تمر اليوم الخميس الذكرى السنوية لمجزرة تل الزعتر، التي استحالت بفعل تداعياتها الإنسانية والاجتماعية فلسطينيا، إلى شاهد ليس على النكبات التي عاشها الفلسطينيون، وإنما إلى جزء من هوية هذا الشعب الذي تعرض ولا يزال إلى أبشع احتلال ترعاه دول متقدمة تدعي الترويج للحريات والديمقراطية.
أقف أمام هذا النص تائهاً، أحاول أن أكتب تقريراً موضوعياً، وأنا ابن تل الزعتر، وابن هذه المجزرة، مزقت الكثير من الصفحات الافتراضية ورميتها، وما زلت أحاول أن أبدأ هذا النص بأكبر قدر من الموضوعية.
في الذكرى الخامسة والأربعين لمجزرة تل الزعتر، ثمة قضايا ما زالت عالقة، قضايا إنسانية لا يرفضها أي عقل إنساني، بل لا يقبل أن تبقى عالقة حتى اليوم.. قضايا لم يتم حلّها بحجج واهية، مثل الحفاظ على السلم الأهلي، وعدم فتح جروح الماضي.
لن أتحدث عن حصار 52 يوماً، عاش فيها المخيم على حنفية ماء واحدة. ولن أتحدث عن 72 هجوماً نفذتها القوى اليمينية المعادية تسببت بالكثير من المجازر. ولن أتحدث عن 55 ألف قذيفة متنوعة، صُبَّت على رؤوسنا خلال الحصار. لن أتحدث عن الجوع، العطش، العمليات الجراحية بدون ضوء سوى الشمع المصنوع يدوياً، البتر كَحَلّ سريع، الحصار، الملاجئ، الشهداء، التهجير وغيره الكثير.
ثمة قضيتان ما زالتا عالقتين ولم يتم حلهما، مع أن خيوط الحلّ موجودة وواضحة.. وهي تخص كل عائلة من عائلات تل الزعتر.
القضية الأولى: جثامين الشهداء
4280 شهيداً سقطوا في المجزرة، نصفهم في الحصار، ونصفهم في الخروج من المخيم. في أثناء الحصار، امتلأت مقبرة المخيم، وحال القصف دون الوصول إليها، وجرى الدفن بأقرب فسحة ممكنة، تحت المسجد، قرب المستشفى، بجانب الملاجئ، داخل الورش الصناعية، حتى داخل البيوت!
خرجنا من المخيم، تاركين خلفنا بيوتنا وأملاكنا وشهداءنا وماضينا المدفون في ثرى المخيم.. 2000 شهيد داخل المخيم، ومثلهم خارجه.
بعد سقوط المخيم بثلاثة أشهر، جرى التنسيق بين منظمة التحرير وحزب الكتائب لاستعادة نحو ثمانين شهيداً بشكل جماعي، وجرى دفنهم في القبر الجماعي لشهداء تل الزعتر في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية عند دوار شاتيلا (قريباً من ضريح الحاج أمين الحسيني).
كثير من القصص الفردية المعروفة (نحو خمسين حالة)، ذهبت أكثر من إمرأة ودفعت مالاً، من أجل أن تحفر ليلاً وتستخرج جثة زوجها أو إبنها أو أبيها، في مشاهد تشبه أفلام التشويق والرعب، وتضع الجثة في سيارة التاكسي التي أقلّتها إلى المخيم المدمّر، وتعود به إلى بيروت الغربية، وتدفنه. من أجل أن تعرف مكانه، وأين تزوره بعد موته لتقرأ له الفاتحة، كحقّ من حقوقها. وبات هذا العمل منظماً من قبل مجموعات موجودة هناك. وبلغ سعر العملية في تلك الأيام 500 ليرة لبنانية (250$ في السبعينيات).
عَمُّ كاتب هذه السطور، مدفون في موقف سيارات في المخيم، وكلما زرت المخيم أذهب إلى هناك وأقف بين السيارات لأقرأ له الفاتحة (انظر الصورة). حاولنا إثارة موضوع استعادة الرفات، كان الردّ سلبياً "لأن هذا الأمر يفتح جروح الحرب الأهلية".
هنا قبر عم كاتب هذه السطور
حاولت رابطة أهالي تل الزعتر أن تسترجع الجثامين، ولم يسمحوا لها بذلك. علماً أنهم معروفو الأماكن، ففي ملجأ واحد مدمّر (تحت بناية بوتاجي) يوجد ما بين 400 إلى 500 شهيد.
