المحتوى |
آلام الهجرة إثر نكبة عام 1948 لا تكاد تُحصى بتعداد, وإذا كنا سَردنا هنا أو هناك مثالاً أو مثالين على وجه التّحديد, فمن المؤكد أن هناك آلافاً مؤلّفة مثلها أو أبلغ منها بعددِ أفرادِ مَن هاجروا مَضْروبةً في عددِ قصص أو حجم معاناة كل واحد منهم على حِدَة أو تزيد.
سألقي الضوء في هذه المقالة على سيرة مختصرة لجدّي من أمّي المرحوم الحاج حسين إسماعيل الداقور (أبو إسماعيل) ثم قصّة معاناته مع الهجرة كما سمعتُها مشافهةً منه أو من غيره على مدى سنيّ عمري في فترات متعاقبة بحيث انتهت شبه مُكتملة في ذهني كالتالي:
بدايةً, المرحوم هو من عرب الجرامنة (بني جرم) كما هو معلوم, والذين تعود أصولهم المُثبتة إلى قبيلة طيّء في الجزيرة العربية, وأكثر ما يميّزهم بإجماع الكثيرين هو حُسن الجوار وطيب المعشر وكرم الضّيافة, ومن أطرف عن ما قيل في كرمهم هذا أنهم إن لم يجدوا غريبا يستضيفونه فإنهم يستضيفون بعضهم البعض.
أما مصطلح "عرب" بحدّ ذاته في المفهوم الفلسطيني الدّارج فهو يعني أولئك من يجمعون في معيشتهم بين البداوة والفلاحة في آنٍ معاً, بمعنى أنّ لهم بيوتاً دائمة يقطنون فيها وقت الزراعة, ثم بيوت شعر متنقّلة وقت الرّعي. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عرب أبو كِشْك وعرب السّوالمِة قرب ملبّس.
ويجدر بالذّكر أنه كانت تجمعه صداقة قويّة وقديمة مع جدّي لأبي المرحوم حسين المصطفى (أبو أحمد) والتي انتهت بالمصاهرة عام 1940.
توجّه لأداء فريضة الحجّ بحراً عن طريق ميناء يافا مروراً بقناة السويس سنة 1942, وكان معه في حملة الحجّ تلك من البلدة كلّ من المرحومين الحاجّ عيسى حسن موسى (أبو حسن) والحاجّة زاهريّة (أم العبد).
أما عن نشأته, فجدّته لأبيه هي من بيت الصُرّي في كفر الديك وأمّه من دير السودان بمنطقة رام الله والتي توفّيت وهو في سنّ الصّبا, فطلبنه خالاته في دير السودان لكي يعتنين به من جانب, ومن جانب آخر كي يتعلم القرآن هناك شفاهة على يد أحد العارفين بالله ولا نزكّي على الله أحدا, وقد تأثّر من تعلّمه على يد ذلك الشيخ الصالح بالذات وأثّر ذلك بشكل إيجابيّ وجليّ على مسار حياته لاحقاّ, وإليكم ما سمعته على لسانه عن كرامات ذلك الشيخ:
"لم أتمكّن من إكمال تعليمي عند ذلك الشّيخ بسبب حاجة والدي إليّ لمساعدته, فرجعت إلى المويلح لرعاية الأغنام, وكنت قد عقدت النيّة بيني وبين نفسي أنّي قد نذرت "جَدياً" بعينه لأستاذي الشيخ ولا يعلم عن نيّتي تلك ولا دار ما في نفسي حينها غير خالقي, وفي أحد الأيام حضر الشيخ إلينا ومرّ عليّ عندما كنت في المرعى لوحدي, فسألني مباشرة أين نذرك يا حسين؟ تملّكتني المفاجأة ممّا سمعت وقلت له ما دمت عرفت نيّتي فهو بين القطيع هناك فاذهب وأحضره, توقّف الشيخ لحظة ثم توجّه إلى القطيع الكبير وأحضر ذلك "الجَدي" بعينه, فسألته بالله عليك أن تُعلمني كيف عرفته؟ فأجابني: لقد وضعتني فجأة وبدون سابق إنذار أمام امتحانٍ صعبٍ يا حسين, فسألت الله سبحانه وتعالى أن يهديَني إليه فعرفته من علامةٍ ظهرت لي بين قرنيه".
