أطلقت شبكة الإعلام الأمريكية فوكس نيوز منتصف اشهر يناير الجاري اتهامات لعارضة الأزياء الأمريكية بيلا حديد بأنها تبث رسائل سياسية خفية داعمة للشعب الفلسطيني عبر ما ترتديه من ثياب وحلي فلسطينية، وبهذا عادت سيرة عائلة رجل الأعمال والملياردير الأمريكي محمد حديد إلى الواجهة مجدداً. ورغم أن محمد حديد وأفراد أسرته كانوا قد انطلقوا في عالم المال والشهرة منذ عقود وعاشوا في الولايات المتحدة بعيداً عن مجتمعهم الفلسطيني وتقاليدهم الإسلامية إلا أنهم كانوا يعبرون دائماً عن ارتباطهم بموطنهم الأصلي في صفد التي تخضع للاحتلال الإسرائيلي. فما سرّ هذا الانتماء؟!
في قراءة سريعة لما نشر عن تاريخ عائلة محمد حديد يظهر أن أصوله تعود لعائلة صفدية تربوية عانت وكافحت في ظل الانتداب البريطاني حتى استطاعت أن تؤسس لمسيرة نجاح رغم فقدان الأسرة موطنها وبيتها بفعل الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
اجتهدت (هوية) في متابعة أصول العائلة لمعرفة المزيد عن رجل الأعمال محمد حديد وبالتحديد عن والده أنور محمد طالب حديد، وذلك من خلال متابعة ملفه التعليمي في دائرة المعارف في فلسطين قبل النكبة عام 1948.
وتظهر الوثائق أن الوالد أنور قد ولد في صفد بتاريخ 16/12/1916، ودرس في المدرسة الثانوية في صفد من الصف الابتدائي الثاني حتى الصف الثاني ثانوي ثم أكمل ثلاث سنوات في الكلية العربية في القدس حتى أنهى الصف الثانوي الخامس لينتقل بعدها إلى قطاع التعليم.
تم تعيينه كمعلم مؤقت غير ثابت في مدرسة عكا الابتدائية والثانوية براتب شهري قدره 9 جنيهات فلسطينية، وكان حينها لا يملك أموالاً ولا أملاكاً في فلسطين كما صرح لدائرة المعارف، وقام بنقل متاعه من صفد إلى عكا بمبلغ 2.65 جنيه دفعتهم الدائرة.
ومن خلال الاطلاع على عدد من الوثائق يظهر جلياً أنه كان شخصاً طموحاً يتطلع إلى تحسين أوضاعه بشكل حثيث، فقد تقدّم بطلب المنحة لإكمال دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت أكثر من مرة، وتقارير المفتشين تتضمن إشارة دائمة إلى تحسن أسلوبه في التعليم وعليه فقد كان يحصل على الزيادة السنوية على راتبه وقيمتها 8 جنيهات بشكل منتظم وحصل على ترقية درجته في سلك التعليم عام 1943 ليصبح راتبه 180 جنيهاً بالإضافة إلى 18 جنيهاً علاوة معيشة، وتم تثبيته في الوظيفة عام 1944.
لا يعني هذا أن مسيرته المهنية كانت سهلة أو مقنعة لطموحاته، فقد تقدم خلال فترة عمله بالتعليم بعشرين طلباً للتوظيف في قطاعات مختلفة مثل مصلحة الإذاعة الفلسطينية، ودائرة تسجيل الأراضي، ومصلحة البرق والبريد، ومحكمة العدل العليا، ووظائف إدارية ومكتبية وكان في كل طلب يعبّر عن قناعته بمقدرته على الأداء المميز في الوظيفة شارحاً مؤهلاته العلمية وخبراته العملية، حتى انتهى الأمر بقبول انتقاله من التعليم للعمل في دائرة تسوية الأراضي في 30/7/1946.