أما الذين استشهدوا أثناء تسليم المدنيين (حوالي 2000)، فقد تواترت الأخبار عن دفن الجثامين بالجرافات في منطقة المنصورية (القريبة من المخيم) في مقبرة جماعية. وقد ربح أحد المحامين قضية يؤكد وجود بعض الرفات من مقبرة مَارْمِتِر في الأشرفية، وعندما أراد أن يستخرج أو يتفقد الجثامين، كان القرار السياسي الحازم، رافضاً فتح باب استعادة الجثامين.
القضية الثانية، تجارة الأطفال:
في يوم المجزرة الكبير، في 12 آب (أغسطس) 1976. قُتل الكثير من الأطفال (بالرصاص أو اختناقاً في زحمة الترحيل)، وضاع الكثير، وخُطِف الكثير، إما مباشرة وإما بسبب بقائهم فوق جثث أهاليهم تائهين لا يعلمون ما يفعلون، فيأتي من يأخذهم.. وحسب الصديق وليد الأحمد الذي تابع هذا الملف، إن الصليب الأحمر اللبناني قد تولى أمر مجموعات من هؤلاء فنقلها إلى دير في منطقة الأشرفية، تولّت إدارة الدير تسليم هؤلاء الأطفال لمن يرعاهم (تبنياً أو بيعاً)، وغالباً ما يكون للأجانب.
وقد برزت قضية الأطفال المخطوفين عند عودة السيدة مارلين، التي جاءت إلى لبنان من فرنسا، بعد وفاة والديها الفرنسيين حيث أخبرها والدها قبل وفاته أنه تبناها في العام 1976، وأن أهلها قد ماتوا، وأنه تبناها من دير في منطقة الأشرفية (اسم الدير موجود لدينا، نتحفظ عن ذكر اسمه هنا).. ولم يكن لديها أي وثيقة تثبت الأمر، إلا صورة لها وهي طفلة، فجاءت إلى لبنان بحثاً عن أهلها.. وذهبت إلى الدير وادّعت إدارة الدّير أن كل الوثائق قد اختفت، وأنهم استلموا الطفلة من الصليب الأحمر الذي جلبها وهي مصابة من منطقة الدكوانة، هنا عرفت أنها من ضحايا مجزرة تل الزعتر. عند ذلك بحثت عن "رابطة أهالي مخيم تل الزعتر" والتقت بهم، وبدأ العمل للبحث عن أهلها، بدءاً من التعميم الإعلامي ووصولاً إلى فحوصات DNA. وكان أحد الفحوصات مشابهاً وليس مطابقاً، جعلها تتأكد من جذورها الفلسطينية.
بلغ عدد الأطفال المفقودين نحو 65 طفلاً، يُعتقد أنهم حولوا دياناتهم وفقاً للعائلات التي تبنتهم. وكما يقول وليد الأحمد "مفتاح اللغز كله في أرشيف الدير، ولو وُجدت إرادة سياسية في لبنان سنستطيع التوصل إلى هؤلاء الأطفال من خلال أرشيف هذا الدير".
فمن يعيد الحق لمن فقدوه في مجزرة؟! ومن يعيد هوية فُقدت في خطيئة تاريخية طائفية؟!
ثم ماذا؟!
ثم يسألونك لماذا تعتبر مجزرة تل الزعتر أكبر المجازر!! وأنت الذي كلما زرت المخيم، انتابتك طقوس يوم الخروج الكبير في 12 آب (أغسطس)، فينخفض صوتك تلقائياً، وتشعر بالعطش الشديد، والعرق الشديد، حتى لو كانت زيارتك في الشتاء.
وكلما دخلت محراب تل الزعتر، تكاد تخلع نعليك خوفاً من أن تدوس تراباً رواه دم مقاوم، أو قبراً مجهولاً لشهيد عزيز عليك لا تعرف أين ينام في موته الأخير!
ويسألونك ماذا بقي من تل الزعتر غير الذكريات والماضي.. وهم لا يعرفون أننا تركنا شهداءنا تحت ركام المخيم، ونعرف مكان كل شهيد هناك. وتركنا أطفالنا المخطوفين الذين باعهم تجار الحروب للأجانب كي يتخلصوا منهم ويحصلوا بعض المال. ونعيش على أمل استعادتهم يوماً ما.
المصدر: العربي21