عبد الكريم الحشاش/ دمشق
كان في النقب عام النكبة نحو مئة وعشرين ألف فلسطيني، يملكون 12 مليوناً و750 ألف دونم. طردت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 85% منهم، ولم يبقَ بعد التهجير سوى 13 ألف نسمة فقط،، احتفظوا بعد المصادرات المتلاحقة منذ عام 1948 بنحو 850 ألف دونم، وهي مهددة بدورها أيضاً بالمصادرة.
هدم القرية
اقتحم نحو 1500 شرطي إسرائيلي من الوحدات الخاصة عند فجر يوم الثلاثاء 27/7 قرية العراقيب شماليّ مدينة بئر السبع، وأخلوا سكانها البالغ عددهم 300 مواطن، ونقلوهم عنوة إلى تجمّع رهط، وبدأت خمس جرافات ضخمة بتدمير منازل القرية وحقولها، فهدموا البيوت والخيام واقتلعوا الأشجار، وحملوا مولدات الكهرباء وسيارات المواطنين العرب وجراراتهم، وأصبحت القرية أثراً بعد عين، واختفت كلّ معالم الحياة فيها، بحجّة أن منازل هذه القرية لم تحصل على تراخيص، علماً بأنّ هؤلاء السكان كانوا في مساكنهم هذه قبل قيام «إسرائيل» نفسها واغتصابها الأرض الفلسطينية عام 1948، ومنذ عام النكبة سكّان النقب يتعرّضون للتهجير من مكان إلى آخر، وتشنّ عليهم الهجمات باستمرار من سلطات الاحتلال، شأنها شأن القرى العربية الأخرى في الجليل ومدن يافا وحيفا وعكا واللد، فعمدت سلطات الاحتلال إلى هدم البيوت، ورشّ المراعي والمزروعات العربية بمواد سامة من الجوّ بالطائرات، ولا يسمحون بترميم البيوت وإصلاح ما تهدّم منها في المدن، رغم أنّ هذه القرى تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة وهي محرومة البنى التحتية، كالطرق والكهرباء والماء والمدارس والمراكز الصحيّة.
التداعيات
هدم قرية العراقيب بأسرها يعدّ سابقة خطيرة، حيث تُهدد 45 قرية عربيّة مشابهة موزّعة في أنحاء النقب، يسكنها نحو 100 ألف عربي. إنها المرة الأولى التي تقوم فيها قوات الاحتلال بالإخلاء والهدم ومحو القرية بكاملها وإخفاء معالمها، إذ جرت العادة أن يهدموا عدة بيوت لمرة واحدة، ثمّ يتركون الوضع على ما هو عليه لعدّة أشهر أو سنين، لكنهم هذه المرة جرفوا الطرق، ولم يتركوا أي شيء يدلّ على أثر للحياة فيها. وقد أصر أهل العراقيب على المكوث على أرضهم، فأعادوا بناء أخصاصه وعرائشهم، وهناك مؤازرة وتضامن من العرب الفلسطينيين لسكان العراقيب وتعزيز صمودهم، وتحدي سلطات الاحتلال بإعادة بناء ما هدمته وجرفته.
وقد درج العدوّ على تسمية هذه التجمعات السكنيّة بأنها غير مرخّصة، وقد انطلت هذه الفرية على وسائل الإعلام، حتّى العربيّة منها، وهذا بالطبع مقدمة لإزالة هذه القرى، وتشريد أهلها، إذ من السهل التعامل مع قرى مخالفة وغير مرخّصة وليس لها شرعيّة بقسوة، والوضع الطبيعي أن تُزال هذه المخالفات، بأحكام قضائيّة أو بيئيّة أو محافظة على البيئة، وقد درج العدو على تسمية هذه التجمعات بتجمّعات بدويّة، وكأنّ البدو ليسوا عرباً، واليوم لم تبقَ بداوة، فهؤلاء يدرس أبناؤهم وبناتهم في الجامعات، ومعظمهم فعلاً ليسوا من أصول بدويّة، لكن سلطات الاحتلال تمنعهم من تشييد المنازل، ولا تسمح لهم بجرّ المياه أو حفر الآبار، فيسكنون في برّاكيّات من التوتياء والصِّير والخيام وبيوت الشعر، فتبدو مساكنهم بسيطة كأنّها مؤقتة نتيجة لإجراءات سلطات الاحتلال التعسفيّة الظالمة، وكثير من هؤلاء المواطنين يصرّون على التمسّك بأرضهم والبقاء عليها رغم شظف العيش ورغم عدم توافر وسائل الراحة والتعليم، شعارهم: التجهيل ولا الترحيل.
ردود الأفعال
أكدّ رئيس لجنة المتابعة العربية محمد زيدان أنّ العرب داخل الأرض المحتلّة عام 1948 يؤازرون إخوانهم سكان العراقيب، وشرعوا في بناء الخيام لإيواء المواطنين الذين أصرّوا على الصمود في مكان سكناهم يؤازرهم المتضامنون الذين قصدوا المكان واعتصموا فيه.
