رام الله 19-9-2020 وفا- رشا حرزالله
بعد فترة على وفاتها في حزيران/ يونيو عام 2004، راح أيمن يرتب خزانة والدته سميرة بن عبد السلام، يبكيها ويقبل ثيابها، ويحادثها في الغياب، غير مصدق أنها رحلت.
في رمشة عين، تبدل كل شيء، وسيطرت على أيمن بن هادية حالة من الصدمة والذهول، بعد أن عثر بين ثياب سميرة على وثائق قديمة، كانت قد حصلت عليها هي ووالده عبد القادر بن هادية تونسيا الأصل، من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982، تثبت أنها ليست أمه.
كتب في الأوراق: "تفيد ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في الجمهورية العربية السورية –مكتب دمشق- بأن الطفل أيمن عبد الرحمن الديراوي/ والدته عائشة من مواليد بيروت/ لبنان عام 11-6-1982، والداه من الشهداء الذين سقطوا أثناء الغزو الصهيوني للبنان..".
ما بين التصديق من عدمه، استجمع أيمن قواه وراح يستعلم من والده عبد القادر عن الأمر، بكى الوالد بحرقة خوفا من أن يتركه أيمن بعد معرفته بحقيقة أنه ليس ابنهما، بل تبنياه من منظمة التحرير بعد استشهاد والديه الفلسطينيين في مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقوات الكتائب والميليشيا المتعاونة مع إسرائيل، في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، وراح ضحيتها ما يزيد على 3500 شهيد.
روى عبد القادر الذي كان يعمل مديرا في معهد الثقافة التونسي وتربطه علاقة قوية بمنظمة التحرير آنذاك لأيمن حقيقة ما جرى، وكيف عثر عليه مقاتلو المنظمة إبان المجزرة، بعد أن خبأته أمه عائشة داخل قدر لطهي الطعام بينما كان عمره ثلاثة أشهر، ومعه أوراقه الثبوتية، خوفا من أن يتم قتله، ونقلوه إلى مقر المنظمة في العاصمة السورية دمشق مع باقي الأطفال الذين استشهدت عائلاتهم في المجزرة، وبقي هناك ثلاثة أشهر، قبل أن يأتي الزوجان التونسيان عبد القادر بن هادية وسميرة بن عبد السلام ويطلبان من المنظمة تبنيه.
حصل الزوجان على الأوراق والوثائق اللازمة من مكتب منظمة التحرير، وتم عمل الإجراءات اللازمة بواسطة وزارة الخارجية التونسية لتسهيل دخول أيمن إلى تونس، وصار منذ ذلك الحين المواطن التونسي أيمن عبد القادر بن هادية.
لم يكن الأمر هينا على أيمن، لكنه قطع عهدا لوالده عبد القادر بأن يبقى معه، فهو في نهاية المطاف من رباه وكبره "لم أشعر يوما أنني لست ابنهم مطلقا، لم يشعروني بذلك، قاما بواجبهما تجاهي على أكمل وجه" قال أيمن.
أخفى الزوجان عن أيمن الحقيقة لخوفهما من أن يتركهما، ويذهب للبحث عن عائلته الفلسطينية، فهما اعتادا عليه، وكأنهما أنجباه، لكن في أيلول/ سبتمبر عام 2012 توفي عبد القادر، وتزوج أيمن، ومن ثم بدأ رحلة البحث عن عائلته الفلسطينية.
عام 2016، حصل أيمن على تأشيرة للسفر إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ولحظة وصوله توجه إلى مخيم شاتيلا باحثا عن ضريح والديه، لكن أهل المخيم أخبروه أنهما دفنا في مقبرة جماعية مع من استشهدوا إبان المجزرة، وارشدوه إلى الطريق، سار أيمن بخطى ثقيلة، وجسد مرتعش، وقلب منتفض، إلى أن وصل إلى الضريح فجثى على ركبتيه وراح يتحسس القبر، وتحدث إليهما باكيا، ووضع لهما إكليلا من الزهور ومضى.
يقول أيمن (38 عاما) "من الصعب وصف الشعور، بكيت كثيرا، انتابني شعور بالحزن، لكن في لحظة ما شعرت بالفخر انني ابن شهيدين، رحت أتخيل كيف كان شكلهما، وتمنيت لو أنني عثرت على صورة لهما".
لم تتوقف رحلة بحث أيمن عن جذور عائلته، وقاده البحث للعثور على أشخاص من عائلة الديراوي يسكنون في قطاع غزة، وبعد التواصل معهم تبين أنهم أعمامه، وأخبروه بأن والده عبد الرحمن هاجر من غزة عام 1969، باتجاه الأردن ومنها إلى العاصمة السورية دمشق، وثم إلى مخيم شاتيلا في بيروت، تاركا وراءه في غزة زوجة وطفلة بعمر عامين، وهناك تزوج بعائشة وأنجب منها أيمن، لكنهم لا يعرفون من أي عائلة تنحدر.
"أتمنى الحديث مع أختي قيل لي إن اسمها هدى وتعيش في غزة، وأن عمرها (50 عاما) ومتزوجة ولها أبناء، لكن العائلة متحفظة، يجب أن أجري فحص "DNA"، هذا ما تشترطه العائلة، رغم ترحيبها بي" يضيف أيمن.
يحول الحصار المفروض على قطاع غزة، وإغلاق المعابر، وصعوبة سفر هدى إلى مصر لإجراء الفحص الجيني بين لقاء الأخوين، إضافة للوضع المادي الصعب، يقول أيمن: "بمجرد إجراء الفحص سأحصل على الجنسية الفلسطينية، هكذا أخبرتني السفارة الفلسطينية لدى تونس، أريد لبناتي الثلاث أن يلتقين بعمتهن".
تواصلنا مع هدى الديراوي، وهي أم لخمسة أبناء وأربع بنات، وتسكن في المخيم الجديد بالنصيرات، والتي أكدت أنها أجرت فحصا جينيا في غزة، لكن الأجهزة الطبية المتوفرة محدودة الإمكانيات، حيث فشلت في الحصول على نتيجة.
بدت فكرة وجود أخ لها غريبة عليها، لكنها تقول: "أنا إنسانة واقعية لا أريد أن أتأمل كثيرا، أنا أبعد عن المواقف الحساسة والحزينة، لأنني حرمت من أبي وأمي وعشت مواقف قاسية بما يكفي، ولا أعرف في حال تبين أنه أخي كيف سأتعامل معه".
رغم خوفها، لكنها في أحيان كثيرة تطلب من أولادها التواصل مع أيمن، وهم يحبذون ذلك، لكنها في أحيان أخرى تخاف من أن تعلقه بهم أو العكس "شاهدت صورته مع أولادي، قالوا لي هذا أخوكِ، هو يشبه أحد أعمامي كثيرا".
سألناها، هل تتمنين أن يكون أخاك فعلا؟ فأجابت "ياريت .. أن يكون لي أخ هذا شيء جميل".
ما يشغل بال أيمن الذي يعمل حاليا في معرض للسيارات في سوسة بتونس، أنه لا يعلم أيضا إن كان له أشقاء من والديه الفلسطينيين أم لا، أو أين يتواجدون، هو مستمر بالبحث مع جهات رسمية فلسطينية، ولا يترك أحدا من عائلة الديراوي الا ويتواصل معه في محاولة للوصول إلى طرف خيط، وأمنيته أن تتم مساعدته على لملمة شتات عائلته.