الاستيطان اليهودي في زرنوقة وما حولها:
كانت بداية الاستيطان اليهودي في زرنوقا قديمةً فعلى مشارفها كانت مستوطنة رحوفوت التي أُسست في سنة 1890م ، واستمد المستوطنون اسم المستوطنة من سفر التكوين (Genesis 26,22)، بناء على اقتراح من "إسرائيل بيلكند" مصمم عَلَم عصابة "ريشون لتسيون" عند إنشاء المستوطنة أواخر القرن التاسع عشر للميلاد.
وقد أقامها هؤلاء المستوطنون بأموالهم الخاصة بعيداً عن رعاية البارون الإنجليزي اليهودي روتشيلد الذي كان له دور كبير في الاستيطان اليهودي المبكر في فلسطين، بعد موجة هجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين بين عامي 1890-1891 الذين وصل عددهم بالآلاف من الشباب المفلس وعديم الخبرة بدعم من جمعية أحباء صهيون، وقد تسبب هؤلاء في إفلاس المستوطنات التي عاشوا فيها بسبب اعتمادهم على المساعدات وانعدام خبرتهم الزراعية، كما نشأت لديهم ردة فعل تجاه البارون البريطاني اليهودي الثري إدمونددي روتشيلد الذي أقام إدارة تابعة له تتولى شؤون إدارة المستوطنات في فلسطين، وتركزت الإدارة لدى خبراء انتدبهم روتشيلد مع تجاهل للمستوطنين الجدد الذين لم يكن لهم أي قرار واستمر فقرهم مما أدى إلى كراهية شديدة موجهة لروتشيلد الذي استثمر هذه المستوطنات في التجارة وإقامة مصانع النبيذ الفاخرة التي يتم تسويقها على أنها من الأرض المقدس.
وفي عام 1908م تم منح هذه المستوطنة لعدد من المهاجرين اليمنيين السفارديم بدعم من الحكومة البريطانية
وفي وقت لاحق توسعت مستوطنة غان شلومو، التي أُنشئت أصلا في سنة 1927 لتحتل جزءاً من أراضي القرية، كذلك توسعت مستعمرة غبتون التي أُنشأت في سنة 1933م، ومستعمرة غفعت برينر التي أنشأت في سنة 1928 فاحتلتا بعض أراضي القرية وهما تختلطان الآن بضواحي رحوفوت.
وإذا كانت معطيات الدكتور الخالدي دقيقة فإن زرنوقا تعرضت أراضيها للاستهداف الصهيوني المنظم مبكراً، ولابد لنا أن نقرر أنه نشأت مستوطنات يهودية عديدة في قضاء الرملة أدرجت ضمن المنشور الإنجليزي الإداري الذي ذكرناه أعلاه، توضح نشاط المنظمات الصهيونية المبكر للتمهيد لاحتلال فلسطين وتأسيس دولة يهودية على أرضها؛ ومن هذه المستوطنات التابعة لقضاء الرملة: بير يعقوب – بيت حانان – نَحَله يهودا – نس صيونا – غديرا – غزر – قبصات شلّر – بن شمن – ريشون لتصيون – كفر آهارون – كفر يريا – كفر أوريا – شخونات ممروك – مزكرت باطيا.
وليست لدينا معطيات عن تفاصيل هذا النشاط الصهيوني إذ لم تتوفر لدينا معطيات أرشيفية للتاريخ الاستيطاني للحركة الصهيونية في فلسطين نظراً للسرية الشديدة التي كانت تحيط بنشاطاتهم وندرة المنشور من تفاصيل تاريخ هذه الحركة الاستيطانية الصهيونية، كما أن مثل هذه المعطيات ستكشف أدوار الاستعمار البريطاني وجهات أخرى في خدمة أهداف الحركة الصهيونية.
