سعد عميرة – موقع عرب48
18/9/2020
"عثمانيّ من البيرة"
سافر إسحاق رفيدي من البيرة إلى الولايات المتّحدة، حاملًا جوازه العثمانيّ، وباحثًا عن مستقبل أفضل، مبحرًا من مياه يافا عام 1904 وعائدًا إليه عام 1926، وقد يكون ثاني مسافر من البيرة ورام الله، بعد شخص يُدعى الباتح، الّذي سبقه ببضع سنوات. بقي إسحاق فترة طويلة في الولايات المتّحدة، ومن الواضح أنّه لم يكن موفّقًا في أعماله هناك؛ لذلك فقد لحقه ابنه عزيز بعد عشرين عامًا محاولًا إقناعه بالعودة إلى فلسطين، وهو الأمر الّذي نجح فيه، بعد تلبية طلب والده بتجهيز صندوق هدايا للعائلة والأصدقاء، كي لا يعود إسحاق بخُفَّي حُنَيْن. وصل عزيز الولايات المتّحدة عام 1924، وخضع لفترة حجر إجباريّ لأنّه لا يحمل تأشيرة دخول، وبعد إمضائه فترة قصيرة حصل على وثيقة الإقامة هناك، لكنّه رفض التقديم لطلب الحصول على جواز السفر الأميركيّ طيلة إقامته هناك، كي لا يترك فلسطين.
بقي إسحاق فترة طويلة في الولايات المتّحدة، ومن الواضح أنّه لم يكن موفّقًا في أعماله هناك؛ لذلك فقد لحقه ابنه عزيز بعد عشرين عامًا محاولًا إقناعه بالعودة إلى فلسطين، وهو الأمر الّذي نجح فيه، بعد تلبية طلب والده بتجهيز صندوق هدايا للعائلة والأصدقاء، كي لا يعود إسحاق بخُفَّي حُنَيْن...
عند عودة إسحاق إلى فلسطين، قال له الإنجليز: "أهلًا وسهلًا بحضرتك، مَنْ أنت؟"، فأجاب: "عثمانيّ من البيرة"، وأبرز لهم جواز سفره، لكنّ الإنجليز رفضوا إدخاله متحجّجين بعدم وجود قيد له في سجلّات الأحوال الشخصيّة، ومن ثَمّ نفوه إلى قبرص، حيث أمضى شهرًا هناك، وبمساعدة قيّمة من دير الروم في القدس، استطاعت العائلة استصدار شهادة ميلاد كي يعود إلى فلسطين.
قبل سفر إسحاق مطلع القرن العشرين، استنجد به بعضٌ من أصحاب الحناطير في رام الله والبيرة كي يعرقل تطوّر خطّ عربات رام الله – القدس، الّذي أنشأته إحدى عائلات رام الله مطلع القرن، نتيجةً لازدياد الطلب على المواصلات إلى القدس. ضمّ هذا الخطّ 4 - 5 عربات، وأثّر سلبًا في عمل أصحاب العربات غير المنتظمين. لبّى إسحاق الاستنجاد، ففكّ الخيل عن عربات خطّ رام الله مرّات عدّة، وهو الأمر الّذي أسهم في شراء بعض الوقت لأصحاب العربات غير المنتظمين.
جرامافون، وخان، وحديقة حيوان
مع عودة إسحاق إلى فلسطين، وفي ظلّ استقرار اقتصاديّ وأمنيّ نسبيّ في البلاد، أسّس خان لاستقبال السيّاح والحجّاج في البيرة (في موقع «غاز الشنّي» حاليًّا في البيرة)، في وقت تزايدت فيه زيارات الحجيج الروس إلى "الأراضي المقدّسة"، وبجانب الخان، كان يبيع البنزين أيضًا.
