تعد قرى شمالي غربي القدس تاريخياً الامتداد الجغرافي وسلة الغذاء الرئيسية لمدينة القدس المحتلة، بحكم موقعها وإنتاجها الزراعي، ولا سيما أنها تشتهر بزيتونها الرومي وعنبها وخوخها وخضرواتها، وتبلغ مساحتها الكلية 76.234 دونماً بحسب الإحصاءات الرسمية، إلا إن نكبة 1948، وما جرى عقب حرب حزيران / يونيو 1967، أفقدا المنطقة جزءاً من مساحتها، إذ يشير بعض المصادر إلى أن نحو 2600 دونم من أراضي المنطقة تسربت إلى اليهود.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن عدد سكان تلك القرى، بموجب التعداد الذي أجري في سنة 2007، بلغ 39.258 شخصاً، وهو رقم تغير بالتأكيد صعوداً أو هبوطاً، تبعاً للمناطق المتعددة ومدى قربها من جدار الفصل العنصري، إذ أدى بناء الجدار إلى هجرة في صفوف السكان، لكن لا توجد أرقام دقيقة بشأن ذلك، ولا سيما أنها تركزت في أوساط حملة الهوية المقدسية الزرقاء. وفضلاً عن الجدار، فإن رفض منح السكان تراخيص للبناء كما هي الحال على سبيل المثال، في قرية النبي صموئيل التي لا يتجاوز عدد سكانها 280 نسمة، يفرض على الشباب الرحيل عندما يتزوجون، كما يؤكد المحامي محمد بركات من القرية.
عندما نتحدث عن قرى شمالي غربي القدس فإننا نقصد بذلك القرى التالية: قطنة؛ القبيبة؛ خربة أم اللحم؛ بيت عنان؛ بدو؛ بيت سوريك؛ بيت إكسا؛ النبي صموئيل؛ بيت إجزا؛ بيت دقو؛ الجيب؛ ويضاف إليها بير نبالا وبيت حنينا التحتا. وكانت هذه القرى تتبع مدينة القدس إدارياً وتنظيمياً خلال الحكم الأردني.
بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967 سارع الاحتلال إلى تغيير الواقع الإداري والتنظيمي للمنطقة التي تعرضت قبل ذلك لاعتداءات متكررة من طرف العصابات الصهيونية التي أنشأت مستعمرة زراعية على قمة أحد الجبال جنوبي قرية قطنة سمتها معاليه هاحميشاه، وعقب سنة 1967 عمل الحكم العسكري الإسرائيلي على سلخ المنطقة عن مدينة القدس، وباتت معاملات المواطنين ورخص البناء والتنظيم تنجز في مقر الحاكم العسكري والإدارة المدنية في مدينة رام الله. بقي الحال على هذا الوضع حتى اندلاع الانتفاضة الكبرى في سنة 1987، فأنشأ الاحتلال مقراً عسكرياً لإنجاز تلك المعاملات في بلدة الرام لتخفيف الضغط عن رام الله مع استثناء معاملات البناء والتراخيص التي بقيت تخضع لبيت إيل. وعندما قامت السلطة الفلسطينية أنشأت مديريات لوزاراتها المتعددة في الرام مثل مديرية وزارة الداخلية والأحوال المدنية، ومديرية تربية وتعليم ضواحي القدس، ومقار لكل من محافظة القدس ونواب المجلس التشريعي عن دائرة القدس وبعض المديريات الأخرى كالزراعة والتموين، بينما جعلت من بلدة العيزرية مقراً لمديرية وزارة الصحة.
واقع أمني معقد:
بموجب الاتفاقات الموقعة بين السلطة وإسرائيل منح الجانب الفلسطيني الإذن بمزاولة أعماله في قرى شمالي غربي القدس التي بقيت تخضع لتصنيفات مناطق "ب" و "ج"، وسمح له بإقامة مخفر للشرطة بعدد أفراد محدود وبلا أسلحة نارية، الأمر الذي يعوق عمل الجهاز الشرطي في المنطقة كما قال أحد أفرادها الذي فضل عدم الكشف عن اسمه.
ويقول هذا المجند في الشرطة الفلسطينية إن المنطقة بحاجة إلى عدد أكبر من أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية المجهزين بالعتاد والمركبات، وخصوصاً أنها باتت ملاذاً للخارجين عن القانون وتجار المخدرات الذين يتزودون بها من المستعمرات المحاذية، عدا وجود المئات من المركبات غير القانونية التي تحتاج إلى عمل دؤوب للتخلص منها. ويضيف: أحيانا تحدث إشكالات بين المواطنين والعائلات تصل إلى درجة القتل وحرق المنازل، وهذا يحتاج إلى استدعاء تعزيزات من رام الله، وهذه، بدورها، بحاجة إلى تنسيق مع الجانب الإسرائيلي الذي يتعمد الرفض أو التأخير.
