تسعة وعشرون عامًا من الانتظار، كافية لرسم ملامح البؤس على وجه "أم عزيز". أعوام طويلة تلك التي تنتظر فيها المرأة الثمانينية عودة أبنائها الأربعة؛ عزيز (مواليد 1950)، إبراهيم (1953)، منصور (1956)، وأحمد (1969). اختطفتهم جميعهم مذبحة صبرا وشاتيلا، دون أن تعيد أشلاءهم.
في الطريق إلى بيتها، داخل مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، تظهر البيوت مصدّعة... نسأل مرافقنا فيشير إلى أن حرب تموز 2006 أصابت بأضرارها كل بيوت المخيم، لكن جرى التعويض على كل المنازل في لبنان واستُثني المخيم الذي استقبل الآلاف من أبناء الضاحية في تلك الحرب، بيت أمّ عزيز ليس استثناءً.. نصل إليه فتروي لنا صاحبة المنزل حكاية مأساةٍ من قلب مذبحة صبرا وشاتيلا.
في السادس من حزيران من عام 1982، يبدأ الطيران الصهيوني قصف منطقة العاملية في المخيم، تمهيدًا لاجتياح لبنان، المنطقة تُدمّر، يهرب السكان. تنتقل أم عزيز بأبنائها إلى مبنى قريب من مخيمي صبرا وشاتيلا علّها تظلّهم هناك من قصف الطائرات. تدخل قوات الاحتلال إلى العاصمة بيروت، بعد اتفاقٍ دوليٍّ بعدم مسّ المدنيين الفلسطينيين.
في 16/9/1982 يدخل مسلحون من ميليشيات يمينية لبنانية، وجيش العميل سعد حداد (لحد لاحقًا) إلى صبرا وشاتيلا. يبدأون بتنفيذ المذبحة، بحماية الاحتلال، وإرشادات قنابله المضيئة. قطعٌ للرؤوس بالأسلحة البيضاء، وبقرٌ لبطون النساء الحوامل، وفظائع أخرى يحجم مجتمع شاتيلا المحافظ عن ذكرها إلا همسًا.
في اليوم التالي تصحو أم عزيز باكرًا كعادتها، فتجهّز الطعام لأبنائها الأربعة، توقظهم بلمساتٍ لطيفةٍ: "يمّا الأكل جاهز". تلمس وجه أصغرهم أحمد وتقبّله. ثم تودّعهم لتشتري بعض الخضار... المذبحة مستمرة على بعد عشرات الأمتار، لا إذاعات توصل الخبر، ولا هواتف نقالة تصوّر ما يحصل، ولا مواقع التواصل الاجتماعي كانت قد وُلدت بعد.
تصل إلى مبنى قريب، تشاهد بعض الأشخاص بالزي العسكري، البعض يحمل شارة الأرزة الخضراء على القمصان، والبعض الآخر يضع شارة الأرزة الخضراء وفوقفها سيف مذهّب، وإلى جانبهم شخص ذو شاربٍ كثيفٍ، ونظارة سوداء. لم تكن تعلم أن هؤلاء يلبسون زي ميليشيا لبنانية وجيش العميل سعد حداد، وأن الشخص هو إيلي حبيقة منسّق المذبحة. تابعت طريقها، واشترت حاجياتها، وعادت إلى البيت.
في البيت، عند دخولها لم تسمع صوتًا، على غير عادة. نادت "وينكو". لم يردّ أحد. دخلت المطبخ، والخشية تتضاعف في صدرها، وتربط ما شاهدت من صور عسكريين بالصمت القاتل في البيت... تنادي مجددًا، تظهر زوجة عزيز مرتجفة... تخبرها أن قوة عسكرية اختطفت الأبناء، وهي احتمت بخزانة المطبخ لتحفظ نفسها وابنها.
تركض أم عزيز تجاه شاحنات عسكرية فيها العشرات من الرجال المختطفين، وذلك على مرأى من جنود الاحتلال. لم تنسَ أن تُحضر لعزيز قميصًا ليحميه من برد أيلول، خاصة وأنها تركته دون قميص. يناديها صوتٌ من داخل الشاحنة المكتظة "يمّا، أنا هون". إنه صوت عزيز... تقترب أكثر من الشاحنة. أحد الخاطفين يرفسها ويضربها ضرب من لا يرحم. ثمّ يوجّه الخاطفون اللكمات إلى عزيز، فتشاهده أمّه والدّم ينزف من جرح قرب عينه. عادت بالقميص الذي تحتفظ به حتى اليوم.
القلق يستولي على خفقات قلبها. في اليوم الثالث تصل أخبار المذبحة. تركض أم عزيز باتجاه صبرا وشاتيلا حافية القدمين... لم تشاهد إلا القليل من الأمهات، وبعض الصحافيين. هناك كانت تلال من الجثث فوق بعضها. أخذت تحدّق، بعينيها الصغيرتين الغائرتين، بوجوه الشهداء. تقلّب بالجثث، تمسح الدم عن بعض الوجوه لتتأكد من الملامح. تخشى أحيانًا، وتتمنى أحيانًا أخرى، أن تجد جثث أبنائها. إذا وجدت جثة ضخمة، فتظنها جثة عزيز. وإذا وجدتها صغيرة، تقول هذا أحمد، فلا تجده كذلك. بعض الجثث قلبتها مرات ومرات.
ثم توجهت إلى الجهة الغربية من حدود مخيم شاتيلا، فهناك عشرات الشبان جرت تصفيتهم عند المدينة الرياضية. أكثر من عشرين شابًّا مطعونين بآلات حادّة. فتشت لم تجد بينهم وجه ابن من أبنائها. عادت إلى المخيم فازداد عدد النسوة، وشرعن جميعهن يبكين بكاء هستيريًّا. الأطباء والصحافيون وضعوا أغطية على أنوفهم حتى لا يُصابوا بأذى الروائح المنبعثة. والأمهات لا يأبهن بذلك.
طرقت كل الأبواب بحثًا عن أمل... ذهبت إلى رجل أعمال مسيحي كان عزيز يعمل عنده. قصت عليه قصتها، فأُصيب بذبحةٍ قلبيةٍ ومات... وصل وزنها إلى 41 كيلوغرامًا. سمعت عشرات الحكايات عن مصير أبنائها. صدّقتها جميعها، وهي تعلم بكذب بعضها، لأنها تبحث عن أمل، حتى ولو كلّفها ذلك بيع مصاغها، ودفع ما كان لديها من مال. وقد كادت تُخطف وتُقتل في إحدى محاولاتها.
قصة واحدة هي التي علمت تمامًا بصدقها. أحد السجناء، وهو الذي كان يعرف عزيزًا قبل اختطافه، وصفه بدقة، بملابسه وشكله يوم اعتقاله، وحتى ببعض الطلاء الأحمر الذي كان على سرواله. وأخبر السجين السابق أن عزيزًا كان يقول "أمنيتي أن أرى أمي، فمشهدها وهي تتعرّض للضرب لم أنسه أبدًا".
بيت أم عزيز به عشر غرف، لا تسكن سوى غرفة واحدة. لا تنام من الليل إلا ساعتين. وتبقى منتظرة بقيته، علّهم يعودون إليها، برائحتهم يوم اختُطفوا، بدعسات أقدامهم، التي تحفظها أم عزيز جيدًا. ينادونها أهل المخيم بـ "أم الشهداء"، وهي تقول "يا ريت، كنت لقيت قبر أزوره".
المصدر: المركز الفلسطيني للاعلام