قسّم إسحاق خانه إلى قسم علويّ يضمّ غرفًا للمقتدرين ماليًّا، كان يصلها الماء، وأقام غرفًا في الطابق السفليّ لعامّة الناس والسيّاح، وخصّص أيضًا قسمًا للدواب. إضافة إلى ذلك، جلب إسحاق معه بعضًا من أجواء الترفيه الّتي استمتع بها في الولايات المتّحدة؛ فأحضر أوّل «صندوق سمع» (جرامافون) إلى منطقة رام الله والبيرة، وصار كلّ الشباب يتحلّقون حوله، وأصبح الكلّ توّاقًا إلى "صندوك سمع أبو عزيز!".
لم يكتفِ إسحاق بذلك، فافتتح صالة بلياردو ومقهًى في رام الله، في عمارة قديمة كانت قائمة مكان عمارة النتشة وسط رام الله، وهناك كان يحدّث الجميع عن ترحاله والحياة المعيشيّة في الولايات المتّحدة، والمغامرات والمصاعب الّتي مرّ بها.
لقد استطاع أن يسهم في تشكيل حداثة رام الله والبيرة من موقعه مسافرًا، وقاصًّا، ومبادرًا. وعلى خطاه، ونتيجة التفاعل مع حكاياه، تشجّع الكثير من أهالي البيرة ورام الله وريفهما للسفر إلى الولايات المتّحدة، باحثين عن مغامرات وأعمال، وأصبحت قصص إسحاق جسرًا بين نيويورك ورام الله والبيرة، بل أبعد من ذلك.
بقي الابن عزيز في الولايات المتّحدة 10 سنوات، وعاد إلى فلسطين عام 1934، ومن ثَمّ عاد إلى الولايات المتّحدة وأمضى بضع سنوات، وبعدها عاد مجدّدًا إلى فلسطين وبنى محلّات في البيرة، على شارع القدس - نابلس الرئيسيّ، وفتح «بقالة رفيدي» في أوائل الخمسينات، وكان عضوًا في بلديّة البيرة.
من القصص اللطيفة الّتي يتذكّرها الأستاذ كميل رفيدي، حفيد عزيز وإسحق، قصّة أوّل حديقة حيوانات مصغّرة في رام الله والبيرة، حيث خصّص إسحاق قسمًا صغيرًا لتربية الحيوانات الغريبة، في المساحة بين الخان والمحلّات، فأحضر ضَبْعًا، وصار يشتري كلّ ما يُعْرَض عليه: نعامة، وسناجب، وصقر، وغيرها، وكما نرى في صورة «عمارة رفيدي»، توفّر لديه مساحة واسعة خلف المحلّات والخان، كي يجلب الحيوانات الّتي يريد. من الواضح أنّ الضبع لم يكن محطّ ترحاب من بعض عمّال بلديّة البيرة، فوضع أحدهم مادّة الشيد في مشرب الضبع، فمات على الفور؛ وبهذا انتهت قصّة أوّل حديقة حيوان مصغّرة في البيرة، وقد استمرّت 10 أعوام!
توفّي إسحاق عام 1965 عن عمر ناهز 95 عامًا، وتوفّي عزيز عام 1984.
من الجنديّة الانتدابيّة إلى وزارة الزراعة في القدس
أنجب عزيز ابنًا اسمه نبيه، وبنتًا أسماها نبيهة، وورث نبيه بعض الصفات الإبداعيّة عن جدّه إسحاق. درس في «مدرسة الفرندز» و«الكلّيّة الأهليّة» في رام الله، وغادر الأخيرة قبل أن يكمل عامه الثانويّ الأخير، لانضمامه إلى قوّات الجيش البريطانيّ في الحرب العالميّة الثانية.
من القصص اللطيفة الّتي يتذكّرها الأستاذ كميل رفيدي، حفيد عزيز وإسحق، قصّة أوّل حديقة حيوانات مصغّرة في رام الله والبيرة، حيث خصّص إسحاق قسمًا صغيرًا لتربية الحيوانات الغريبة، في المساحة بين الخان والمحلّات، فأحضر ضَبْعًا، وصار يشتري كلّ ما يُعْرَض عليه: نعامة، وسناجب، وصقر، وغيرها...
