المحلية الصنع. ولم يكن حظنا في بيت لحم أحسن من سابقاتها. وفي الخليل إستضافنا أحدهم لكن مبتغانا لم نحصل عليه. وإذ قد سمعنا أن رشاشاً موجود في قرية قرب عرتوف فقد إستأجرنا سيارة خاصة إلى هناك فكان نصيبنا الفشل. فعدنا ليلاً إلى بيت جبرين وبتنا عند صديق من آل الفرا، وفي الصباح قصدنا مجدل غزة فعثرنا على رشاشين إشتريت أنا واحداً بمئة جنيه وإشترى محمد الصعبي الآخر بمئة وخمسة وعشرين جنيهاً. بعد ذلك بدأنا مشوار العودة نحو الخليل فالقدس فطولكرم فعارة وعرعرة حيث إستعملنا جملاً في نقل العتاد وعثرنا على حمار أراحنا من وعثاء السفر إلى أن إقتربنا من مشارف البلد فأخذنا نسمع أصوات المدافع وطلقات النيران تصلنا بوضوح. حتى إذا ما وصلنا نبهنا الرحس فأعلمناهم بأمرنا فرحبوا بنا أشد ترحيب، غير أن ترحيبهم بالسلاح كان أكثر. ثم دلفت إلى البيت فوجدته خلواً من الناس إن أنهم كانوا غادروه بعد معركة طاخنة من الصهاينة، فنرلت إلى البيدر ومن شدة التعب إستلقيت على التبن ونمت حتى أضحى النهار.) إلى هذا الحد
كانت المشقة في الحصول على الأسلحة من قبل أهل القرية. ومثل آخر من هذا القبيل ما تحمله سليمان يوسف الصعبي من عناء في الحصول على عشرين بندقية قديمة مع ذخيرتها إشتراها سوريا ثم عاد بها إلى عين غزال عن طريق البحر.
كان موسى صالح العميص وعيسى حسن أبو حمد وفي معيتهم حوالي عشرة أشخاص بين نساء وأطال مسافرين في سيارة شحن إلى حيفا، فلما إجتازوا قرية جبع ووصلوا إلى حيث كانت بيارة حمضيات تسمى بيارة الحيلة ويملكها يهودي وقعوا في كمين نصبه إمرأة في ساقها وجرحوا عيسى جراحاً بسيطة. عندها لم يكن من السائق موسى إلا أن جنح بالسيارة شرقاً ليبعدها عن النيران ثم هبط من فيها محاولين جهدهم أن لا يصيبهم الرصاص. ولقد يسَر الله لهم حراثاً من جبع يسمى معيقل كان يعمل في أرضه هناك وكان معه بندثة. فلما شاهد ما حدث ألقى بالمحراث من يجه وتناول البندقية ولبد خلق المحراث ثم راح يطلق النار على المعتدين فقتل منهم ثلاثة. ولما بغت الكمين ولم يعرفوا مصدر النار ورأوا رفاقهم من حولهم قتلى دب فيهم الخوف وإستداروا وهربوا لا يلوون على شيء.
وصل الخبر في نفس اليوم إلى عين غزال وأخبر محمد عبد الله الحماد الذي صادف أن يومها غربي القرية بين أشجار الزيتون أخا عيسى المذكور محمد حسن أبو حمد أن أخاه قد قتل عند الحيلة فجن هذا الأخير فإنطلق مهرولاً صوب القرية وإستفز بضعة من الشباب المناضلين من أمثال محمود قاسم أبو قاسم ويوسف عثمان عبد اسلام فأخذوا أسلحتهم ورابطوا على مقربة من الشارع العام الذي يربط بين حيفا وتل أبيب مستحكمين في سفح جبل الرأس الواقع قرب قرية السوامر وكان قد إنضم إليهم عدد كبير من أهل البلد فما حل وقت العصر إلا وقد أعملوا رصاصهم في سيارات اليهود المارة فعطلو منها أربعاً وعشرين وقتلوا الكثير من ركابها وسائقيها وأشعلوا النار فيها وغينموا بعضها وساقوها إلى بيوتهم وقد ملأوها بشتى أنواع المؤن من زيت وسردين وأرز وسكر وسمن وما إلى ذلك.
لم يكتف مجاهدو عين غزال بما فعلوه آنفاً ولكنهم—وقد علت معنوياتهم وشمخت نفوسهم بما حققوا من نصر – عمد إثنان منهم بعد بضعة أيام إلى هجوم مفاجيء جديد على مقربة من قرية الطنطورة قام به الحاج حسن العصفور ويوسف العثمان فداهما سيارة يهودية في ذلك المكان وأصلياها ناراً حامية قتل على أثرها سائق السيارة، ثم إمتطياها وعادا بها أدراجهما غانمين.
