جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
على رقعة فسيحة منبسطة، بعيداً عن جلبة الطرق العامة، جنوب سهل فلسطين الساحلي، بارتفاع خمسة وسبعين متراً فوق سطح البحر، تهنأ بيت طيما على ضفة وادٍ غير ذي زرع هناء اللؤلؤة في صدفتها. بعين اللؤلؤة، أو من بيت طيما، ترمي البصر على بُعد اثنين وثلاثين كيلو متراً نحو الجنوب الغربي فترد التحية إليك غزة هاشم، وعلى بعد كيلومترين اثنين فقط نحو الشمال الشرقي تتبسم «كوكبة» حاملة إليك تحايا «عراق سويدان» وأشواقها، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات نحو الجنوب الشرقي تمدّ «حليقات» يدها إليك مصافحة، وعلى بعد أربعة كيلو مترات غرباً، تحمل «الجية» إليك، عبر منخفض الوادي الشمالي، نسيم البحر فوّاحاً بشذى «الجورة» وغيرها من قرانا ومدننا الساحلية المغصوبة. ويبقى المكان في النفس الطيماوية هو المكان، وإن طال الزمان وقسا وغدر، فلا يقل قرب مسقط الرأس تأثيراً، في تصاهر الطيماوية وتقاربهم مع أهل القرى والبلدات المجاورة، عن السمات الشخصية التي يحملها الصهر المنتظر. تعانق بيت طيما، أكثر من أحد عشر ألف دونم، من ترابنا الفلسطيني، ستون منها للعمران والسكن، ومئتان وتسعة وثلاثون دنماً أخرى للطرق والأودية. تنتج أراضيها الزراعية المتمركزة بخاصة، في مساحات صغيرة بشرقها وجنوبها، الحبوب والخضروات، وفواكه كالعنب واللوز والتين والمشمش، معتمدةً على مياه الأمطار، بسبب شحّ مياهها الجوفية، وندرة الآبار فيها، حيث تتخزن مياهها الباطنية تحت عمق ثلاثة وستين متراً. مع تهادي نسيم الشمال، بصوت الشيخ الخطيب عبد الهادي الخولي رافعاً أذان الفجر، من مئذنة جامعها، يفتِّق صباح بيت طيما الصائف غسق الدجى، عن سنابل قد تثاقلت، وأغصان تمايلت، ويستيقظ الطيماوية مستفتحين مسترزقين رب العالمين، أن يبارك لهم حصادهم وجنْيهم، ويتوجهون، بعد صلاة الفجر، نساءً ورجالاً وأنعاماً، إلى موارسهم وكرومهم، مبتهجين مطمئنين، حتى إذا انتصف النهار جنحوا لقسط من الراحة في ظلال السدرة الكبيرة، يأكلون ما حملوا من طعام في الصُرر، ويشربون، من أباريق فخارية راشحة، وقطاطيس معتقةٍ، ماءً زلالاً وألباناً مخضوضة. تهِلُّ بيت طيما من صدفتها، ظهرها إلى البحر، والوجه إلى خليل الرحمن، لتسد حاجاتها وتسيِّر أمورها، من أسواق الفالوجة ومرافقها العامة؛ وفي تؤدة وخفر يتوجه الطيماوية من محارتهم حتى يبلغوا طريق غزة - الفالوجة شرقاً، أو طريق كوكبة – برير غرباً، في زيارة لبيت نسب، في عراق سويدان شمالاً، أو دِمْرَة جنوباً. تتهادي الطيماوية بزيها القروي المهيب، وقُفَّةٍ على حواةٍ فوق الرأس، مملوءةً بما تيسر من حاجيات العيدية وصلة الرحم، والطيماوي في المقدمة، يُنَقّل بين الحين والحين، ومن كتف إلى أخرى، سلّةً فيها حصة من باكورة الحاكورة، وذبيحة العيد وكعكه وسكاكرة؛ يتنحنح ويكبّر ويحمدل ويستحث الطيماوية، دون كلل، وبنظرة لا تخلو من رفق وحنان: «يلاَّ يا بنت الحلال، خفي رجلك، هلحين الناس بتستنانا». يصوم الطيماوية شهر رمضان صيام مياه الأمطار، عن تراب قريتهم. قُبيل الإفطار يعودون إلى بيوتهم عبر شوارع تشقّ كتلاً سكنية وفضاءات تفصح عن نموها العمراني وتوسعها نحو الغرب، شمالاً وجنوباً، تمشياً مع ازديادها السكاني المتسارع، حيث بلغ عديد الطيماوية سنة 1922 ستمئة وست نسمات، وسنة 1931 سبعمئة واثنين وستين نسمة، وسنة 1945 ألفاً وستين نسمة؛ وتحتضن نواة القرية، وهي أكبر الكتل السكنية دكاكين ومرافق عامة، يقضي منها الناس معاملاتهم الرسمية وحاجاتهم اليومية، من الزيت النابلسي والبرتقال اليافاوي والعنب الخليلي والتمر الديراوي والرمان الصفدي والصبر الرفحي واللوز الطيماوي. قبيل أذان المغرب أيضاً، ترى في شوارع بيت طيما أطباق الطعام والحلوى الرمضانية في أيدي الأطفال ساخنة