تتعدد فصول حكاية أهل النقب مع الأرض، التي لا تزال منذ العام 1948 محط أنظار الاحتلال الإسرائيلي، الذي تتنوع أساليبه للاستيلاء عليها، في مقابل تشبث صاحب الأرض بها حتى الرمق الأخير.
لم تكن قضية الاستيلاء على أراضي النقب قد توقفت عند تهجير البدو خارج ديارهم، ومن ثم محاصرة المتبقين في منطقة السياج، والزج بجزء غير قليل منهم في بلدات لا تصلح للحياة.
كما لم تتوقف عند محاولات انتزاع الملكيات، بالخديعة تارة وبهدم البيوت تارة أخرى، وتجريف المحاصيل وزراعة الأشجار الحرجية غير المثمرة، وجلب المستوطنين وتوطينهم، واختراع مشاريع عسكرية، أو مدنية، لتفريغ الأرض من ساكنيها.
ملاحقة أصحاب المواشي في كل النقب
وأحدث الطرق للاستيلاء على الأرض هي مصادرة المواشي، وملاحقة أصحاب الإبل والأغنام في كل شبر من مراعي النقب. ولعل القارئ، إذا لم يعرف التفاصيل، يعتقد أن هذا الأمر مجرد ضرب من الخيال، أو حجة يحتج بها الناس للتظلم.
لكنه واقع أليم يُحارب عبره البدوي في مصدر رزقه ومعيشته، بهدف الضغط عليه ليتخلى عما تبقى من أرض لا يزال متمسكاً بها.
ومن ضمن الأحداث التي وقعت في النقب أخيراً، كانت مصادرة قطعان المواشي التابعة لعشيرة العزازمة في قرية بير هداج في جنوب النقب.
وقال الرئيس السابق للمجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب حسين الرفايعة، لـ"العربي الجديد"، إنه "عملياً دولة الاحتلال تحارب أمرين، أولهما أصحاب المواشي، لأنها ترى أن الناس متمسكون بالأرض من أجلها، وبالتالي تريد إنهاء هذا الأمر عبر مصادرة المواشي".
وأوضح أن الأمر الثاني "يعود إلى التكاثر الطبيعي، إذ إنها ترى أنها إذا جمعت الناس في بلدات، تشبه علب السردين، فستحد بالتالي من تكاثرهم بسبب الضائقة السكنية"، وأشار إلى أن "هاتين هما النقطتان الأساسيتان اللتان تعمل عليهما إسرائيل، التي تعتبر أنها إذا أنهت موضوع المواشي، وجعلت البدو يتخلون عنها، فبالتالي سيتخلون عن الأرض التي يتمسكون بها من أجل مواشيهم. لكن هيهات، هذا الأمر لن يتم".
فتح ملف ضريبي للحصول على المرعى
وقال سلمان بن حميد، عضو اللجنة المحلية لقرية بير هداج التي تعرضت المواشي فيها للاستهداف: "نحن نعلم سياسة وزارة الزراعة في ما يتعلق بمربي المواشي في النقب، الذين يتعرضون إلى المضايقة".
وأشار بن حميد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "قبل نحو 25 سنة كان هناك 700 ألف رأس من الماشية في النقب. ونتيجة المضايقات انخفض العدد اليوم إلى 150 ألفاً"، وأوضح أنه "حتى تحصل على مرعى عليك فتح ملف ضريبي. هناك أناس في النقب لم يفتحوا حتى اليوم مثل هذه الملفات، وعلى هذا الأساس تحرمهم إسرائيل من الحصول على مراع أو تصاريح للرعي".
وأضاف: "فقط 10 في المائة من مربي المواشي في النقب لديهم ملفات ضريبية، والباقون يعانون من سياسات المضايقة ومصادرة مواشيهم"، وأشار إلى أن "هناك مشكلة في التراخيص والتصاريح والمراعي، حيث لا توجد أصلاً مناطق رعي كافية لتوزيعها على جميع مربي المواشي".
وأشار بن حميد إلى أنهم "قد يسمحون لهم باستخدام الأحراج للرعي، وهذا نادراً ما يحدث، أو الرعي في المناطق العسكرية، كما جرى في منطقة الخبو التي حدثت فيها عملية المصادرة الأخيرة التي حصلت الشهر الماضي، إذ إن السلطات تحاول اليوم إغلاق هذه المنطقة في وجه الرعاة بحجة أنها عسكرية، وبالتالي حرمانهم من المراعي بشكل مطلق، ما يفجر صدامات".
كل مربي أغنام يهودي يملك مزرعة
وأوضح بن حميد أن "كل مربي أغنام يهودي في النقب لديه مزرعة فردية تضم آلاف الدونمات للرعي. مثلاً، في المنطقة الممتدة على طول الشارع 40 من بئر السبع حتى بلدة ميتسبيه رامون، هناك نحو 30 مزرعة فردية لليهود، جزء منها لمربي المواشي".