يذكر التقرير المدرسيّ من «الكلّيّة الأهليّة» أنّ سلوك نبيه كان جيّدًا جدًّا، وترتيبه الأكاديميّ في «مدرسة الفرندز» كان الرابع بين أربعة وأربعين طالبًا. انضمّ نبيه إلى الجيش البريطانيّ في تاريخ 12 كانون الأوّل (ديسمبر) 1941؛ إذ تجنّد في معسكر صرفند، وأنهى خدمته في تاريخ 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1945، بسبب حلّ وحدته مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية.
أثناء الخدمة، شارك في «معركة العلمين»، حيث خدم في الصفوف الخلفيّة. في إحدى الورديّات الليليّة، سمع جلبة ما، فكان متيقّظًا، وأطلق بضع طلقات تحذيريّة لكنّها لم تفِ بالغرض؛ فأطلق بشكل مباشر على الهدف وأرداه قتيلًا. تبيّن له بعد تفقّد الهدف أنّه لم يكن سوى بقرة ضالّة، ومع ذلك مُنِح ميدالية فضّيّة تعبيرًا عن يقظته، وشجاعته، وحمايته للخطوط الخلفيّة!
بعد ذلك، عمل في سلسلة متاجر «سبينيز» الإنجليزيّة، الّتي بدأت بفلسطين الانتدابيّة، واستوردت البضائع والبقالة الإنجليزيّة، وباعت في نقاط خطّ سكك الحديد الواصل بين الإسكندريّة ودمشق، الّذي يمرّ بمحطّات القاهرة، وحيفا، وعكّا. عمل نبيه مديرًا لـ «كانتين» بيت جبرين، واستمرّ في عمله حتّى عام 1947، ومن ثَمّ انتقل للعمل بوزارة الزراعة في القدس، بعد توصية من عبدالله جبران، الّذي كان يتمتّع ببعض النفوذ في الأوساط الحكوميّة. عمل نبيه في هذه المواقع حتّى تاريخ 15 أيّار (مايو) 1948، وفي شهادة الخدمة مذكور أنّ سبب انتهاء العمل "انتهاء الانتداب"!
بجواز سفر واحد... أربعة تجّار عبد الحدود
مع النكبة، وما رافقها من تذبذب في الموادّ الأساسيّة في فلسطين، بدأ نبيه وأربعة من أصدقائه بجلب بعض الموادّ الأساسيّة لأسواق رام الله والبيرة، وبطرق خلّاقة؛ فكان يتقاسم وأربعة من أصدقائه جواز السفر الأردنيّ نفسه للمرور عبر الحدود. عند عبور الأوّل، يرمي الجواز للثاني من مكان ما، فيدخل مستخدمًا نفس جواز السفر، وتنطلي الخدعة على حرس الحدود!
في ذلك الوقت، كانت فلسطين كما يقول كميل رفيدي، ابن نبيه، في وضع سياسيّ غير معروف (1948 - 1951)، ولم يكن لها كينونة، وكانت الضفّة الغربيّة تحت حكم الأردنّ، لكنّها لمّا تكن قد ضُمَّت بعد. يعلق بذاكرة كميل اسم قوّات حرس الحدود الأردنيّ «الزنّار الأحمر»، أو كما كان يسمّيها البعض «أبو شريطة حمراء»، الّتي قد تكون دخلت فلسطين ذلك الوقت، وهو الأمر الّذي يتذكّره كميل نقلًا عن أبيه، وقد يكون هذا الاسم علق بذاكرة والده لتنقّله الدائم إلى الأردنّ في تلك الفترة، واحتكاكه بحرس الحدود.
في هذه الفترة كان نبيه ورفاقه يشترون من «النافي»، وهي مستودعات الجيش الأردنيّ في عمّان والزرقاء المعروفة بـ «دكّان الجنديّ»، ذي الأسعار المخفَّضة، وكانوا يشترون كمّيّات كبيرة من الموادّ الأساسيّة: 10 علب سمنة، وبضع بقج من الطحين والسكّر، وموادّ أخرى، من ثَمّ كانوا يبيعونها لـ «دكّان شحادة الطريفي» على دوّار المنارة. هذا النوع من التجارة عبر الحدود الجديدة، غطّى بعضًا من حاجة أسواق الضفّة الغربيّة إلى الموادّ الأساسيّة، وخاصّة مع تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيّين بعيدًا عن مصادر إنتاجهم، وبالتالي استطاع نبيه ورفاقه جني بعض المال، وتغذية السوق المحلّيّة ببعض الموادّ الغذائيّة.
