الحاج ساق الله: مدينة يافا لازالت تعيش بداخلي وطعم برتقالها مازال في فمي
غزة (فلسطين) /عبد الغني الشامي/ ـ خدمة قدس برس
أيار/مايو 2011
على الرغم من مرور 63 عامًا على ترك المسن “أبو هشام” ساق الله، مدينة يافا الساحلية شمال فلسطين بعد احتلالها من قبل العصابات الصهيونية، إلا أن هذه المدينة الجميلة لا تفارق خياله وتطارده في منامه بشكل مستمر.
هذه الرؤى لهذا اللاجئ الذي يقترب من الثمانين عامًا من عمره لتؤكد على ما يدور في عقله الباطن من حب وتمسك لمسقط رأسه، مدينة يافا والتي عاش بها طفولته التي لم ينساها حتى يومه هذا، حتى تم ترحيله وعائلته وبقية اللاجئين من أرضهم في مثل هذه الأيام من عام 1948م.
ويستذكر ساق الله مسار حياته كلاجئ طُرد من بيته، وهو يتحدث لوكالة “قدس برس”، وكأن الحدث وقع بالأمس دون أن ينسيه الواقع المرير، أو كبر سنه شيء من هذه الأحداث الممتدة على مدار أكثر من ستة عقود.
ويسرد ساق الله، وهو الوحيد المتبقي على قيد الحياة من أفراد عائلته الثمانية الذين هُجّروا من ديارهم كآخر شاهد عيان على هذه النكبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني وشتت في المنافي والشتات؛ حكايته وحكاية عائلته المشردة منذ أن كان طفلاً في مدينة يافا، وكيف تركها وهو في السابعة عشر من عمره، ليؤكد أن مُقولة “الكبار يمتون والصغار ينسون”، قد سقطت إلى الأبد.
اللهجة اليافاوية
وبلهجته اليافوية التي لازالت تلازمه؛ يستذكر ساق الله منطقة “إرشيد” على شاطئ بحر يافا التي ولد فيها وعاش أجمل أيام طفولته فيها، وكيف درس في مدارسها هناك التي كانت تعرف باسم “مدارس الأوقاف”.
بينما يقوم الحاج ساق الله بلصق الحذاء الطبي بالغراء الأبيض والأصفر، وهي المهنة التي تعلمها من والده الذي كان له محل في مدينة يافا، يؤكد أن هذه المهنة كانت منتشرة في مسقط رأسه، وأن العمال كانوا يأتون إلى هذه المدينة من كافة الأراضي الفلسطينية والعربية للعمل فيها وفي غيرها.
وقد واصل عمله في هذه المهنة، وله محلا الآن في مدينة غزة التي لجئوا لها، مشيراً إلى أن محل والده الذي كان له في مدينة يافا قد استولى عليه أحد اليهود الذين احتلوا المدينة، مؤكداً انه حينما قام بزيارة إلى تلك المدينة المحتلة وجد ذلك اليهودي في محل والده.
مدينة يافا
وتقع مدينة يافا على البحر الأبيض المتوسط، إلى الجنوب من مصب نهر العوجا على بُعد سبعة كيلومترات؛ وإلى الشمال الغربي من مدينة القدس على بُعد 60 كيلومترًا.
وكلمة يافا هي تحريف لكلمة (يافي) الكنعانية، وتعني جميلة، أطلق اليونانيون عليها اسم (جوبي). وذكرها الفرنجة باسم (جافا). وضمت المدينة سبعة أحياء رئيسية هي: البلدة القديمة، حي المنشية، حي العجمي، حي ارشيد، حي النزهة، حي الجبلية وحي هريش.
وكان فيها أيضاً ستة أسواق رئيسية متنوعة وعامرة. وكان بها أربعة مستشفيات. وحوالي 12 جامعاً عدا الجوامع المقامة في السكنات. وبها عشرة كنائس وثلاث أديرة. وقد بلغ عدد سكان يافا في 1948 حوالي (3651) نسمة.
ويستذكر ساق الله مدينة يافا، التي يعرفها كما قال شبراً شبراً وشارعًا شارعًا، مشيراً إلى أنه كانت له دراجة هوائية كان يتنقل فيها في كافة أرجاء المدينة، وكيف كان يذهب إلى محل والده ليساعده في عمله ويتعلم منه صنعته في عمل الأحذية الطبية، وكيف كان يشاهد الأفلام في سينما يافا التي كانت تعرض الأفلام قبل أي سينما أخرى، حسب تعبيره.