وذكر هذا المجند باقتحامات الاحتلال المتكررة لهذه القرى، وقيامه بعمليات دهم وتفتيش واعتقال وتخريب المنازل.
حزام استيطاني يتوسع بلا حدود:
على صعيد المستعمرات ومصادرة الأرض فإن المنطقة محاطة بسلسلة من المستعمرات من الشمال والجنوب والشرق، بينما يمتد الخط الأخضر على حدودها الغربية. ومن هذه المستعمرات غفعات زئيف التي تعد واحدة من أكبر أربع مستعمرات في الضفة، وكذلك مستعمرة راموت اللتان بدئ العمل بهما في النصف الثاني من السبعينيات، كما بنى الاحتلال مستعمرات أخرى مثل هار شموئيل وغفعات هاحدشاه، الأمر الذي أكمل الجهتين الشرقية والشمالية للمنطقة بحزام استيطاني. أما في الجهة الجنوبية فقد بنى المحتل مستعمرة غفعات هارآدار المخصصة للعسكريين من جنود وضباط، وقد توسعت هذه المستعمرات على حساب أراضي المواطنين، لكنها تضخمت بعد سنة 2000 نتيجة تغلغل الاستيطان في المناطق التي باتت خلف الجدار العنصري. وتلخص حكاية بيت الحاج صبري غريب واقع الاستيطان وأثره المدمر في الحياة الفلسطينية، فقد صودرت أرضه في قرية بيت إجزا لمصلحة مستعمرة غفعات زئيف، ولم يبق له اليوم منها إلا مكان بيته وممر يوصله إلى العالم الخارجي من تحت الجدار، وعند سؤاله عما آلت إليه حاله قال: ماذا تتوقع عندما يكون خصمك هو القاضي؟
لقد بات آلاف أشجار الزيتون ومئات الدونمات من كروم العنب والتين في قرى بيت دقو وبيت سوريك وقطنة وخربة أم اللحم وبيت إكسا محرمة على أصحابها اليوم، ولا يمكن الوصول إليها خلف الجدار إلا بتصاريح خاصة تصدر عن الارتباط والتنسيق، وعبر بوابات خاصة تمتد على طول الجدار كما حدثنا محمود الشيخ من بدو، الذي قال إن الحصول على التصاريح ليس بالأمر السهل، وهي غالباً لا تمنح إلا لكبار السن وفي مواعيد محددة من العام، ويضيف: حتى بعد أخذ التصاريح المطلوبة علينا الانتظار ساعات إلى أن يحضر جنود ما يسمى حرس الحدود كي يفتحوا البوابات ساعات محدودة بعد تفتيش وإهانات تقشعر لها الأبدان.
رام الله بديل من القدس:
منذ انتفاضة الأقصى فقد المواطنون ارتباطهم بمدينة القدس وباتت رام الله قبلتهم الوحيدة، لكن خلال الفترة 2000 – 2006 صارت رام الله بعيدة، مع أنها لا تبعد عن أقصى قرية من قرى المنطقة إلا 17 كيلومتراً، وأصبح لزاماً على المواطنين الالتفاف عبر قرى غربي رام الله واجتياز ثلاثة حواجز عسكرية يرابط عليها جنود الاحتلال وضباط استخباراته. وعن هذا الجانب حدثنا الصحافي بلال غيث من قرية بيت إكسا قائلا: في البداية، كنا نصل إلى رام الله من الطريق الذي يمر بمستعمرة غفعات زئيف فبيتونيا بمحاذاة معتقل عوفر غربي رام الله، ولما اندلعت الانتفاضة أغلقت هذه الطريقة فصرنا نذهب إلى حاجز قلندية بعد أن نقطع الساتر الترابي في النبي صموئيل مشياً كي نستقل سيارات الأجرة مروراً ببيت حنينا عبر طريق ترابية غير مؤهلة كانت مصيدة للاعتقالات، إلى أن نصل إلى حاجز قلندية المغلق فنضطر إلى الالتفاف عبر الكسارات المحاذية، فيطاردنا الجنود بقنابل غازهم السام. وكان لزاماً على أكثر من 15.000 مواطن من موظفين وطلبة ونساء وأطفال وشيوخ قطع هذه الرحلة مرتين يومياً.