«سينما ديانا» و«مطبعة الشرق»
تزوّج نبيه ابنة عمّته ياسمين، وأنجبا كميل وعبير وعزيز، وياسمين حاصلة على شهادة تمريض من «الجامعة الأمريكيّة» في بيروت، ونحن بحاجة إلى مقال ثانٍ لكي نوفيها حقّها. كان نبيه إنسانًا مرهف الحسّ، وكان صاحب موهبة فنّيّة في الخطّ العربيّ والرسم؛ لذلك عمل في «سينما دنيا» الّتي افتتحتها «شركة مصايف رام الله» عام 1945، وعمله كان في الفترة بين 1948 و1950، فكان يكتب أفيش السينما والمانشيتات، علاوة على تخطيطه للدعايات على خطوط النيجاتيف الّتي تُعْرَض قبل الفيلم، وبين 1950 و1952، نمّى موهبته ففتح مكتبًا للخطّ والدعاية؛ وهو الأمر الّذي تشجّع عليه نتيجة زياراته المتكرّرة إلى القدس ومطبعاتها، الّتي احتضنت تنوّعًا وتقنيّات واسعة في مجال الطباعة والتصوير.
في نفس الفترة، كان نبيه منتميًا إلى «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ»، ومهتمًّا بفكر أنطون سعادة، وكان يصحب ابنه كميل في زيارات إلى حلقات الحزب الصغيرة في منطقة رام الله والبيرة. على الرغم من صغرها، لم يمنع ذلك أعضاء الحزب السوريّ من السهر ليلًا، وانتظار توزيع «الحزب الشيوعيّ الأردنيّ» لمنشوراته، كي يجمعها نبيه ورفاقه ويتلفوها! وبذلك؛ يتكشّف لنا الآن أحد أسباب اختفاء بعض منشورات هذا الحزب، في وقت كان فيه يتلقّى ضربات كثيرة، إن كان من «الجهاد المقدّس»، أو القوى الأمنيّة، أو حلقات تقيّ الدين النبهاني، إضافة إلى مواجهته من «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» في رام الله والبيرة.
بعد تردّد كثير على مكتبات القدس ومطبعاتها عام 1952، قرّر نبيه إنشاء مطبعته الخاصّة، وفي عام 1953، أنشأ وبالشراكة مع حجازي رشيد «مطبعة الشرق»، أوّل مطبعة أوتوماتيكيّة في رام الله والبيرة. موّل حجازي رشيد العمليّة، وأحضر آلات طباعة أوتوماتيكيّة، وبقيا شريكين لغاية عام 1963. كان الموقع الأصليّ للمطبعة، قبل فضّ الشراكة، بجانب «قهوة البرازيل» بالقرب من سوق الخضار المعروف بـ «حسبة البيرة». قبل «مطبعة الشرق"» كان ثمّة مطبعة يدويّة وحيدة في رام الله والبيرة، بجانب موقع «تكسي درويش» حاليًّا.
تخلّل عملَ الشريكين في الطباعة انخراط بالحياة السياسيّة العامّة؛ فتبوّأ حجازي رشيد منصب رئيس بلديّة دير دبوان، وكان نبيه رفيدي عضوًا في بلديّة البيرة، وتكثّف عمله الحزبيّ في فترة ما بعد حكومة النابلسي لغاية منتصف الستّينات. عام 1958، دبّ بعض الخلافات بين الشركاء، وقرّر كلٌّ من الشريكين العمل وحده، وقرّر نبيه تأسيس مطبعته الخاصّة.