أما عن عرب الجرامنة عامّة, فقد كانوا يقيمون في منطقة المويلح بين كفر قاسم وملبّس منذ عام 1725 م تقريبا كما قيل, وكانوا يمتهنون الزراعة وتربية المواشي على حدّ سواء, وبسبب استغلالهم الكامل لأراضيهم الصالحة للزراعة في المويلح في السّهل الساحلي, فقد كانوا يرتحلون بمواشيهم في موسم الزراعة إلى أراضيهم الجبلية المسمّاة بالمعاديد في مناطق كسفة وأم الحمّام والجبل الأزرق وما حولها ويبنون خيامهم فيها ما يقارب الستة أشهر سنويا, وعند الحصاد أو انتهاء الموسم الزّراعي يرجعون بمواشيهم تلك إلى بيوتهم الدائمة في السّهل. علما بأنهم قد اشتروا تلك الأراضي الجبليّة على مدى سنوات طوال خلت لهذا السبب بالذات أي لاستغلالها كمراعي لمواشيهم, والتي بلغت مساحتها في مجموعها أكثر من عشرة ألف دونم تقريبا, ومنهم من عقد فيها بيوتا حجرية مثل حياة الشيخ يوسف أبو زرّ في أم الحمّام والتي لا تزال آثارها قائمة ومعلومة.
وممّا يجدر ذكره أن عين مريم في رأس العين كانت من جملة أراضي الجدّ, وقد استولى عليها الإنجليز وأحاطوها بالأسلاك الشائكة أثناء فترة الإنتداب وبدأوا بمشروع ضخّ مياهها إلى القدس ولا تزال كذلك حتى يومنا هذا.
ورث عن أبيه مكانته بين كَبراء عرب الجرامنة, الذين كانوا يجتمعون لحلّ المشاكل الداخلية الطّارئة فيما بينهم, ولم ينعقد ثمّ ينفضّ مجلس أولئك الكُبراء من القوم دون أن ينتهي إلى تسوية مُرضية لأيّ مشكلة أو نزاعِ مهما كان نوعهما.
أما الحديث عن نساء الجرامنة بالمقابل, فعِوَضا عن حُسْنِ تنشئة وتربية أولادهنّ على احترام الصّغير للكبير, فقد كان مشهوداً لهنّ بالقيام بواجب الضّيوف كاملاَ في حال غياب الرّجال, وكانت مهارتهنّ في ذبح وسلخ وتقطيع الذّبائح لا تقلّ عنهم بشيء, وبالنظر لتعبهنّ المتواصل في أعمال البيوت وخارجها, فقد كنّ يذهبن إلى طبريّة للإستجمام في مواسم معينة من العام وذلك في مجموعات بالقطار من ملبّس ويرجعن في نفس اليوم إما إلى السّهل أو إلى المضارب في الجبل. وهذا يعطينا دلالةً واضحة كم كانت ديار فلسطين عامرةً ومزدهرة.
وعلى هامش هذا المقال, حضرتني قصة ظريفة بالمناسبة حصلت في وقت ما عند المرحوم الشيخ يوسف أبو زرّ, حيث كان بعض الضّيوف في خيمة والنساء يجهّزن الطعام في الخيمة المجاورة, وفجأة سُمِع صوت قهقهة وضحك عالٍ من خيمة النساء وهذا أمر معيبٌ ومستهجنٌ وغيرُ مألوف عندهم بطبيعة الحال, فذهب الشيخ يوسف مُسرعاً ليستطلع الأمر ثم رجع وبيده أحد العبيد (كلّنا عبيد لله) ووجهه وثيابه مغطّيان باللبن حين أراد أن يفتح السّعن (الشّكوة) فاندفع ذلك اللبن عليه وغمره من أعلاه لأسفله, ثم أراه للحاضرين الذين انتابهم من الضّحك ما انتابهم بالمثل وأكثر, وكان في ذلك التّصرّف اللّبق جوابا صامتاً منه على ما بدرَ من خيمة النساء ساعتها.
