جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
سقوط طبريا: 19 ابريل 1948 أقسى الشهور الذي غير مجرى تاريخ مدينة طبريا، وهذا ما يقر به كل فلسطيني.. لما يستبطنه هذا الشهر من دلالة مروعة، ولكن أبريل أيضا لا يخلو من القسوة، وبالنسبة لطبريا فهو شهر أسود، إذ إنها أولى المدن الفلسطينية التي نالت منها الصهيونية في الثامن عشر من أبريل 48، وسقطت في اليوم التالي شقيقتها «حيفا» أيضا مضرجة بدمائها. المدينة الفلسطينية العريقة طبريا، حين هجر أكثر من 6000 عربي من سكانها تحت تهديد السلاح والقتل، بعد تواطؤ الانتداب البريطاني مع العصابات الصهيونية. لجأ الطبرايون إلى أنحاء مختلفة، منها لبنان وسوريا والأردن، في حين أصبح آخرون منهم مهجَّرين داخل وطنهم في الناصرة وغيرها، وكافتهم يجمعهم الحنين الدائم للتواصل معها. علاقات الشعبين :عشية الصدام، لم يكن ثمة فرق بين يهودي وعربي، فقد عاش كلاهما في وئام وسلام، وكان معظمهم من المغرب وتونس والجزائر، وبقي الوضع على هذا النحو حتى قرار «التقسيم».«بعدها قرر العرب أنه حان الوقت للدفاع عن النفس بعد اتضاح المطامع الصهيونية، فتوجه وفد من طبريا إلى الشام طالباً المساعدة، وتشكلت لجنة قومية رأسها الشيخ كامل طبري، ووصلت المساعدات من سوريا مع مناضل من طبريا يدعى صبحي شاهين، حجمها 25 بندقية بالكمال والتمام وبعض الذخيرة في حين بلغ عدد المقاتلين اليهود في المدينة 1000 مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة، أما الدعم المحلي فقد وصل من الناصرة بقيادة محمد العواريني وذياب الفاهوم، ليصل عدد المدافعين عن المدينة إلى 200 مقابل 1000 مقاتل صهيوني، تحضيرا للمعارك. وبالتحديد إلى تاريخ «4-4-48» حين بدأت المناوشات، فغادر اليهود الذين كانوا يسكنون إلى جوار العرب إلى أحياء يهودية خالصة، واستمر القتال نحو أسبوع، قبل أن يتدخل البريطانيون، «الضابط إيفانس» لم يرق له الوضع، فأرسل في الحادية عشرة ليلاً سيارة عسكرية لإحضار صاحب البنك العربي صدقي طبري ورئيس البلدية اليهوي «دهان» وحملهم مسؤولية أي أعمال عنف تحصل، مهددا بأن المدفعية البريطانية ستقصف المنطقة التي سيصدر عنها إطلاق نار». هدأت المدينة ليومين أو ثلاثة، بعدها عادت الاشتباكات من جديد، فأصدرت سلطة الانتداب أمر منع تجول، وهنا تدهورت الأوضاع فكانت «المؤامرة»، إذ -وخلال الهدنة- احتلت العصابات الصهيونية فندق الجليل، وكان عليهم المرور بجانب مقر الشرطة البريطانية للوصول إلى المكان، فعبروا من هناك دون أي تدخل بريطاني، «وهذا دليل على المؤامرة» وبدؤوا يقصفون الأحياء والبيوت العربية في المنطقة السفلى والسوق، فسيطروا على المنطقة، لينسحب المناضلون، فمنهم من لجأ إلى قرى وبلدات أخرى، وآخرون ركبوا الزوارق وأبحروا بها إلى الشواطئ الشرقية للبحيرة، الواقعة ضمن الحدود السورية، واجتمع السكان في منطقة السوق، وراءهم البحيرة واليهود.. وأمامهم البريطانيون. جاء جنود الانتداب إلى السكان المطوقين معلنين «أن اليهود لا يريدون العرب في المدينة، لذلك عليكم الخروج إما إلى الأردن أو الناصرة دون أخذ أي شيء معكم، فقط ما ترتدونه»، إلا أن القصة لم تنته هنا، فرغم القرار الصادر بالتهجير، فقد واصلت العصابات جرائمها» وبدؤوا يطلقون النار، فقتل