«مطبعة رفيدي»: الطباعة لا دين لها
أنشأ نبيه مطبعته الخاصّة عام 1963 بجانب «مجمع المحاكم» سابقًا في وسط البلد، ويتحدّث ابنه كميل - الّذي عمل في كلٍّ من «مطبعة الشرق» و«مطبعة رفيدي» - عن تنوّع المطبوعات، في فترة تكثّف فيها الإنتاج الثقافيّ والتجاريّ. أكثر الطباعة كانت طباعة تجاريّة، والتغليف، إضافة إلى طباعة المجلّات والكتب، وبطاقات الأعراس، والإنجيل، والقرآن، وورق التغليف لـ «بوظة ركب»، حتّى المجلّتَين الترفيهيّتَين «ليلة العمر» و«تفسير الأحلام»، اللتين كانتا الأكثر طلبًا في السبعينات.
على الرغم من الميول القوميّ لصاحب المطبعة، فإنّ ذلك لم يمنعه من طباعة كتب «الإخوان المسلمين»، الّتي كانت مطلوبة في أواسط السبعينات، وتحديدًا من دور نشر في الخليل، وكان الإقبال الأكبر لدور النشر هذه على أعمال سيّد قطب حصرًا.
إضافة إلى ذلك، طوّرت المطبعة طباعة ملصقات مجموعة من صور الفنّانين والفنّانات، وهو الأمر الّذي لاقى رواجًا كبيرًا في فلسطين في منتصف السبعينات، فمن بين صور سعاد حسني ونجلاء فتحي وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، كانت صورة عبد الحليم حافظ الأكثر رواجًا، خاصّة لدى جمهور الفتيات. يتحدّث كميل عن تطوّر اقتناء هذه الصور في فلسطين، مثل "تريند" ثقافيّ معيّن لدى فئة الشباب، وهو الأمر الّذي بادرت المطبعة إلى نشره على نطاق واسع في فلسطين.
يروي كميل إحدى الحكايات الطريفة الّتي حصلت معه في أثناء توزيع هذه الصور في القدس؛ فعند وصوله إلى «كشك شبانة» بالمقربة من باب العمود، سلّم كميل المكتبة مجموعة من الملصقات الفنّيّة، وعند تسويقه ملصقات الفنّان عبد الحليم حافظ، شعر بنفور صاحب المكتبة من الملصق، وعند محاولة تأكيد كميل الإقبال الكبير على صور عبد الحليم من جمهور الشباب، ردّ صاحب المكتبة بأنّ نفوره يكمن بسبب أنّ عبد الحليم "هَمَّلِلْنا البنات"، أي جعل البنات "أكثر همالة"، حسب رأيه! في النهاية، تسلّم بعض الملصقات لعبد الحليم على مضض.
لم تسلم المطبعة من مضايقات الاحتلال الإسرائيليّ؛ فيستذكر كميل مداهمة الضابط موريس، نائب الحاكم العسكريّ، المطبعة، في مرّات مختلفة، ومنها في أثناء انتخابات البلديّات عام 1976. في هذه المداهمة، امتعض موريس من طباعة المطبعة لملصقات لـ «الكتلة الوطنيّة» الّتي كانت تخوض الانتخابات، وهو الأمر الّذي لم ينفه نبيه ولم يكن خجولًا منه.
في تلك الفترة، قرّرت العائلة التوسّع؛ فتوجّه كميل رفيدي إلى الأردنّ، وأنشأ فرعًا آخر لـ «مطبعة رفيدي»، وأصبحت من أنجح المطابع في الأردنّ، وما زالت تقدّم خدماتها لوقتنا هذا. أمّا الفرع الرئيسيّ في فلسطين فاستمرّ بتقديم خدماته لغاية الانتفاضة الثانية، ومن ثَمّ أُغلِق.
أدّت «مطبعة رفيدي» دورًا مهمًّا في بناء الحيّز الثقافيّ المدنيّ لفلسطين، في وقت كانت فيه المبادرة الفرديّة ممكنة في الحيّز الثقافيّ، قبل أن تسيطر على هذه المساحات جيوش من المديرين الإداريّين والمراسلين، الّذين قد لا يفقهون إلّا تقديم التقارير والموازنات.