على أثر هذه الهجمات المتكررة من أهالي عين غوال رأت الهاغاناه ( ةقوة الدفاع الصهيونية ) أم لا بد من عمل شيء تجاه هؤلاء القرويين المتغطرسين لإيقافهم عند حدهم، خاصة أنهم أخذوا يهددون عصب الحية لديهم المتمثل بحركة المواصلات ما بين حيفا وتل أبيب. وفي ليلة 14 أذار 1948 قاموا بهجوم مباغت بعد منتصف الليل من الجهة الجنوبية للقرية. وحيث أن وسائل الدفاع ونظام الحراسة حول القرية لم يكن بعد قد إكتمل فقد أخذوا البلدة على حين غزة حيث إستطاع المهاجمون إحتلال مبنى المجرسة التي كانت تقع في منطقة مرتفعة من جبل الراس، ومن هناك راحوا يطلقون الرصاص على القرية التي كانت تغط في نومها في تلك الساعة المتأخرة من الليل. وإستطاعوا كذلك الدخول بيت البيوت من الحارة الشرقية فنسفوا حظيرة أبقار وألقوا قنبلة داخل بيت أحمد سلامة الخليل الذي نجا ليلتها بأعجوبة كما إعتدوا على بيت علي أبو عباس وأحرقوا منزل سعيد أبو خالد وقتلوا زوجة مواطن.
في غضون ذلك كان أهل القرية قد تمالكوا أنفسهم وإستجمعوا رباطة جأشهم وركنوا إلى أسلحتهم وراحوا يقاومون بطلقات متقطعة ومتفرقة. ومن الذين أبلوا بلاء حسناً في تلك الليلة مختار القرية الحاج عبد القادر أبو زليخة الذي راح يطلق من خرطوشة جهة المدرسة من ديوان المختار الذي كان يسمى الحاصل الواقع وسط المطمير، وكذلك حيدر حسين السعد الذي قاوم برشاشه مقاومة لا تنسى مما جعل الخوف يدب في قلوب المعتدين . كما أن محمد حسن أبو حمد ومحمود قاسم أبو قاسم، وغيرهما كثيرين قاموا بهجوم معاكس في الحارة اشلرقية التي نسف اليهود بعض بيوتها، فإنقلب هؤلاء على أعقالهم ويمموا صوب الخلايل.
وفي 23 نيسان 1948 سقطت مدينة حيفا نتيجة لقفها المستمر بالمدفعية اليهودية التي كانت تتمركز في المناطق العليا وخاصة في جبل الكرمل فإضطر أهلها لمغادرتها وذلك لعدم مقدرتهم على الدفاع عنها للأسباب السالفة الذكر. وكان لسقوط حيفا الأثر الكبير في نفوس أهالي عين غزال فقد أصبحوا في وضع نفسي سيء للغاية. فسقوط مدينة كبيرة مثل حيفا يعني سقوط القرى العربية التي حولها إذ أن سقوط الرأس يعني سقوط الجسم، وكن ذلك لم يمنعهم من زيادة الإستعددا والحيطة والحذر والإصرار على مقاتلة اليهود دفاعاً عن أرضهم وعرضهم. فراحوا ينصبون الكمائن قرب مستعمرتي زمارين والشفيا ويرسلون المجاهدين إلى هناك لإستطلاع تحركات العدو.
غير أن الناس في قرى حيفا- ونخص بالذكر هنا جبع وإجزم – لم يعودوا يفكرون في الهجوم بعد ذلك، إنما أصبح همهم الدفاع. فلقد أصبح مصيرهم واحداً فقرروا الصمود حتى النهاية. غير أنهم كانوا ينتظرون إنتهاء الإنتداب البريطاني بفارغ الصبر على أمل آخر هو قرار هيئة الأمم المتحدة الذي أعلن فيما بعد بداية الهدنة الأولى بتاريخ 11 حزيران 1948 والتي إستمرت حتى 10 تموز من تلك السنة.
غير أن الصهاينة لم يمنحوهم أية فرصة. فقاموا بمهاجمة تلك القرى الثلاث وهم ينوون في هذه المرة أن تكون القاضية بالنسبة لها.
ودارت معركة عنيفة إشترك فيها أهل أجزم الذين كانوا قد قدموا للنجدة من جهة الشرق. ولما رأى الصهاينة تلك المقاومة الشديدة في الجهة الجنوبية إستداروا شرقاً آملين أن يجدوا منفذاً من هناك كي يطوقوا خصمهم عن يساره. غير أنهم لشدة حيرتهم وجدوا مناضلي إجزم قد سبقوهم إلى هناك فأصبحوا عند ذلك بين فكين: أهل عين غزال من الجنوب وأهل إجزم من الشرق، وكان من بين أهالي عين غزال الذين أبلوا بلاء حسناً في ذلك اليوم أحمد حسن الشيخ علي الذي إصطدم مع اليهود وجهاً لوجه، ومن بين أهالي إجزم رفيق علي الأسعد الذي قاومهم ببسالة في عُرف دار عثمان وفي جبل المتمنعة فلم يجدوا بداً من الإنسحاب. ولقد تعقبهم المقاتلون مسافات وهم يصلونهم ناراً حامية موقعين بهم الإصابات المختلفة، حيث عثروا على سبع جثث لهم ملقاة في بئر قديمة هناك. ولقد إستولوا على خمس بنادق لهم عثروا عليها في القيعان فقدموها كلها لأهالي إجزم جزاء ما بذلوا من جهد وماأُريق منهم من دماء. وذلك أن إثنين منهم قد إستشهدا في ذلك اليوم أحدهما رفيق علي الأسعد المذكور والآخر حفظي محمد خديش. وكانت الإصابات في أهل عين غوال لا تتجاوز بعض الجرخى، من بينهم مطاوع إبراهيم محمد مرعي أحد أهالي الفريديس القاطنين في عين غزال.
المصدر: كتاب عين غزال-كفاح قرية فلسطينية
محمد راجع جدعان