ويقول شيخ العراقيب صياح الطوري: إنّنا نسكن على أرضنا، رغم أن سلطات الاحتلال تمنعنا من ذلك، و«دائرة أراضي إسرائيل» قدّمت بحقنا شكوى بادعاء أننا نسبب ضرراً لأراضي الدولة وأملاكها، علماً بأنّنا نملك إثباتات بأن هذه الأرض هي أرضنا، معنا صور جوية لها منذ عام 1936 وعام 1945 تثبت أننا كنا نسكن على الأرض ونفلحها، وأنها ليست أرضاً مواتاً كما تدعي سلطات الاحتلال. معنا أوراق دفع ضرائب من عام 1922، معنا كوشان ملكية «طابو» بريطاني، ولنا فيها مقابر منذ الأزل، سلطات الاحتلال تطاردنا بعدة مؤسسات، مرة تأتينا «دائرة أراضي إسرائيل» ومرة «الكيرن كييمت» ومرة «الدورية الخضراء» ومرة «سلطة المحميات الطبيعية»، اليوم نحن هنا في العراقيب نحو 30 عائلة، ولن نترك أرضنا، أرضنا هي هويتنا، أنت تعتقد أن هذه البطاقة هي الهوية، هذه مجرد ورقة ورخصة للتنقل، اليوم حتى الكلاب لها رخصة وأوراق.
وعن بناء مستوطنة يهودية على أراضي العراقيب قال نوري العقبي: في نهاية عام 2002 تبيّن لنا من خلال إعلان في إحدى الصحف، أن السلطات الإسرائيلية أعدت خطة جديدة لبناء مستوطنة يهودية في العراقيب، وشرعت فعلاً خلال فترة وجيزة ببناء مستوطنة «جبعوت بار»، وهيّأت البنية التحتية لها من ماء وكهرباء وهواتف خلال أيام قليلة. أما أبناء عشيرة العقبي الذين يبلغ عددهم اليوم أكثر من 1000 نسمة، فيعيشون في ظروف صعبة في منطقة الحورة، بتجمع سكاني غير معترف به رغم أن سلطات الاحتلال هي التي أسكنتهم هنا عام 1951، ومعظم بيوت العشيرة مهددة بالهدم من قبل السلطات التي تضغط عليهم لترحلهم مرة أخرى وتسكنهم في إحدى البلدات التي أقامتها لتفريغ النقب من سكّانه العرب وحصرهم في تجمّعات محدّدة.
صمود وإصرار
لكنّ الفلسطينيين كطائر الفينيق ينبعثون من الرماد من جديد. لقد قابل المواطنون تعنت السلطات الصهيونيّة بالإصرار على المواجهة والتصدي لهذه السياسات العنصريّة، موحدين حول حقهم الشرعي في الوجود على أرضهم وفي وطنهم.
قامت قوات كبيرة من الشرطة والوحدات الخاصة فجر يوم الثلاثاء 10/8/2010 بهدم قرية العراقيب التي لا تعترف بها سلطات الاحتلال الإسرائيلية في النقب للمرة الثالثة خلال أسبوعين، حيث اعتقلت عدداً من أهالي القرية خلال المواجهات التي حصلت أثناء عملية الهدم.
وأكد الطالب في جامعة بئر السبع خالد عنبتاوي أحد الناشطين في الذين اعتصموا في القرية هدم الشرطة ما يزيد على 30 خيمة في العراقيب بعد أن طوقتها بالحواجز لمنع وصول المتضامنين إليها.
وتأتي عملية الهدم هذه بعد إعادة بناء القرية مجدداً، ووفَد إلى القرية العديد من المتضامنين من أجل منع الهدم، إلا أن الوحدات الخاصة قامت بضرب واعتقال كل من وقف في وجه الهدم.
ويضيف عنبتاوي، سكرتير التجمع الطلابي في جامعة بئر السبع، أن أهالي القرية يبيتون في العراء بعد هدم جميع بيوتهم، مع الإشارة إلى أن عملية الهدم الأخيرة تأتي قبل يوم واحد قبل شهر رمضان المبارك.
وأشار إلى أن «هناك عدة جهات تبادر إلى إعادة البناء مرة أخرى، وتدعو أبناء شعبنا إلى تقديم المساعدة من خلال التطوع أو التبرع».
مظاهرة احتجاجية
نُظمت مظاهرة احتجاجية رفضاً للاقتلاع والهدم في النقب، وذلك بالتنسيق مع «المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها» في النقب واللجنة المحلية في العراقيب ولجنة المتابعة العليا وممثلين عن مختلف الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة على ساحة عرب الداخل.
وقد شارك المئات من المواطنين العرب والمتضامنين في المظاهرة القطرية على مفترق مدينة رهط في النقب، وذلك احتجاجاً على سياسة الاقتلاع والهدم المتكرر للمنازل العربية التي تمارسها السلطات الإسرائيلية بصورة منهجية بحق المواطنين العرب عامة، والنقب على نحو خاص.
ورفع المتظاهرون الشعارات المنددة بالممارسات العنصرية التي تنتهجها المؤسسة الإسرائيلية بحق المواطنين العرب في النقب والرامية إلى الاقتلاع والترحيل.
كذلك تحدث أمام المتظاهرين عدد من القيادات السياسية والشعبية حيث أجمع المتحدثون على الصمود ومواصلة النضال الوحدوي لوقف مخططات المؤسسة الرامية إلى إفراغ الأرض من سكانها الأصليين في جزء من مخطط سياسي شامل. وأكد المتحدثون ضرورة إعادة البناء لكل ما يهدم والإصرار على الصمود والبقاء.
واعتقلت شرطة الاحتلال عدداً من المتظاهرين، عرف من بينهم محمد محاجنة من أمّ الفحم ومحمد أبو علي من قلنسوة ومحمد مصاروة والناشط اليساري إيال نير. ومن المقرر أن تعقد محكمة بئر السبع، جلسة للنظر في قضية معتقلي تظاهرة التضامن مع العراقيب.♦
مجلة العودة - العدد السادس والثلاثون - السنة الثالثة – أيلول (سبتمبر) 2010 م– رمضان 1431 هـ