أدّت «مطبعة رفيدي» دورًا مهمًّا في بناء الحيّز الثقافيّ المدنيّ لفلسطين، في وقت كانت فيه المبادرة الفرديّة ممكنة في الحيّز الثقافيّ، قبل أن تسيطر على هذه المساحات جيوش من المديرين الإداريّين والمراسلين، الّذين قد لا يفقهون إلّا تقديم التقارير والموازنات.
«مجلّة طارق»
من إصدارات «مطبعة رفيدي» مجلّة قصصيّة للأطفال بعنوان «طارق»، الّتي صدرت ما بين الأعوام 1970 – 1973، وهي حول مغامرات فتًى اسمه طارق، يمرّ بمواقف مختلفة في الغابة، منها السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، ومنها الطريف ومنها الخطر؛ ففي أحدها يواجه طارق أمير العصابة المفسد ويتعارك معه، وفي مرّة أخرى يُعْطى مهمّة إيجاد صندوق ما، وفي الجزء الأخير يُسْقِط طارق رئيس العصابة الخائن. ويتخلّل هذه الحلقات حثّ على الصفات الحسنة مثل الصدق، والشجاعة، والأمانة.
لاستقطاب جمهور الأطفال، تعاون نبيه مع الفنّان عادل اللحّام في تقديم قصص مصوّرة، وفتح مساحات للأطفال للمشاركة في بعض زوايا المجلّة، مثل فقرات «هل تعلم؟» و«اضحك مع أصدقاء طارق» و«الفتيات» و«مسابقة العدد»، وغيرها من الفقرات الّتي تخلّلت أسئلة من أصدقاء طارق لرئيس تحرير المجلّة.
الجميل في ذلك التنوّع المناطقيّ لأصدقاء طارق، وإرفاق الصور الشخصيّة لهم في زاوية دائمة اسمها «أصدقاء طارق»، حيث نجد فيها صورًا لأطفال من كلّ المدن الفلسطينيّة، من عكّا حتّى الخليل وغزّة، مرورًا بالقدس ونابلس. والجميل أيضًا في هذه المساحات، فتح حوار بين الأطفال وصاحب المجلّة، والتفاعل المتبادل بينهم، وهو الأمر الّذي تطلّب جهدًا ووقتًا كبيرين من صاحب المطبعة، للردّ على المراسلات والتفاعل معها.
يجدر بالذكر أنّ أكثر المشاركات وصلت من أطفال غزّة، وكان كميل يجوب كلّ فلسطين موزّعًا المجلّة، من مكتبات عكّا إلى مكتبات الخليل وغزّة.
لم تكن «مجلّة طارق» مجلّة الأطفال الأولى في الضفّة الغربيّة، فقد سبقتها «مجلّة البراعم» بسنة، لكنّها لم تستمرّ أكثر من عام، أمّا «مجلّة طارق» الشهريّة فاستمرّت ثلاثة أعوام، وتوقّفت بسبب مشاكل مادّيّة.
تاريخ محرّر من "أكاديميّي الإقطاع’"
إنّ البحث عن قصص الناس، والأراشيف الخاصّة، والمذكّرات الذاتيّة، يمكّننا من إعادة إنتاج تاريخنا الاجتماعيّ بتنوّعه، الّذي قد يكون غير مثير للاهتمام "لأكاديميّي الإقطاع" وعائلاته.
هي طريقة بديلة، نستطيع من خلالها إنشاء مساحة ثقافيّة خاصّة، غير قائمة على شهوة احتكار الموادّ الأرشيفيّة وحجبها عن الناس، أو جعلها متاحة لعدد صغير من "أكاديميّي الإقطاع" وسلالاتهم. نحن في أمسّ الحاجة الآن إلى إنتاج تاريخنا الاجتماعيّ، بعيدًا عن هذه المؤثّرات المحدودة الأفق، ويجب علينا تجميعه حتّى في أوقات الوباء.
كلّ الشكر للأستاذ كميل رفيدي، الّذي زوّدنا بكلّ هذه القصص والموادّ المثرية، الّتي حاولت قدر الإمكان تحرّي الدقّة فيها.