انقلاب اليهود
وأكد أنهم وقبل احتلال اليهود لمدينة يافا كانت المدينة الساحلية تعيش بأمن وأمان بين الفلسطينيين واليهود، ولم يكونوا يتوقعون أنه ممكن لليهود أن ينقلبوا عليهم نظرا لعددهم القليل، إلا أن تسليحهم من قبل بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين وإمدادهم بالمدافع وفتح مواقع التدريب لهم، وجلب المهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم بالقوة؛ جعلهم يتمكنوا من احتلال فلسطين.
ويعود ساق الله بالذاكرة إلى التفجيرات التي كان يفتعلها اليهود والمجازر لترويع الفلسطينيين، لإجبارهم على الرحيل والتي كانت أبشعها مجزرة دير ياسين التي كانت قبل الهجرة بأكثر من شهر.
ويقول: “كنا نعيش بشكل طبيعي في مدينة يافا، وكان اليهود يعيشون معنا كمواطنين يهود في دولة فلسطين التي كانت تقع تحت الانتداب البريطاني، قبل أن ينقلبوا علينا بعد الإعلان عن دولتهم حيث بدؤوا ينفذوا تفجيرات في الأسواق والطرقات، ويطلقون القذائف على الأحياء الشعبية لإرهاب سكانها وتهجريهم، وقد نجحوا في ذلك، وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة فلسطين واحتلوا بيوتنا”.
قرار الرحيل
وأضاف ساق الله: “أنه وبعد اشتداد القصف على بيوتنا وبدء الحرب؛ قررنا أن نهاجر من بيوتنا خوفاً على أرواحنا، حيث قام والدي باستئجار قارب وأبحرنا به في بحر يافا وكنت أنا برفقة والدي ووالدتي وعمي وإخوتي الأربعة باتجاه مدينة غزة، التي وصلناها بعد عدة ساعات في رحلة كنت أتوقع أنها لن تكون الأخير”.
وتابع: “حينما خرجنا من بيوتنا خرجنا بملابسنا فقط دون أن نأخذ شيء معنا وتركنا كل شيء فيها، لأننا كنا نعتقد أن خروجنا هذا مؤقت، وسنعود يوما قريبًا لهذا البيت، إلا أن هذه الرحلة طالت لمدة 63 عاما”، حسب قوله.
وأوضح أنهم وصلوا إلى قطاع غزة واستقبلوا من قبل أهليهم بترحاب وعاشوا معهم، على أمل العودة إلى بيوتهم، حيث ظلوا لمدة عام متأهبين لذلك بانتظار الجيوش العربية لطرد اليهود من أراضيهم التي احتلت، إلا أنهم وبعد عام أدركوا أن الأمر بات صعبًا.
قرارات في الهواء
وأكد ساق الله أن كافة قرارات الأمم المتحدة بخصوص حق العودة تبقى قرارات في الهواء، وستبقى حبراً على ورق، طالما واصلت الولايات المتحدة الأمريكية دعم الدولة العبرية، كما كانت بريطانيا في الماضي.
وأضاف: “كأسرة صغيرة خرجنا من بيتنا في يافا وعددنا ثمانية أشخاص جميعهم توفوا، إلا أن ذريتهم الآن وبعد 63 عاما يبلغ تعدادهم بالمئات وجميعهم يجب العودة إلى مدينهم الأصلية وهو حق لا يسقط بالتقادم، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد أو بعد مائة عام”.
وتابع: “نحن نعزز حب المدن التي رحلنا عنها لدى أطفالنا وأبنائنا، ونؤكد لهم على ضرورة أن نعود إلى هذه الديار، حيث أن نجلي البكر هشام قد أسمى ابنته الوحيدة له “يافا”، وذلك ليظل هذا الاسم يتردد في البيت ولا ننساها”.
وأشار إلى انه وبعد سنوات من احتلال الأراضي الفلسطينية قام بزيارة إلى مدينة يافا وذهب إلى البيت الذي ولد فيه وعاش به طفولته ليجده هو ومجموعة من منازل الحي قد تم تجريفها من قبل إحدى الشركات الأمريكية التي ستقيم مشروع على أنقاضها.
محاولات الطمس
وقال ساق الله: “على الرغم من عملية التجريف لبيته والبيوت المجاورة له ومحاولة الاحتلال تغير معالم تلك المنطقة، إلا أنني كنت أعرف مكان بيتي بالتحديد ولن أتوه عنه”.
وأضاف: “انه على الرغم من أن قطاع غزة شهير بزراعة الحمضيات والبرتقال، إلا أنني منذ وصولي إلى قطاع غزة لم أتذوق حبة برتقال مثل التي كنت آكلها في يافا، من حيث الطعم أو الحلاوة، فبرتقال يافا مشهور على المستوى العالمي، وكان له نكهة خاصة لازلت رغم مرور 63 عاما من الهجرة في فمي، وأتمنى أن يمد الله في عمري، وآكل من هذا البرتقال وقد تحررت هذه المدينة”.