عوداً على بدء, كان المرحوم يملك من الأرض الزراعية من خير الله ما مجموعه سبعون دونما تقريبا متفرقة قرب نهر العوجا, وكانت تُزرع بمختلف أنواع الفاكهة (وخاصّة التفاح البلدي) والخضار الموسميّة, وفي وقت القطاف كان ينزّل على حسبة ملبّس نقلتين أو أكثر يوميا على عربة يجرها حصانان (بمعدل أربعين إلى خمسين صندوقا في النقلة الواحدة), ومن المواشي كان العدد يتفاوت ما بين خمسين إلى ما يزيد عن مائة رأس من الأبقار في المرّة الواحدة, وروي أنه في أحد السنين قد ولد عندهم ما مجموعه مائة وستة من الأبقار, وكان يتم استغلال حليب تلك الأبقار لعمل السّمنة في المقام الأول ثم منتجات الألبان الأخرى في ما عدا ذلك, أما الحليب أو اللبن الذي يفيض عن قدر الإستطاعة, فقد كان يُرمى في الوادي قبل أن يتلف. وكانت هناك سقيفة خاصة مليئة بجرّات السّمن الرّملاوية (نسبة إلى مدينة الرّملة) والتي كان لونها أسودا لتمييزها عن غيرها, والتي كانت في نهاية المطاف تجد طريقها هي وغيرها من المنتجات للتّسويق في سوق ملبّس كذلك الأمر. وقِس ما شئت على ذلك من الدّواجن بأنواعها.
رُزق من البنات بثمانية, ومن الأبناء بثلاثة هم إسماعيل وعلي ويعقوب, توفّي علي طفلا صغيرا وتوفّي إسماعيل شابّا بشكل مفاجئ سنة 1939 (رحمهما الله) مما اضطرّ ثالثهما يعقوب إلى ترك الدراسة في حينه والإلتحاق بوالده ليكون معينا له في أعماله اليومية. وقد تزوّج الخال يعقوب سنة 1947, أي قبل الهجرة بعام.
هكذا كان الحال من اليُسر قبل الهجرة, خير ربنا باسط والحمد لله, ويمكن لأحدنا بكل بساطة أن يحسب ذلك الثراء بمقاييس هذه الأيام, ولكن لننظر كيف تبدّل الحال بعدها:
إرتحل عرب الجرامنة على إثر النكبة إلى أراضيهم في المعاديد أولا مع مواشيهم ونصبوا بيوت الشعر كعادتهم فيها, ولكن تمّ ترحيلهم منها على وجه السّرعة بسبب أعمال التّسلل التي تلت ولم يُسمح لهم بزراعتها أو الإستفادة منها لاحقا, وقد تمّ ترحيلهم عنوة بعد ذلك إلى المخيّمات وخاصّة مخيم بلاطة, ولم يتبقّ منهم في الجوار إلا أقلّ القليل. وكان جدّي قد ارتحل مِن بين مَن ارتحلوا إلى أرضٍ له بين كفر قاسم والمجدل أولاً ثم إلى كسفة ثانيا, وكان عنده من الأبقار في حينه ما مجموعه ثمانية وعشرون رأسا, وبعد انتقالهم القسريّ من كسفة نصب خيامه في منطقة ظهر الكلب غربيّ رافات لمدّة عامين تقريبا.
بعد تفريغ أولئك المهاجرين من المناطق المتاخمة للحدود إلى المخيّمات أو القرى البعيدة, ارتحل إلى دير بلوط في مقطع الزاوية, وأصبح لا بدّ من بيع تلك الأبقار واحدة تلو الأخرى حتى نفدت بالكامل, وأخر ما تبقى لديه حصان عجوز هلك هو الآخر أخيراَ ولم يتبقّ لديه من متاع الدنيا الفانية غيرَ وجهِه سبحانه.
