جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
وُلِد الشيخ فائق الأنصاريّ سنة 1895م "خمس وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة" في منزلٍ بجبل صهيون قرب مقام نبيّ الله داوود –عليه السلام-، وقد ظلّ فيه حتّى نيّف على العشرين من عمره، ثمّ انتقل إلى إحدى دور الأوقاف بالقرب من باب حطّة بناحية باب الأسباط، ولعد جانْ قضى فيه مع أمّه وأبيه وسائر إخوته نحو تسعة أعوام، بنى لنفسه منزلاً في محلّة الشيخ جرّاح شمال باب العمود. ابتدأ الشيخ فائق حياته العلميّة بدراسة القرآن وتجويده في المسجد الأقصى، ثمّ التحق بالمدرسة الإسلاميّة الكائنة بظاهر سور المسجد الأقصى من جهة باب الساهرة والتي عُرِفت بعد سيطرة الانتداب البريطانيّ على القدس باسم "كليّة الروضة" والتي ظلّت تتبع دائرة الأوقاف الإسلاميّة حتّى ضمّت القدس وغيرها –ممّا تبقّى من مدن وقرى فلسطين في أيدي العرب- إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة تحت اسم "الضفّة الغربيّة". وقد تلقّى الشيخ فائق في تلك المدرسة مختلف العلوم الدينيّة واللغويّة بالإضافة إلى اللغة التركيّة التي كان يفرضها العثمانيّون على طلاب المدارس الإسلاميّة في مختلف البقاع الشاميّة. وكان –رحمه الله- يتردّد بين الحين والحين على مجالس الوعظ وحلقات الفقه ودروس الحديث في كلٍّ من الصخرة المشرّفة والمسجد الأقصى المبارك، وبعد أنْ نال إجازة المدرسة المذكورة التحق بإحدى الوظائف الإداريّة في محكمة الاستئناف الشرعيّة بالقدس، ثمّ نُقِل إلى إدارة الأوقاف، حيث أُسنِد إليه الإشراف على أوقاف التكارنة وتكيّة الأتراك.. وقد ظلّ يباشر مهام منصبه هذا حتّى اصدر المجلس الإسلاميّ الأعلى قراراً بترقيته شيخ سدنة المسجد الأقصى حتّى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف ميلاديّة. وقد أتاحت له هذه الوظيفة الجديدة فرص المشاركة السريّة والعلنيّة في الأعمال الوطنيّة بعيداً عن أعين الإنجليز، إذْ كان له من وظيفته ما يبعد عنه الشكوك والشبهات، إذْ لم يكنْ يخطر للإنجليز على بال أنّ شيخ سدنة المسجد الأقصى يجيد حمل البندقيّة ويحسن استعمال الأسلحة الأوتوماتيكيّة بل وإلقاء القنابل اليدويّة وتفجير أصابع الديناميت. ولا غرو، فقد كان –رحمه الله- قد ضرب بسهمٍ وافر وقام بجهدٍ كبير في محاربة الصهاينة ومقاومة البريطانيّين إبّان ثورة سنة 1936م. وقد استهلّ جهاده في سبيل تحرير بلاده من حكم البريطانيّين وتطهيرها من دنس الصهاينة الغاصبين بالانتماء إلى جمعيّة "اليد السوداء" التي كان يرأسها "شكيب قطب" والتي كانت تقوم بمختلف الأعمال الفدائيّة ضدّ الصهاينة وعساكر الإنجليز. وكان أوّل عمليّة فدائيّة أُجرِيَت تحت إشراف الشيخ فائق هي تدمير سيّارة عسكريّة إنجليزيّة كانت تقف خارج باب الأسباط لاعتراض جماهير المسلمين الذين كانوا في طريقهم من المسجد الأقصى إلى محلّة رأس العمود ليستقلّوا السيّارات لزيارة النبي موسى جرياً على العادة المتّبعة كلّ عام، إذْ ظلّ المسلمون منذ أيّام صلاح الدّين الأيّوبيّ يخرجون في شهر نيسان (أبريل) من كلّ عام إلى زيارة النبيّ موسى احتفالاً بمولده –عليه الصلاة والسلام-. تمّ أكثر –رحمه الله- من