إن حضور المرأة الفلسطينية كامن في الثقافة الفسطينية ووعيها المقاوم منذ الإرهاصات الأولى للكفاح الوطني الفلسطيني. النموذج الذي نتناوله في هذا المقال حاضر في سلاح المقاومة، وحاضر في العمليات الفريدة من الكفاح المسلح الذي تنتمي له بطلتنا المناضلة زكية شموط بعد نكبة 1948م، حيث كان لدور المرأة الفلسطينية بصمات واضحة في المقاومة آنذاك. التحقت شموط بساحات النضال، وصنعت لنفسها مجدًا وتاريخًا لا ينسى. كما مثلت نموذجا للمرأة الفلسطينية المناضلة، بكل تفاصيلها؛ ابتداء من المقاومة إلى الأسر مرورًا بالتحقيق والتعذيب.
من المهم بداية أن نذكر الدور المهم والبارز للفلسطينيات في النضال الوطني، بأشكاله المختلفة مثل: لجان جمع التبرعات، ولجان الإسعاف، والمؤتمرات التي تدعم المقاومة. وأما أول مؤتمر نسائي في مدينة القدس بتاريخ 26 أكتوبر عام 1929م، وقد حضرته ثلاثمائة امرأة فلسطينية من القدس ويافا وحيفا وعكا وصفد ونابلس ورام الله وجنين والخليل، حيث تم تشكيل وفد من 14 سيدة لمقابلة المندوب السامي البريطاني لإلغاء وعد بلفور.
أما الاجتماع الثاني فكان إبان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م إثر الإضراب الذي شمل جميع مدن وقرى فلسطين. اجتمعت آنذك 600 طالبة فلسطينية اجتماعًا عامًا في 4 أيار، قررن فيه الاستمرار بالإضراب حتى تستجيب سلطات الانتداب البريطاني المطالب الشعب الفلسطيني، وقامت لجنة السيدات العربيات في القدس بإرسال كتاب إلى مؤتمر السلم العالمي في بروكسل في 3 أيلول/ سبتمبر 1936م طالبن فيه بوقف الهجرة اليهودية وإقامة حكومة وطنية في فلسطين. وقد جاهدت النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال في العديد من المعارك، والاشتباكات المسلحة، وقدمن الدعم والحماية لهم.
| زكية شموط: التاريخ والهوية
أبصرت المناضلة زكية شموط النور في مطلع يناير عام 1945م بمدينة حيفا، وكانت في الثالثة من عمرها عندما سقطت فلسطين بيد اليهود، فعاصرت البدايات الأولى للاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية كذلك. تزوجت زكية شموط من المناضل محمود مسعود، ولها من الأولاد: ناديا، ودولت وهالة ومسعود وعامر ومريم.
التحقت زكية بالعمل الفدائي عام 1968م، ونافست شقائقها من الرجال، حيث قامت بسبع عمليات فدائية، وكانت عملية حيفا أولى عملياتها، حيث وضعت عبوة داخل بطيخة كبيرة زنتها عشرون كغم، وأفرغت محتواها، وارتدت معطفًا محشوًا بالديناميت وحملت ابنها ذي الأشهر التسع على يدها، والعبوة داخل سلة باليد الأخرى، وفجرتها في سيرك بلغاري في مدينة حيفا المحتلة، مما أدى إلى مقتل خمسة عشر إسرائيليًا وعشرات الجرحى. وأخرى تحت شاحنة محملة بتفاح من الجولان كانت يجرى عليها مزاد لصالح جيش الاحتلال، حيث أسفر التفجير عن سقوط عشرات القتلى الإسرائيليين.
| حكم بالمؤبد
اقتحم جنود الاحتلال بيت شموط في ليلة من ليالي شتاء عام 1971م، واعتقلوها مع ثلاثة من أبنائها وزوجها، وتركوا الفتاة الصغرى في البيت وحيدة. وكانت زكية حاملًا في شهرها السادس، ومع ذلك فقد تعرضت لظروف سيئة دون مراعاة لوضعها كونها امرأة حاملًا، حيث تعرضت للضرب الشديد والتعذيب القاسي وللصعقات الكهربائية، وتم تعذيب ابنها أمامها، ورغم ذلك بقيت صامدة وقوية ولم تعترف سوى بأنها "فدائية". أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية حكمًا بحقها بـ12 مؤبدًا (1188 سنة)، بينما حكم على زوجها المناضل محمود مسعود بالسجن مدى الحياة.
وفي ١٨ شباط ١٩٧٢م شهدت زكية آلام المخاض وهي في زنزانتها الانفرادية، ولم يفتح لها الباب واستمرت بالصراخ، حتى لم يعد يصدر لها أي صوت، ليرتفع بعد قليل بكاء طفل. فتحت السجّانات الباب، وإذا بها مطروحة مغشيًا عليها، والطفلة ما زالت متصلة بأمها، فقامت السجينات، ومنهن فاطمة برناوي وتريز هلسا وحنان مسيح، بقص الحبل السري الذي كان يصل بين الأم والطفلة.
أطلقت شموط على مولودتها اسم ناديا تيمنا برفيقتها في الأسر، وهي المناضلة المغربية "ناديا برادلي" التي كانت متواجدة معها في ذات السجن بعد تنفيذها عملية فدائية ضد الإسرائيليين. بقيت الطفلة مع والدتها حتى بلغت من العمر عام ونصف وبدأت تدرك الأشياء من حولها، وبعفوية وبراءة الطفولة تشتم السجانات والاحتلال، فتم اتخاذ قرار من إدارة السجن بعزل الطفلة عن أمها، وإرسالها إلى الملجأ. ومن لحظتها انقطعت أخبار الطفلة عن زكية ولم تعرف في أي ملجأ وضعت طفلتها، واستمرت أسوار وجدران السجن تفرق بين الأم وطفلتها.
بقيت المناضلة زكية شموط صامدة محتسبة صابرة في زنزانتها، واثقة بحريتها وأن القيد سينكسر ويزول ويلم شملها بنادية وباقي أسرتها. وأخيرًا، وبعد أن انقضت أربعة عشر عامًا في المعتقل، عادت بسمة اللقاء لتلتقي الطفلة مع أمها خارج أسوار السجن الظالم، لتكمل معهم حكاية وطن وثورة وصمود.
أمضت رائدة النضال الفلسطيني المناضلة زكية شموط "أم مسعود" في سجون الاحتلال الصهيوني 15 عامًا بشكل متواصل، وتم الإفراج عنها وزوجها في صفقة تبادل الأسرى عام 1985م، وبعد إطلاق سراحها وزوجها محمود خلال عملية التبادل، انتقلا إلى تونس للعيش هناك، إلى حين استهداف منزل «أبو عمار» في «حمام الشط»، لينتقلا مع أفراد العائلة إلى الجزائر، فاستقرت هناك حتى وفاتها في السادس عشر من أيلول/سبتمبر عام ٢٠١٤ م.
كبرت "نادية" الطفلة الفلسطينية الأولى التي أبصرت النور في عتمة سجون الاحتلال الإسرائيلي وتزوجت من المناضل والأسير المحرر "خالد أبو إصبع" أحد أبطال عملية الساحل الشهيرة والتي استشهدت فيها دلال المغربي في آذار عام ١٩٧٨م، وأحد محرري صفقة التبادل عام ١٩٨٥م.