وبحسب غيث فإن هذا الواقع دفع بالعديد من الموظفين إلى الهجرة والسكن في مدينة رام الله وأطرافها. وبعد سنة 2006 فتح الاحتلال طريقاً جنوبي رام الله يوصلها ببير نبالا فالجيب فبدو عبر نفق أرضي يسير فوقه المستوطنون، وكانت هذه الطريق مزدحمة دائماً بسبب الحاجز العسكري الموجود عند مدخل قرية قلندية البلد، والذي أزيل كحاجز ثابت مؤخراً، لكنه كثيراً ما يوضع كحاجز مفاجئ يؤخر الموظفين والطلبة.
واقع المنطقة التعليمي والصحي:
يوجد في المنطقة مجموعة من المدارس تشرف عليها جهات متعددة، فالأونروا تشرف على مدارس مخصصة للإناث في كل من بدو وقطنة وبيت سوريك وبيت عنان، حيث تتلقى الفتيات التعليم حتى الصف التاسع الأساسي، ثم يكملن الصفوف الثلاث المتبقية في المدارس الحكومية أو الخاصة. وقد جاء دخول الوكالة على خط التعليم لأن سكان هذه القرى جرى التعامل معهم كلاجئين، ولا سيما أن جذورهم تعود إلى قرى مهجرة تقع في أراضي 1948، فمثلاً: سكان قطنة فقدوا أرضهم في لوبيرة، وسكان بدو احتلت أراضيهم في سلبيت، وأهالي بيت سوريك يعودون إلى قرية بيت شنا. أما الأمر الآخر الذي دفع بالأونروا إلى العمل في قرى شمالي غربي القدس فهو بسبب وقوعها على خط المواجهة.
بالإضافة إلى ذلك، تشرف وزارة التربية والتعليم على المدارس التي كانت تتبع ضابط التعليم في الإدارة المدنية التي تسلمها بدوره من الحكومة الأردنية بعد حرب حزيران / يونيو 1967.
ويوجد في المنطقة عدد من المدارس الخاصة التي تلتزم المقررات التعليمية الفلسطينية، علاوة على عدد من رياض الأطفال التي تتبع إحداها الدير الوحيد الموجود في المنطقة في قرية القبيبة، والذي يعود تاريخه إلى زمن السيد المسيح، ويعتقد أنه تناول عشاءه الأخير فيه.
ومنذ أربعة أعوام افتتحت جامعة بيت لحم كلية للتمريض تقع في الدير الموجود في القبيبة والمعروف بدير عمواس، والذي يشرف أيضاً على دار للمسنين والعجزة.
إلا إن واقع القطاع التعليمي في المنطقة بحاجة إلى كثير من الاهتمام، فمدرسة النبي صموئيل عبارة عن غرفة واحدة آيلة للسقوط ممنوع ترميمها أو توسيعها، ويعلم فيها معلم واحد يدرس في الوقت ذاته الصفوف الأربعة الأساسية. وتقول طالبة الإعلام وفاء خصاونة إن السلطة الفلسطينية حاولت توفير غرفتين متنقلتين تكون إحداهما غرفة تدريس والأخرى عيادة، لكن الاحتلال هدد بمصاردتهما. وتضيف: لقد اضطر هذا الأمر السلطة إلى تخصيص سيارة تابعة لوزارة التربية والتعليم لتأمين انتقال الطلبة بعد الصف الرابع إلى قرية بيت إكسا لحمايتهم من المستوطنين الموجودين في القرية بكثابة بعد استيلائهم على مسجدها وتحويل 80% منه إلى كنيس يهودي يحميه عشرات من جنود الاحتلال.
ويطالب سكان المنطقة بافتتاح فرع لجامعة القدس المفتوحة فيها، ولا سيما أن كثيرين من أبنائها يضطرون إلى الذهاب إلى رام الله، وخصوصاً أن هناك مساحات واسعة من أراضي المنطقة مصنفة وقفاً إسلامياً أو أراضي مشاعاً.
وعلى صعيد القطاع الصحي يعمل في منطقة شمالي غربي القدس عدد من المؤسسات الحكومية والأهلية والقطاع الخاص. إلى جانب الأونروا التي افتتحت عيادة في قرية بيت سوريك بعد بناء الجدار الفاصل تقدم فيها خدمات الرعاية الصحية الأولية ومتابعة مرضى السكري وضغط الدم ورعاية الأطفال والحوامل كبديل من الزاوية الهندية في مدينة القدس التي لم يعد أهالي المنطقة يستطيعون الوصول إليها.
