عرب 48 - 29/03/2021
منذ 45 عاما، لا تزال عائلة شهيد يوم الأرض محسن طه، من كفركنا تحتفظ بقميصه الذي تلطخ بالدماء الزكية التي نزفت منه حين أصيب برصاصة في مقدمة رأسه، خلال ثورة الغضب التي شهدتها القرية احتجاجا على سياسة مصادرة الأراضي وخاصة القسيمة 9، التي تعرف بأرض المل التابعة لأهالي سخنين، وسرعان ما انتقلت الاحتجاجات العارمة من قرى مثلث يوم الأرض إلى مختلف القرى والبلدات العربية، وأسفر قمعها عن استشهاد 6 أشخاص.
موقع "عرب 48" قام بزيارة عائلة الشهيد طه، والتقى شقيقيه حسني وأمين طه اللذين استحضرا إلى الذاكرة تلك الأحداث واستعادا تفاصيلها وكأنها حدثت بالأمس.
وروى حسني طه أنه "حين أعلنت لجنة الدفاع عن الأراضي يوم 30 آذار/ مارس، إضرابا عاما. يومها عقد اجتماع للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في مدينة شفاعمرو، وكنا نحن مجموعة من النشطاء في حركة ‘أبناء البلد‘ بمشاركة جماهير غفيرة ننتظر ما سيتمخض عنه الاجتماع. وكانت هذه الجماهير قد احتشدت في محيط ساحة البلدية لممارسة الضغط على المجتمعين لإعلان الإضراب الشامل احتجاجا على أكبر عملية نهب للأراضي ومصادرة مساحات هائلة في منطقة سخنين وفي جبل سيخ الملاصق لقرية كفركنا والذي يقام عليه اليوم أكبر تجمع سكاني في بلدة ‘نوف هجليل‘ ويسمى بـ‘هار يونا‘".
وأضاف طه أنه "في حينه، سجّل موقف مشرف للراحل توفيق زياد الذي كان أكثر الرؤساء حماسا لإعلان الإضراب وكان يصرخ بأعلى صوته الشعب يريد الإضراب، وقد فُرض الإضراب على أعضاء اللجنة بضغط من الجماهير وبهيبة أبو الأمين (زياد) رغم محاولات مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية (في حينه، يتسحاق رابين) للشؤون العربية، شموئيل طوليدانو، تعطيل الإضراب من خلال اجتماع عقد في عين ماهل لاحقا، لكن الجماهير واصلت ضغطها على القيادة لإعلان الإضراب".
وقال طه إنه "في ليلة 30 آذار/ مارس 1976 بلغت حالة التوتر ذروتها وبدأت الاحتكاكات مع الشرطة والجيش في عرابة أولا ثم تحوّلت إلى معارك، وكانت تردنا الأخبار تباعا من هناك وأدركنا أننا أمام حدث جلل، ثم جاءت الأنباء التي تفيد بسقوط الشهيد خير ياسين وهو أول شهداء يوم الأرض في المعركة التي استمرت حتى ساعات متأخرة من الليل".
وروى طه أنه "في اليوم التالي استيقظت كفركنا على حالة من الهدوء لم تعرفها البلدة من قبل، حيث لوحظ التزام غير معهود بالإضراب وكأنه بداية لوعي سياسي جديد يترسخ في أذهان الناس، وكان نجاح الإضراب يثلج الصدر. وعند ساعات الظهر وتحت حرارة شمس آذار بدأت الناس تخرج من بيوتها وتجمع الشبان في مجموعات وأخذت كل مجموعة زاوية أو ساحة بينما كانت سيارة الجيش تمر رائحة وغادية على الشارع أمام مجموعات الشبان، وسط توتر شديد".
