كان بارعا في الجدل، مفحم الحجة، متصلبا فيما يؤمن به أنه الحق، جمع بين الدين والسياسة وطمح إلى إعادة الخلافة الإسلامية، وأخذ على معظم علماء المسلمين ابتعادهم عن دائرة النشاط السياسي الإسلامي، واعتبر قيام الدولة الإسلامية طريقا للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
ولد تقي الدين النبهاني عام 1914 في قرية إجزم من قضاء صفد التابع لحيفا بفلسطين، لأب كان شيخا فقيها يعمل مدرسا للعلوم الشرعية في وزارة المعارف الفلسطينية، وكانت والدته على إلمام كبير بالأمور الشرعية التي اكتسبتها عن والدها الشيخ يوسف، وهو أديب وشاعر صوفي من القضاة البارزين.
حفظ تقي الدين القرآن الكريم صغيرا والتحق بالثانوية الأزهرية عام 1928، واجتازها في العام نفسه بتفوق فنال شهادة الغرباء، والتحق على إثرها بكلية دار العلوم التي كانت آنذاك تتبع الأزهر، وإلى جانب ذلك كان يحضر حلقات علمية في الأزهر الشريف على شيوخ أرشده إليهم جده حيث كان نظام الدراسة القديم في الأزهر يسمح بذلك.
ثم حصل على دبلوم في اللغة العربية وآدابها من كلية دار العلوم في القاهرة، وإجازة في القضاء من المعهد العالي للقضاء الشرعي التابع للأزهر، والشهادة العالمية في الشريعة من الأزهر عام 1932، وهي أعلى شهادة تمنحها جامعة الأزهر لطلابها.
بدأ حياته المهنية، بعد عودته إلى فلسطين، مدرسا للعلوم الشرعية في مدارس حيفا والخليل الثانوية حتى عام 1938، وانتقل بعدها لمزاولة القضاء الشرعي، فتدرج في ذلك حيث ابتدأ بوظيفة باش كاتب في محكمة حيفا المركزية ثم مشاور (مساعد قاض) ثم قاضي محكمة الرملة حتى عام 1948، حيث وقعت نكبة فلسطين فخرج إلى الشام.
لكنه لم يمكث طويلا في الشام، فعاد ليعين قاضيا لمحكمة القدس الشرعية وعلى إثر وحدة الضفة الغربية مع المملكة الأردنية الهاشمية، رقي فيما بعد إلى أن أصبح قاضيا في محكمة الاستئناف الشرعية حتى عام 1950، حيث استقال وانتقل لإلقاء محاضرات على طلبة المرحلة الثانوية بالكلية العلمية الإسلامية في عمان حتى عام 1952.
وكان النبهاني قد انخرط في الحياة العامة عام 1941، عندما تولى منصب نائب رئيس "جمعية الاعتصام" التي شكلت في حيفا، وكان هدفها الاهتمام بالنواحي الثقافية والاجتماعية والكشافة، ومكافحة الظواهر الاجتماعية السلبية. وفي أواسط الأربعينيات، احتك بزعماء "جماعة الإخوان المسلمين" وتعرف إلى أفكارهم، لكنه رفض الانضمام إلى "الجماعة"، وإن كان قد برز أحيانا تأثره بكتابات سيد قطب.
انضم النبهاني عام 1947 إلى "كتلة القوميين العرب" في حيفا التي ظلت تجمعا محليا لم يكتب له البقاء. وفي هذه الأثناء، ونتيجة لنكبة فلسطين فإنه سعى إلى التوفيق بين النزعة الإسلامية والنزعة القومية، وهو ما ظهر في مؤلفاته الأولى ومنها كتاب "إنقاذ فلسطين".
في عام 1951، استقال النبهاني من عمله في سلك القضاء، ورشح نفسه لانتخابات مجلس النواب الأردني، لكن الحظ لم يحالفه في دخول البرلمان.
أسس عام 1952 "حزب التحرير"، وتفرغ لقيادته. ودعا هذا الحزب، الذي ركز على دور "الأفكار" في تغيير المجتمعات، إلى استئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية "تنفذ نظم الإسلام وتحمل دعوته إلى العالم"، وذلك عبر التغيير الجذري الشامل الذي لا يرى أي إمكانية للإصلاح من داخل المنظومة السائدة في العالم الإسلامي، ووضع النبهاني مشروع دستور للدولة الإسلامية المنشودة، ضمنه كتابه "نظام الإسلام".
لجأ "حزب التحرير" بقيادة النبهاني، إلى العمل السري، بعد أن رفضت وزارة الداخلية في الأردن عام 1953 التصريح له بالنشاط العلني، وقامت بإغلاق مقره في القدس، ونجح في إقامة خلايا سرية له في القدس والخليل ونابلس وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين حول أريحا، كما أنه انتشر بين الطلاب في جنين وطولكرم بوجه خاص.
انتقل عام 1954، من عمان إلى دمشق، لكن "حزب التحرير" لم يحصل على ترخيص رسمي بمزاولة النشاط السياسي في سوريا، فلجأ إلى العمل السري. واضطر إلى الانتقال إلى بيروت، ونجح الحزب عام 1959 في الحصول على ترخيص بمزاولة النشاط السياسي في لبنان، وهو أمر مكنه من الانتشار في مدينة طرابلس خصوصا، وبشكل أقل في بيروت وصيدا، والمخيمات الفلسطينية فيهما.
امتد نشاط "حزب التحرير" من لبنان إلى العراق ومصر، ثم نجح في الثمانينيات من القرن الماضي في إقامة فروع له في شمال أفريقيا، في تونس وليبيا، وبرز نشاط فرعه في تركيا منذ السبعينيات، وشكل فروعا له في بريطانيا وفي عدد من الدول الأوروبية الأخرى، وصار يستند إلى قاعدة قوية في بعض بلدان آسيا الوسطى المستقلة التي كانت تتبع للاتحاد السوفييتي السابق.
أثرى النبهاني المكتبة العربية بمؤلفات غنية، ومن آثاره:
"إنقاذ فلسطين"، "الدولة الإسلامية"، "الحكم في الإسلام"، "النظام الاجتماعي في الإسلام"، "النظام الاقتصادي في الإسلام"، "الشخصية الإسلامية"، "التكتل الحزبي"، "التفكير"، "سرعة البديهة"، "نظام الإسلام"، "مفاهيم حزب التحرير"، "حل قضية فلسطين على الطريقة الأمريكية والإنجليزية"، "نظرية الفراغ السياسي حول مشروع آيزنهاور"..
ظل الشيخ تقي الدين النبهاني يواصل دعوته التي تعرضت للكثير من المصاعب حتى توفي في مدينة بيروت في الأول من كانون الثاني/ يناير عام 1977 ودفن فيها.
المصدر: العربي21