سنوات عمله بالتعليم لم تكن سهلة لأنه كان مرتبطاً بشكل أو بآخر بأخته خديجة التي انهت دراستها للصف الثانوي الرابع عام 1940 والتحقت هي الأخرى بقطاع التعليم مباشرة، ولكن تم تعيينها في مدرسة حيفاً بعيداً عن أهلها في صفد وهي ابنة 18 عاماً.
سكنت خديجة مع أخيها أنور في عكا وكانت تنتقل إلى حيفا بشكل يومي ما اضطره إلى الانتقال والتعليم في حيفا من تاريخ 16/9/1941، حيث انتقل للعيش هو وأخته وأمه نظلة عبد الرحيم في حيفا.. رغم أن رغبة الوالدة كانت بأن تنتقل خديجة للتعليم في بلدتها صفد لتبتعد هي بدورها عن العيش في حيفا بعدما أصيبت بعدة سكتات قلبية بفعل الغارات الجوية التي حدثت في ذلك الوقت.
لم يستقر حال أنور وأخته خديجة في حيفا طويلاً، فقد أصدرت دائرة المعارف في شهر آب/اغسطس 1942 قراراً بنقل خديجة إلى قرية ترشيحا لتتولى إدارة مدرسة الإناث فيها ووقع هذه القرار كالصاعقة على أنور لأن قرار النقل شمله أيضاً ولكن المفارقة أنه سينقل إلى ترشيحا بمركز معلم بدلاً من مركز مدير، وليس كما كان حاله في حيفا.
الأصعب أن أنور لم يكن حينها قد مضى سوى بضعة أسابيع على زواجه من خيرية ظاهر ابنة مدينة الناصرة، والتي كانت تعيش في بيت أبيها الذي يشبه القصر على حد تعبيره، لتعيش في غرفة واحدة في قرية ترشيحا. كانت من أصعب الظروف التي مرّ بها، واضطر إلى نقل أثاث بيته إلى صفد وتخزينه في بيت خاص في حين بقيت زوجته عند أهلها في الناصرة وعاش مع أخته خديجة التي لم تسعد بالترقية لإدارة مدرسة ترشيحا واعتبرتها "ترقية مع التعذيب".
ظل أنور يراسل الإدارة ويطالبها بالانتقال للتعليم في مدينة وليس في قرية لكي يستطيع لم شمل أسرته. ونقرأ في الملف الوظيفي لخديجة (عمة محمد حديد) رسالة من أخيها خليل الموظف في دائرة الصحة يطالب فيها بنقل أخته وأخيه أنور للتعليم في صفد وتجنيبهم معاناة الغربة عن البيت والأهل. استجابت الإدارة وقررت نقل أنور وخديجة بتاريخ 16/9/1943 ولكن إلى طبريا وليس إلى صفد.
في عام 1946 انتقل أنور حديد من دائرة التعليم في طبريا وانضم لدائرة تسوية الأراضي في الناصرة واستقر هناك مع زوجته، ورزق بابنه محمد في الناصرة قبل النكبة ببضعة أشهر. احتل الصهاينة صفد كما باقي الأراضي الفلسطينية وتهجّرت عائلة أنور حديد وزوجته خيرية مع أولادهم إلى سورية وواصل الأب كفاحه وعمل في مجالات مختلف وتنقل بين سورية وتونس فاليونان والولايات المتحدة حيث استقرت العائلة وكبرت ودخل الابن محمد أنور حديد مجال العمل في العقارات وشق طريقه في عالم الأعمال..
قصة نجاح وشهرة لم تكن لتتحقق لولا تلك الإرادة غير العادية التي امتلكها الأب الصفدي أنور حديد واستطاع من خلالها تعبيد الطريق لمستقبل أبنائه.. وبعد أكثر من 70 عاماً من ابتعاد العائلة عن موطنها الأصلي لا تزال عائلة حديد تعبّر عن انتمائها لصفد في أكثر من مناسبة بطرق صريحة وأخرى "خفية" الأمر الذي يثير حفيظة الاحتلال ويدفع اليمين الأمريكي لمهاجمتها دون أن يشفع لها جنسية أو مال أو شهرة.
هوية
20/1/2022