لكن المراجع البريطانية تكشف لنا عن دور بعض السياسيين الأثرياء في بيع أرضهم في زرنوقا لصالح جهات تعمل لخدمة المشروعات الاستيطانية اليهودية فقد قام عبد الرحمن التاجي الفاروقي أحد وجهاء الرملة وأثريائها وشقيق ممثل الرملة لدى مجلس العموم العثماني شكري التاجي الفاروقي وهو أحد أعضاء حزب الدفاع الوطني ، قام عبد الرحمن ببيع 2600 دونم من أراضي زرنوقا عام 1926م
ويكشف المؤرخ اليهودي هليل كوهين أن عبد الرحمن التاجي الفاروقي وآخرين باعوا 2000 دونم ( أقل بـ 600 دونم مما ذكره كنيث شتاين) من أرض قرية زرنوقة العربية، والتي أقيم عليها بعد ذلك مستوطنات جفعات برنر ونعان وجبتون.
وفي كتاب آخر يكشف آري أن المسؤول عن عملية البيع هما شكري التاجي الفاروقي وشقيقه عبد الرحمن عضو المجلس الإسلامي الأعلى، وهما من كبار الدولة ورجال السلطة التنفيذية قاما ببيع 13000 دونم من أرض تتبع لهم في قرية القبيبة، ويذكر آري أن الذي قام ببيع 2000 دونم من أراضي زرنوقا هو شكري التاجي الفاروقي ( ولا يذكر عبد الرحمن بعكس المرجعين الأولين)، ويزيد أنه باع هذه القطعة الكبيرة في الثلاثينات إلى رابطة الصهاينة الأمريكان (American zion commonwealth).
ويعود الكاتب الصهيوني جوزيف جلاس إلى أرشيف هذا الكومنولث الأمريكي الصهيوني ويحدد بالدقة مساحة الأرض التي اشتراها هذا الكومنولث من أراضي زرنوقا عام 1925م على وجه الدقة بأن المساحة المشتراة هي 2575 دونم وهي زراعية.
وليست لدينا معلومات حول دوافع الفاروقي في بيع هذه الأرض، وهل كان مدركاً لحقيقة الأهداف الصهيونية الاستيطانية !؟ أم تعامل مع هذا الأمر بمنطق تجاري محض !! وهل كان ثمة دور بريطاني دفعه لتقديم هذه الخدمة الكبيرة للمستوطنين اليهود ؟...
ويقدم آرييه آفنيري تفسيراً سياسياً واجتماعياً خطيراً عن سبب نشوء مستوطنة رحوفوت نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حيث يقرر أن المستوطنين الصهاينة الأوائل استغلوا أن كثيراً من أراضي الساحل الفلسطيني والمناطق الداخلية القريبة منه أقيمت عليها ثكنات عسكرية مصرية، وأملاك عامة تعود للحكومة المصرية، وقد اشترى منهم الصهاينة الأوائل مناطق كبيرة حول يافا مثل ثكنة المصرية وثكنة أبو كبير وثكنة حماد وثكنة أبو درويش، وقد استطاع الصهاينة الحصول على ثكنة العبد التي كان يسيطر عليها عبيد محررون، وكان المصريون الذين يعملون لدى حكومتهم يقيمون بصورة مؤقتة في مناطق فلسطينية في ضواحي يافا تملكوا فيها مثل قرية الشيخ مؤنس وفجة وأم لبس وسلمة وصميل وجلجوليا، ويزعم آرييه أن رجلاً يدعى الشيخ حماد المصري كان يمتلك مساحات شاسعة من أراضي القرى المنتشرة في المنطقة نهاية القرن الثامن عشر ، وقد باع حصة من أراضيه في زرنوقة والقبيبة عام 1893م، بسبب تعاظم الكراهية بين الفلاحين الفلسطينيين وبين المسؤولين المصريين الذين استولوا على أراض واسعة، ودرج الفلاحون الفلسطينيون على تسمية هذه الطبقة من الملّاك بالمصريين، ويزعم آرييه أن الفلسطينيين اتخذوا منهم مواقف عدائية حتى إنهم كانوا يرفضون تزويجهم بناتهم ، وعندما اضطربت أحوال البلاد كان الملاك المصريون والإدارات المصرية يبيعون أراضيهم وممتلكاتهم إلى الجهات التي تدفع أكثر لمغادرة الأرض، وهو الأمر الذي استفادت منه المنظمات الصهيونية الاستيطانية الأولى كثيراً.