"إلى أن مرت مركبة تنقل جرحى من دير حنا إلى مستشفى الناصرة، وعندها اشتعلت الأجواء التي كانت مشحونة وبدأ الشبان يرشقون سيارات الشرطة والجيش بالحجارة الأمر الذي استدعى تعزيز القوات بعناصر من حرس الحدود، وبدأت المعارك على الشارع الرئيسي فاستدعيت مجنزرات الجيش ودخلت القرية بينما كان الكبار يحاولون إعادة الشباب الغاضب إلى البيوت واحتواء الموقف، وقد بدت القوات التي استدعيت وكأنها تحتل القرية وسط وابل من الرصاص الذي أطلق باتجاه المدرسة الثانوية وأصيب منه الشاب صالح مريد برصاصة اخترقت ذراعه وكادت تستقر في صدره لولا أنه تحرك بسرعة"، قال طه.
وعن لحظات استشهاد شقيقه محسن، قال حسني طه (أبو نضال): "كانت معركة كر وفر، هم يهاجموننا بالسلاح ونحن نرشقهم بالحجارة، إلى أن وصلنا إلى ساحة المسجد، هناك شاهدنا عملية إنزال لقوات تابعة لوحدات المظلات من الطائرات إلى كروم اللوز حيث يقع مسجد عمر بن الخطاب اليوم، وقد حاصرونا من الجهتين وأطبقوا علينا. وكان محسن شابا جريئا ومقداما لا يهاب أي شيء، وكان يحمل بيده حجرين ألقى أحدهما باتجاه قوة الجيش وهمّ بإلقاء الحجر الثاني إلا أن رصاصة استقرت في جبينه وسقط على وجهه".
وهنا تدخل الشقيق الأكبر لمحسن وحسني، أمين طه، وقال: "في تلك الأثناء سمعت عناصر الجيش يقولون لقد مات الشاب هيا بنا... وفروا هاربين من المكان. أما أنا فاقتربت منه وكان الدم يتدفق من مقدمة رأسه فخلعت سترتي وضمدت بها رأسه وطلبت من سائق سيارة كانت تمر في المكان أن ينقلنا إلى مستشفى العائلة المقدسة في الناصرة، ومنه إلى العفولة ثم إلى ‘رمبام‘ في حيفا، وكان بحالة ميؤوس منها وهناك فارق الحياة".
هذا عن الجانب الميداني، أما عن الجانب السياسي، فيقول حسني طه إن "يوم الأرض شكّل مرحلة سياسية مهمة في نضال الشعب الفلسطيني داخل مناطق الـ48، وكسر حاجز الخوف وزاد من وعي الجماهير ومن تطور العمل الوطني وأصبح هنالك ما يعرف بالمد الوطني فقد شكل يوم الأرض نقطة فارقة بين ما قبله وما بعده، وزال الخوف من الآلة العسكرية والشرطة الإسرائيلية، وقد استمرت هذه المرحلة حتى توقيع اتفاقية ‘أوسلو‘ عام 1993 التي أجهضت كل مظاهر العمل الوطني".
وعبر طه عن عدم رضاه عن إحياء ذكرى يوم الأرض في السنوات الأخيرة التي أصبحت تقليدا أو طقسا عابرا فقد جوهره؛ وقال: "على الرغم من أننا نعيش اليوم ظروفا أسوأ من تلك الحقبة التي سبقت يوم الأرض لكنني لا أرى أن مثل هذا اليوم قد يتكرر لقلة الوعي السياسي لدى الشباب، معظمهم لا يعرفون شيئا عن يوم الأرض"، وأضاف: "هذه المحطات النضالية في تاريخ شعبنا يجب أن تُستثمر بشكل أفضل لزيادة الوعي الجماهيري... والمسؤولية بالتالي تقع على القيادة العربية".
وعن الشهيد محسن طه وما علق في ذاكرته عنه، قال شقيقه حسني: "حين استشهد محسن كان عمره 15 عاما، ولو منحه الله عمرا لكان اليوم في الستين من عمره وهو يصغرني بأربع سنوات، وهو السادس في التسلسل بين ثمانية أخوة. كان شابا شجاعا مقداما لا يهاب الموت وتجده دائما في الخطوط الأمامية، وقد سار في جنازته أكثر من عدد سكان قرية كفركنا في حينه، وقد طاف جثمانه شوارع البلدة قبل أن يحمل إلى المقبرة".