شهية، في طريقها، من بيت إلى بيت، وكأننا أمام عرض مثير، في الهواء الطلق، للآطباق الطيماوية المحلية اللذيذة، من عدس وحماصيص وخبيزة، وبامية ورجلة وملوخية، وزلابية ومطبق وهيطالية. هذي بيت طِيْما، أو بيت طَيْماء، أو بيت تَيْماء، أو بيت الطمأنينة، مهما جادت تخريجاتها الدلالية لا تخرج عن معاني الطيبة والجَبْلَة على المحبة وطبع الخير وسجيته التي طبع الله أهل هذه البلدة الفلسطينية عليه وجبل نفوسهم، حنفاء مطمئنين، في أحضان وطن الإسراء والمعراج، ومسقط رأس المسيح، وقد اتسع للآخر صدراً وحِجْراً، فغدر به الآخر ونبا، وقتل فيه الحياة والطمأنينة، أمام تخاذل الـ«نحن» البعيدة والقريبة. تنبئنا المعاجم أنَّ من معاني التيماء، الأرض التي تستعصي على غير أهلها، وتُهلك الضالين والغاصبين وشذاذ الآفاق في مسالكها، فلا يكون خروجهم منها كدخولهم لها، هذا إن كُتبت لهم نجاة، بعد أن خَفَّت موازينُهم استكباراً وطغياناً وإفساداً وتقتيلاً وتدميراً. عُرِف الطيماوية بالحمية والنخوة، وانخرطوا في فيالق الجهاد الصلاحية التي حررت القدس من عبث المعتدين باسم الصليب وعليه، فرقدت بلدتهم، حضارة وتاريخاً وجهاداً في سبيل الله والوطن والإنسان، على منطقة أثرية عريقة، منها مقابر تحتضن رفات مجاهدين، استشهدوا في حروب فرنجة الأمس/ صهاينة اليوم، على بلادنا الشامية، وأحاطت بها خرائب أثرية منها ساما وبيت سمعان، دليلاً على أن هذه الديار الفلسطينية، كانت عامرة بمساكنها ومأهولة بأهلها، منذ العصور الغابرة. تحت وطأة الانتداب البريطاني البغيض، تململت الذات وخفقت الجذور، فتضامن الطيماوية والكواكبة والحليقاوية، في أنبل عملية بناء وإحياء ثقافية وتربوية، وأنشأوا، في سنة 1946، مدرسة بيت طيما الابتدائية، في امتداداتها الشمالية، مركزاً متوسطاً بين البلدات الغزِّية الثلاث. في التاسع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1948، وبعد محاولات اقتحام عديدة فاشلة، اغتصبت العصابات اليهودية المرتزقة بيت طيما، فدنّستها واستباحتها استباحة تلمودية فظيعة، وقتَّلت أهلها وشردتهم ثم دمرتها، واستغلت أراضيها، لاستخراج النفط من حقل حليقات المجاور، والزراعة المروية بالمياه الارتوازية المخطوفة بالأنابيب، من قضاء غزة، في براثن الاحتلال الصهيوفرنجي الكريه. لا يزال شيٌ من معمار بيت طيما قائماً حتى اليوم، ليشهد من مكانه، على فصول الجريمة، بين أشجار مشرئبة، لم تلمسها يد بشر منذ سنين، وكأنها تنتظر اليد الطيماوية التي كانت تدرأ الشرور والعدوان والآفات عن نفسها وعنها، وتشذبها وتسقيها، وتحرث الأرض تحتها وتناغيها، متضرعة: «أطعمنا يا رب وأطعم منا». انتُزع الطيماوية من بيوتهم، فبكاهم أثاث البيت ومطمورة القمح، والفأس والمحراث، والمنجل والمذراة، والطير والحلال، وجِرار الزيت والزيتون، وأكياس اللوز والزبيب والقطِين، وقلائد الفلفل والبامية، وخرايط الزعتر والملوخية والبندورة والمرمية. من تحت الحصار والتقتيل والعبث الصهيوني والتجويع والتشريد، يرنو الطيماوية في مخيمات هيئة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم، بقطاع غزة ومنافٍ أخرى، إلى يوم العودة إلى بيت طيما، بلهفة وإصرار، وقد تضاعفوا عديداً، في أسر منها أبو صلاح والخولي والكرد وشومر وصباح وجبريل والمبحوح؛ وما زالوا يبلسمون جراح الذاكرة، في المنافي، بترياق من جغرافية الوطن المغصوب وأناسته، تضاريساً وبيئةً وإنساناً، وتاريخاً وثقافةً وهوية، ويأخذون من العلم ما علَّمهم الله وعلمنا، من لدنه رشداً، ومن قصص الأنبياء والصدِّيقين عبرةً ودرساً. هذي بيت طيما، يوسف هذا الزمان، يا يعقوب، حيَّة في غيابة الجُبّ، وعائشة في حبَّة القلب، فصبرٌ جميلٌ على ما يصفون، والله المستعان، وبشر بنصر من عنده وخلاص قريب. الدكتور محمد عبد الله الجعيدي مجلة العودة