وقال إن "اليهودي لديه إمكانية لتربية المواشي ورعيها، وصاحب الأرض الأصلي محروم من هذا الأمر. المدير السابق لسلطة حماية الطبيعة شاؤول غولدشنتاين، الذي أنهى مهامه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لديه مزرعة خاصة غرب بئر السبع، مساحتها نحو 15 ألف دونم للرعي والزراعة، ناهيك عن مزارع رئيس حكومة الاحتلال الأسبق أرئيل شارون وأولاده وغيرهم".
ولكن ما الذي يمنع الغالبية العظمى من مربي المواشي في النقب من الحصول على تصاريح ضريبية، وبالتالي الحصول على مراع آمنة لا تتعرض فيها مواشيهم للمصادرة أو الملاحقة؟
أوضح بن حميد، رداً على هذا السؤال، أن "وضع الماشية في النقب اليوم مأساوي جداً، والبدو متمسكون بها لأنها جزء من عاداتهم وتقاليدهم وأسلوب حياة متوارث أباً عن جد بالنسبة لهم".
وأشار إلى أنه "لا يوجد أي ربح يمكنهم من فتح ملفات ضريبية رسمية. كما أن وزارة الزراعة (الإسرائيلية) لم تبادر بأي طريقة لتقديم شرح للناس حول أهمية الملفات، والعمل بشكل رسمي ومنحهم مهلة لتنظيم أمورهم".
وأوضح أنه "على العكس، كان الأمر عبارة عن مجرد إصدار قرار، والمطالبة بالتنفيذ، ومن ثم بدأ التضييق على من لم يتمكن من ترتيب أوراقه. ومن ناحية أخرى، فإن الحكومة لا تستفيد مادياً ممن يملك ملفات ضريبية، لأنهم لا يحصلون على أي أرباح من هذا القطاع ".
عدم الاعتراف بالإبل كجزء من العمل الرعوي
وللإبل حكاية أخرى، إذ إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تعترف يوماً بها كجزء من العمل الزراعي الرعوي في الجنوب. وعلى الرغم من أن منظمة "ريغافيم" الاستيطانية هي التي تتولى هذا الملف منذ البداية، فإنها تحاول الضغط باتجاه إنهاء وجود الإبل في النقب بشكل عام، متخذة من وقوع حوادث سير بسببها ذريعة للتضييق على مربي الإبل.
وأوضح محمد أبو فريحة، وهو أحد مربي المواشي في النقب، أن "عملية ملاحقة مربي المواشي ومصادرتها بدأت بعد نقل المواطنين البدو إلى منطقة السياج، بهدف الضغط عليهم للتخلي عن هذا الأمر والتخلي عن الأرض".
وأشار إلى أنه "قبل 15 سنة، كان هناك نحو 500 ألف رأس من الأغنام، و8 آلاف رأس من الإبل، و4 آلاف بقرة. اليوم، فإن الأغنام المسجلة في وزارة الزراعة تبلغ 250 ألفاً، فيما الإبل 5 آلاف، والأبقار 2000 رأس".
واعتبر أن "المطاردة من قبل ما تسمى الدوريات الخضراء ووزارة الزراعة الإسرائيلية والسياسات المتتالية لهضم حقوق البدو، ووقف مصدر معيشتهم، بدأت تؤتي ثمارها في السنوات الأخيرة".
وأشار إلى أن "كافة المطاردات تطاول الأشخاص غير الحاصلين على ملفات ضريبية. كما أن من يملك ملفات ضريبية يخسر، لأسباب منها استيراد الماشية الحية من خارج البلاد بأعداد هائلة (نحو 400 ألف رأس من الأغنام)".
وأوضح أبو فريحة أن هذا الأمر "ضرب المزارعين البدو في النقب في الصميم، وجعلهم يشعرون بأن هذا الفرع غير مربح، فتقلص عدد مواشيهم بشكل كبير، بسبب تخلي البعض عن هذا القطاع الزراعي، وهذا يفسر التراجع في عدد المواشي".
وأشار إلى أنه "رغم الحديث عن مداولات لتقديم مشروع يمنع استيراد الماشية، إلا أنه سيأخذ وقتاً طويلاً حتى يتم البت فيه، ويعطي ثماره على أرض الواقع".
وقال: "أما في ما يتعلق بعدم اعتراف الحكومة بالإبل كفرع زراعي مربح فيعود إلى أن غالبية المدراء العامين في الجنوب يدعون أن الإبل في النقب هي للبلطجة وليس للربح".
وأضاف: "لقد طرحنا هذا الموضوع على الجهات المختصة حتى تساعدنا بالحصول على التراخيص اللازمة لتربية الإبل"، لكنه أشار إلى أن "جنوب النقب شحيح المراعي بالنسبة للأغنام بشكل خاص، وهذا يؤدي بالمزارعين أيضاً لعدم الحصول على ملفات ضريبية، لأن المراعي التي ستوفرها لهم السلطات ستكون في الشمال، وهي مناطق ذات مناخ بارد مختلف عن الوضع في الجنوب، ما يؤدي لنفوق الماشية. ولذلك يرفض أصحابها نقلها إلى مناطق خارج النقب".