وتشرف الإغاثة الطبية على عيادتين صحيتين في كل من بيت عنان وبيت دقو وبدو، بينما يقدم الهلال الأحمر الفلسطيني خدماته في قرى بدو وقطنة وبيت إكسا، وتنفيذ مؤسسة لجان العمل الصحي أيام عمل طبي مجانية بين حين وآخر في المنطقة. ويوجد في قرى شمالي غربي القدس مستوصفان وعدة عيادات تتبع القطاع الخاص وتقتصر خدماتها على العمليات الجراحية البسيطة. وفي هذا الإطار عانى المرضى والحوامل في هذه القرى جراء سياسات الإغلاق ومنع الحركة في اتجاه القدس، إذ أكد سائق الإسعاف حسن الفقيه أن الجنود كانوا على حاجز بيت إكسا يتعمدون توقيف سيارة الإسعاف فترات طويلة قبل إجبارها، بمن فيها من المرضى، على العودة، الأمر الذي أدى إلى استشهاد عدد من جرحى مواجهات الاحتجاج على مصادرة الأراضي وبناء جدار الفصل العنصري، مذكراً بأن هذه القرى قدمت ستة شهداء في هذه المواجهات.
البطالة والعمل:
منذ الانتفاضة الأخيرة، وجراء فرض سياسة التصاريح، فقد انخفض عدد العمال داخل الخط الأخضر وفي مدينة القدس، وارتفعت نسب البطالة في صفوف الطبقة العاملة، الأمر الذي أثر سلباً في حياة المواطنين الذين باتوا بلا عمل ولا أرض يعتاشون منها على الرغم من محاولات بعض مؤسسات العمل الأهلي، مثل اتحاد لجان العمل الزراعي ولجان الإغاثة الزراعية ووزارة الزراعة، تدعيم صمود المزارعين بمنحهم مساعدات لتدشين آبار لجمع المياه واستصلاح الأراضي وزراعة الأشتال والإرشاد الزراعي كما يؤكد المهند الزراعي نبراس الريماوي من اتحاد لجان العمل الزراعي.
وتعاني هذه القرى جراء نقص حاد في إمدادات المياه التي تتحكم فيها شركة مكوروت الإسرائيلية، الأمر الذي يضطر المواطنين إلى شرائها بالصهاريج وبأثمان مرتفعة. وقبل بناء الجدار كانت هذه القرى تمتاز بوجود عشرات الينابيع التي بات أكثر من ثلثيها خلف الجدار.
كما يمنع الاحتلال المجالس المحلية والبلدية من التخلص من النفايات التي تجمعها بحجة قربها من المستعمرات، الأمر الذي أدى إلى تكدسها في الشوارع والحارات، وهو ما ينذر بكارثة صحية، ولا سيما أن الاحتلال يرفض إقامة مكب مركزي للنفايات في المنطقة.
قرى شمالي غربي القدس عدا ما تشكله من خاصرة لمدينة القدس، وما تبقى لها من أراض تصلح للزراعة، مهددة اليوم بالضياع، وخصوصاً مع إعلان الاحتلال مؤخراً نيته تعديل مسار الجدار العنصري حولها لابتلاع مزيد من أراضيها، الأمر الذي أسفر عن تحويل هذا الغيتو الكبير إلى معازل أخرى، فقرية بيت إكسا اليوم ممنوع حتى على سكان المنطقة دخولها ما لم يكونوا من سكانها، وذلك بسبب الحاجز العسكري المنتصب على مدخلها من جهة قرية بدو. وتفتقر المنطقة إلى الحدائق العامة وأماكن الترفيه عن الأطفال. علاوة على ذلك، فإن مقابر المنطقة، ولا سيما القرى المحاذية للجدار كقرية قطنة، بحاجة إلى تطوير، وخصوصاً أن مساحتها صغيرة وهي غير مسورة، لكن مأساوية الموت تتجلى في قرية بيت حنينا لأن بيت حنينا الفوقا معزولة عن بيت حنينا البلد، والأولى لا يوجد فيها مقبرة، وإذا مات أحد الأشخاص فذلك يستلزم حمله عبر حاجز قلندية فرام الله في رحلة تستغرق ساعات يقطع الجثمان خلالها أكثر من 30 كيلو متراً بدلاً من نصف كيلومتر كي يوارى في الثرى.
"خالد الفقيه"