اثنان من العرب هما صبحي حموي وشخص يدعى القشقوس وأصيب ثالث، فأثار ذلك حفيظة كاهن رعية الروم الكاثوليك الأب نتنائيل شحادة الذي توجه إلى الضابط البريطاني «مطالباً بوقف هذه المهزلة، فطلب الضابط من اليهود وقف ذلك»، ليخرج أبناء طبريا من مدينتهم، فالذين اختاروا الأردن نقلوا عبر شاحنات عسكرية إلى جسر المجامع، فيما استقل آخرون باصات «الجليل» وأخرى بريطانية للناصرة وهم يرمقون مدينتهم بنظرات طافحة بالأسى والخوف من المجهول. ولبعض سكان مدينة طبريا لم يكن اختيار الهروب الى الناصرة بسبب قربها من طبريا وحسب، بل اختيرت بعد أن «راجت شائعات تتحدث عن كونها ستبقى دولية مع القدس، وبالتالي فإن اليهود لن يدخلوها» ولم تصدر هذه الادعاءات من فراغ، ففي الواقع كان القرار يتحدث عن أن تكون هاتان المدينتان دوليتين، إلا أن القرار الدولي لم يطبق كما مئات القرارات اللاحقة. يروى ان الحياة الجديدة في الناصرة التي بدأت بخيبة أمل وصفعة أخرى، «بعد أسبوعين على وصولنا قال لنا البريطانيون إن بإمكاننا أن نستقل شاحنات ونذهب إلى طبريا ونحمل ما بقى لنا من أدوات وأغراض في بيوتنا»، ويضيف «لكن ما إن وصلنا حتى فوجئنا بعدم وجود أي شيء في المنازل، نهبوها جميعها.. لم يتركوا حتى اللبنة والجبنة، سرقوا كل شيء» ليعود الجميع أدراجهم إلى الناصرة بعد أن دفع كل واحد منهم 10 ليرات أجرة الشاحنة التي استأجرها بلا جدوى. وفي إحدى الزيارت، لاحد ابناء طبريا: «وقفت أمام المكان حيث منزل العائلة، بعد أن بنيت مكانه عمارة كبيرة كتب عليها «كوبات حلاف» نظرت إليها طويلا، فجاءني يهودي وسألني إلى ماذا أنظر؟ فأجبته: «في هذا المكان كان بيتي، فصرخ في وجهي» ماذا؟ لا يوجد لكم بيوت هنا، هذه ليست لكم، وهددني بتسليمي إلى الشرطة».انسحب الباكي على الأطلال بهدوء من المكان، لكن هذه الحادثة لم تفارق مخيلته ولا صورة ذلك الإسرائيلي، الذي يعتقد أنه يعرف كل شيء وهو لا يعرف شيئاً، ويشرح مضيفنا: «هؤلاء الرومانيون والقادمون من أوروبا الشرقية لا يفهمون شيئا ولا يدركون ماذا حصل قبل مجيئهم، ليسوا مثل المغربيين والتونسيين والجزائريين بين المدرسة والمتروبول الحنين إلى طبريا كثيرا، وأكثر ما يحن إليه الجلوس مع الأصدقاء على شواطئها، فقد كان بطل هذه القصة زبوناً دائما على المقاهي والمطاعم مع أصدقائه، المتروبول لعائلة قهوجي ومطعم أبو إلياس الطبراني، والعكاوي ومقهى منير أبوعلي، وآخر لمحمد علي، أما مكانه المفضل فكان المتروبول ومطعم الطبراني، لماذا؟ «الاستقبال كان غير شكل»! كان أما خلال المدرسة فقد كان الوضع يختلف، فالطريق من المدرسة كانت نهايتها البيت فقط، ليس بسبب النشاط والاجتهاد، بل لأن «الأساتذة كانوا يعاقبون كل من يرونه يلهو في الشارع ولا يقوم بواجباته المدرسية في البيت»، يذكر ابن طبريا ذلك وابتسامة عريضة تعلو وجنتيه وبريق يلمع في عينيه، يزيد من لمعانه الحديث عن المعلمين، وأولهم المربي رشاد غرايسي (والد رئيس البلدية رامز غرايسي) ومدير المدرسة طلعت السيفي «أبعد عن منصبه لأنه كان وطنيا» وأستاذ اللغة الإنجليزية نديم خوري والعربية توفيق وهبة والأستاذ محمد علي، أما الأستاذ المفضل والمحبوب فكان حبيب ديب «كان يعلمنا الرسم وكنا نحبه كثيراً».
ارسلها: chadbaker@hotmail.com