وأوضح مسؤول ملف الصحة في المجلس الإقليمي (القيصوم) الطبيب البيطري مازن أبو صيام أن مصادرة المواشي تأتي بسبب "التراخيص من سلطة المراعي والتصريح للرعي وملفات تطعيم الماشية، بالإضافة إلى أن الشخص الذي سجل في العام 2001 ملفاً ضريبياً حصل على مراع، ومن لم يقم بهذا الأمر لن يحصل على أي مراع في أي مكان آخر".
تجريف محاصيل رعي الأغنام في النقب
وأشار إلى أن "المراعي شحيحة في الجنوب بطبيعة الحال، وبالتالي يقوم السكان بزراعة أراضيهم القريبة من أماكن سكنهم بهدف رعي الأغنام فيها"، إلا أنه أوضح أنه "غالباً ما يتم تجريف هذه المحاصيل، ومن ليس لديه موقع للرعي المحلي في الجنوب عليه الانتقال إلى مركز البلاد، أو النقب الغربي، إلا أن هذا الأمر يحتاج إلى تصريح للنقل أولاً ثم الرعي".
وقال أبو صيام "إذا ربيت أغناماً بعد العام 2001، أو كان لديك عدد قليل منها قرب المنزل، وقررت مثلاً بعد العام 2005 نقلها للمراعي، فإنك لن تتمكن من ذلك، حتى لو كانت مطعمة وجاهزة صحياً".
وأضاف: "تختلف المراعي في النقب الغربي تماماً عنها في الجنوب قرب بير هداج، والممتدة حتى الحدود مع مصر، وهي ما تسمى بالخلصة، وهي منطقة شاسعة جداً. كان الرعاة يأخذون المواشي إلى هناك، إذ إنه وعلى الرغم من شح الأمطار فيها إلا أن الأعشاب هناك منتجة للأغنام".
وأوضح أبو صيام أن "سكان بير هداج كانوا وما زالوا يخرجون لهذه المراعي، مع أن جزءاً منها تحول إلى أراضٍ عسكرية، إذ كانت هناك تفاهمات مع السلطات حول هذا الموضوع. وحتى الجيش كان يبلغ السكان بوجود تدريبات عسكرية في أيام معينة، بهدف عدم إخراج الأغنام للمراعي".
تحريم تربية الماعز في النقب
واعتبر أن "ما حدث في الأيام الأخيرة جاء كردة فعل على أحداث هبة سعوة، حيث تقوم السلطات الآن بالتضييق أكثر على البدو، بمن فيهم أصحاب المواشي. ناهيك عن سن قانون في العام 1970، يسمى قانون العنز السوداء، وهو يحرم تربية الماعز في النقب، لأنها كانت تأكل الأشجار الحرجية التي كان يزرعها الصندوق القومي اليهودي".
وأوضح أن "هذا القانون أثر على تربية البدو للماعز، فأصبح 95 في المائة من المواشي من الأغنام والباقي من الماعز. وكان عضو الكنيست جمال زحالقة قد طالب، قبل سنوات، بإلغاء القانون بعد حريق الكرمل بهدف إدخال الماعز إلى الأحراج لأكل الأعشاب الجافة المسببة للحرائق الكارثية".
والمراعي التي تتيحها إسرائيل في مركز البلاد وشمالها اليوم للبدو في النقب تمنح لهم لمدة 4 سنوات فقط، ومن بعدها عليهم إعادتها إلى الجنوب. إلا أنه من الصعب حالياً مكوث الجيل الجديد من رعاة الأغنام هذه المدة بشكل متواصل بعيداً عن منازلهم.
وحتى الأجيال الأكبر لا تستطيع الثبات في المرعى لسنوات، لحماية الأغنام من النفوق بسبب تقلبات الطقس وتغير المراعي. يضاف إلى ذلك أن الرعاة لا يملكون الإمكانيات الكافية لتطوير وضعهم الزراعي عبر استخدام الآلات، إذ إن أرباحهم تكاد تكون معدومة في هذا الجانب، بينما كلفة الآلات لإطعام الماشية وحلبها تفوقها بأضعاف مضاعفة.
أما الإبل، التي تمنع سلطات الاحتلال أصحابها من رعيها حتى بجوار المنزل، فقد تم سن قانون أيضاً يجبر مالكيها على وضع علامة على آذانها، ليس من باب الحماية أو التعداد، وإنما لمعرفة صاحب أي رأس قد يتسبب يوماً بحادث سير، بهدف تغريمه بعشرات آلاف الشواقل.
يمكن القول إن كل الطرق المتبعة ضد الماشية لا تهدف فقط لمحاربة رزق الرعاة فحسب، وإنما هي سياسة ممنهجة، هدفها الأول والأخير الاستيلاء على الأرض، بعد إفراغها من أصحابها بكل الطرق المتاحة.
المصدر: العربي الجديد