ويتحدث آرييه آفنيري عن توتر شديد في العلاقة بين المستوطنين الأوائل في رحوبوت حيث كان اسمها اليهودي "تل ديران" والفلاحين الفلسطينيين في زرنوقا، على خلفية النزاع على المراعي، والتعديات المزعومة على أراضي المستوطنة ، ويزعم آرييه أن تلك المنطقة البالغ مساحتها نحو 10000 دونم كانت بوراً، خالية من الأشجار والبيوت والآبار في عام 1890م ثم اخضرت وامتلأت بالبساتين عقب إنشاء المستوطنة الصهيونية الأمريكية، ويتحدث آرييه أن من أسباب هذا النزاع وجود الثكنات العسكرية للجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، ويتحدث أيضاً أن المستوطنين كانوا يرفضون الضرائب المفروضة عليهم من شيخ القرية الذي تلقى إهانة من أحد أبناء هذه المستوطنة فهاجمهم بقوة، مما دفع المستوطنين للاستنجاد بمعسكريين للمستوطنين أجبرت الفلاحين الفلسطينيين على الانسحاب وقرر المستوطنون الصهاينة مقاطعة المحيط العربي لأكثر من عامين، ويؤكد آرييه أن هذه الحادثة وأمثالها أكدت للمستوطنين ضرورة وجود قوات عسكرية تدعمهم وتدافع عنهم لأن القانون العثماني آنذاك لم يكن في صالحهم، ولا يحمي مصالحهم
ويتحدثون مؤرخون يهود آخرون عن أن سبب الصراع الدموي بين الفلاحين الفلسطينيين من أهالي زرنوقا وهؤلاء المستوطنين في مستوطنة رحوبوت تعود للتنازع على حقوق الرعي، وتغوّل قطعان الدواب التي يملكها الفلسطينيون على أراضي المستوطنة بعد التوغل المصري في المنطقة.
وقد شجع هذا الاستيطان في المنطقة إقامة حاييم وايزمان Chaim Weizmann الذي غدا أول رئيس للكيان الصهيوني بعد النكبة مركزاً للبحوث الزراعية عام 1934م.
وأما مستوطنة "زرنوقاه" فقد أقيمت عقب تدمير القرية وتهجير أهلها عام 1948م وأصبحت الآن ضاحية في مدينة رحوفوت .
وبالخلاصة فإن ما تسرب من أراضي قرية زرنوقا لليهود خلال سنوات ما قبل النكبة بلغ نحو 1,578 دونم من جملة أراضي القرية الزراعية البالغة مساحتها نحو 6068 دونم ، معظمها تم استثماره في زراعة الحمضيات والحبوب بحسب إحصائية عام 1945م، وأما السكان اليهود الذين كانوا فيها فيبلغ نحو 240 شخصاً، من جملة السكان العرب الذين بلغ تعدادهم نحو 2761 نسمة.
وأما اليوم فإن المستوطنات اليهودية تحيط بأراضي زرنوقا من جميع الجهات، إذ أصبحت مدينة يهودية بالكامل بعد تدمير القرية وتشريد جميع أهلها؛ فيحدها من الشرق: مستوطنة غبتون ومستوطنة شلومو، ومن الغرب: مستوطنتا كفار جفرول و كفار هناجيد، ومن الشمال: أيانوت وكفار آهارون و شالوم تيرات، ومن الجنوب: بيت جملئيل و جفعات برنّر.
المصدر: الدكتور اسامة الاشقر
كتاب: زرنوقة جنة الليمون والبرتقال