أصيبت المرحومة جدّتي أم إسماعيل بالعمى في أواخر أيامها, وانتهى به الأمر معها في سقيفتين صغيرتين واحدة له مع ثلاثة من البنات وأخرى مجاورة للخال يعقوب وأسرته, وكان بحكم خبرته في الزراعة وآفاتها وتربية الماشية وعلاجها مرجعاً للكثيرين من أهل البلدة وحتى من القرى المجاورة, وكان يأخذ أراضي من أهل البلد يزرعها إما في المرج أو وادي العين أو واد جبران على القسمة ولكن المردود كان لا يتجاوز الصّفر إلا قليلا, وأذكر أنهم قد حمّلوا شاحنة بطيخ كاملة من أرض المرحوم حسن الإبراهيم (أبو عزّت) في المرج وبيعت في حسبة رام الله بما يزيد قليلا عن إيجار تلك الشاحنة فقط !!
بعد حرب 1967, ومما زاد في حجم المعاناة تلك, وبسبب سجلّه الأمني وقتها, فقد اضطرّ الخال يعقوب (أبو محمد) أن يرتحل مع أسرته إلى شرق الأردن بعيدا عن والديه وهما في أمسّ الحاجة إلى خدماته آنذاك, ولم يُعهد عن جدّي قبل ذلك أو بعده غير الصّبر والإحتساب. وكان رحمه الله لا يفوّت صلاة الجماعة ولو لمرّة واحدة صيفا أو شتاء إذا تواجد في داخل القرية.
هذا وقد كان له في أواخر أيامه موقف يسجّله التاريخ بأحرف من نور, إذ بعد حرب 1967 قدم إلى البلدة جار يهودي له في أرض المويلح يسأل عنه وقال أنه كان يبيع كل منتجات أرضه طوال تلك السنين ويجمعها له وأنه يريد أن يعطيه إياها دفعة واحدة, فاعتذر عن رؤيته وأخبر من جاء يبلغه بذلك أن يقول له أنه قد ارتحل إلى شرق الأردن منذ زمن بعيد وأن أخباره قد انقطعت. وقال ساعتها إنه إن فعل ذلك فسيُقال عنه أنه قد باع أرضه وقبض ثمنها.
توفي رحمه الله في كفر قاسم عام 1971 أثناء تواجده في زيارةٍ لإبنته عن عمر يناهز واحد وتسعون عاماً, وكانت المرحومة جدّتي قد سبقته إلى جوار ربها هناك قبل ذلك بأقل من عام تقريبا.
وكما أسلفنا في المقال السابق عن الزّراعة في دير بلوط, فإنه كان من بين أوّل من أدخل أو شجّع على زراعة الخضروات في البلدة بعد الهجرة مثل البطيخ والشّمام والبندورة والخيار والفقوس والبامية وغيرها في كلّ من المرج والبالوع, هذا إضافة إلى زراعات الأحواض في البيوت مثل الفلفل والبقدونس والشّبت والنّعناع .... الخ. وللإنصاف والشيء بالشيء يُذكر, لا ننسى هنا أن المرحوم أحمد العمر (أبو محمد) من مهاجري قولية كان له دورٌ هو الآخر في ذلك التّوجّه.
نهاية, لو كان هناك سؤال يُسأل, ماذا وكيف سيكون حسابهم عند ربهم إبتداءً من المحروق بلفور وانتهاءً بمن تبعه أيّاً وأين كان, أولئك من تسبّبوا في تشريد تلك الآلاف المؤلّفة من الناس من مُستقرها ومأمنها وسَعَتِها إلى ما آل إليه حالهم وحال غيرهم من المآسي والمعاناة وضنك العيش؟
عزاؤنا في ذلك قوله سبحانه من نهايات سورة إبراهيم "وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمونَ, إنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأبْصارُ, مُهْطِعينَ مُقْنِعي رُؤوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إليْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأفئِدَتُهُمْ هَواءٌ". صدق الله العظيم.
|
Preview Target CNT Web Content Id |
|