العمليّات الفدائيّة داخل القدس وخارجها، فقد حدث أنْ ألقى بنفسه قنبلة يدويّة من خلف سور المسجد الأقصى على جمهرةٍ من الصهاينة أمام حائط البراق. وفي الفاتح من شهر أيّار (مايو) سنة ستّ وثلاثين (1936م)، خرج الشيخ فائق ومعه أربعة من الفدائيّين الذين كانوا يسيرون خلفه دون أنْ يشعر أحدٌ بأنّهم في صحبته إلى جهة محطّة القدس العموميّة للسكك الحديديّة لتنفيذ عمليّة نسف القطار الذي كان قد تقرّر قيامه من المحطّة المذكورة في تمام الساعة الحاديّة عشرة بعد ظهر ذلك اليوم، لينقل مئات الجنود من الإنجليز والصهاينة إلى تل أبيب، للمحافظة عليها من هجمات المجاهدين الذين كانوا يحدقون بها وقتذاك تحت قيادة الشيخ حسن سلامة. وقد استطاع الشيخ فائق ورفقاؤه من أعضاء جمعيّة "اليد السوداء" أنْ ينسفوا ذلك القطار بعد خروجه من المحطّة بدقيقتيْن فقط، إذْ انفجرت أصابع الديناميت التي وضعوها تحت عجلاته عند مروره فوقها عند أوّل طريق بيت صفافة-القدس. وقد دُمّرت القاطرة وتحطّمت ثلاث عربات، وقُتِل وجُرِح عددٌ كبيرٌ من الإنجليز، أمّا الصهاينة فلم يُصَبْ منهم في تلك الحادثة سوى خمسين فرداً. وفي شهر آب (أغسطس) من هذا العام نفسه أوكلت قيادة اليد السوداء إلى الشيخ فائق أمر تفجير قنبلةٍ يدويّة في دبابة إنجليزيّة كانت تقف أمام باب الخليل قرب القشلاق، وكانت الحيلة تقضي أنْ يكون الفدائيّ معمّماً كيْ يتسنّى له الاقتراب من تلك لديار دون أنْ يعترضه أحد الجنود.ومّما يثير الدهشة أنّ الشيخ فائق قد ألقى القنبلة بيده في جوف الدبّابة وعيون الإنجليز ترنو إليه. ويقول شهود العيان إنّهم لم يرتابوا فيه، ولا ظنّوا أنّه هو الذي ألقاها. وقد تظاهر بالخوف والفزع وألقى بنفسه على الأرض متظاهراً بالإغماء. وفي سنة ثمانٍ وأربعين كان الشيخ فائق يقضي الليالي وحده في غرفته بالمسجد الأقصى والأبواب مغلقةٌ عليه، وقنابل اليهود تتساقط من حوله، وقد ذكر لي بنفسه أنّه أحصى ما ألقاه اليهود على الصخرة المشرّفة في ليلةٍ واحدةٍ بألفٍ ومائتيْ قنبلة. وقال إنّه ذهب في صبيحة ذلك اليوم على رأس وفدٍ من أهالي القدس إلى لكتيبة الأردنيّة التي كانت تعسكر في جبل المكبّر ليطالبهم بالجدّ في المحافظة على المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة، وقال لذلك القائد الذي كان يتلقّى أوامره من جلوب باشا الإنجليزيّ: "إذا كنتم لا تريدون المحافظة على المسجد الأقصى فإنّ الجماهير من أهالي القدس مستعدّون للدفاع عنه والمحافظة عليه بأرواحهم، ولا نريد منكم سوى أنْ تعطونا هذه البنادق التي في أيديكم". وفي أُخريات شهر نيسان (أبريل) سنة ثمانٍ وأربعين (1948م)، قام اليهود بهجومٍ على باب العمود فتصدّى لهم الشيخ فائق على رأس فريقٍ من الحرس الوطنيّ. وقد دامت المعركة نحو ساعتيْن، انجلَتْ بهزيمة الصهاينة وانتصار المسلمين.. غير أنّ الشيخ فائق قد أصيب في صدره بإحدى شظايا قنابل اليهود، ثمّ حُمِل إلى مستشفى المطلع بالطور حيث أُجرِيَت له عمليّة جراحيّة لاستخراج تلك الشظيّة، ولكنّه ظلّ متأثّراً بهذه الجراح حتّى صعدت روحه إلى الملأ الأعلى سنة تسعٍ وأربعين (1949م)، بعد حياةٍ حافلةٍ بأعمال البطولة والفداء.
المصدر: موقع (مدينة القدس)