البديري، محمد أفندي: (1160-1220ه/1747-1805م)
(مؤسس عائلة البديري في القدس وفلسطين عامة. عالم أزهري، وشيخ الطريقة الخلوتية، وأحد أعلام القدس البارزين في إبان حملة نابليون. تولى التدريس والإرشاد وإحياء الأذكار في الأقصى، وفي بيته الملاصق لسور الحرم من الجهة الغربية، عند باب المجلس.)
هو محمد بدير بن سيرين، الشهير بابن حبيش الشافعي المقدسي. هاجرت عائلته من المغرب واستوطنت بيت المقدس، كما يبدو، في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ولد في حديد سنة 1160ه، وقدم والده به إلى مصر وهو ابن سبع سنين، فقرأ القرآن وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه. وأمضى في القاهرة أعواماً كثيرة يدرس في الأزهر وفي غيره من دور العلم، على مشايخه مثل: الترزي والأجهوري والدمنهوري والفارسكوري، وغيرهم. واتصل بالشيخ محمود الكردي الكوراني (العراقي)، شيخ الخلوتية، فلقنه الذكر ولازمه مدة حتى ألبسه التاج، على قول الجبرتي، وجعله من حملة خلفاء الخلوتية، وأمره بالتوجه إلى بيت المقدس، فقدمإليها وسكن في الحرم. واتهمه أحد أعيان القدس بالسحر والتسبب في حرق بيته، وهدده بالقتل، فلازم داره ولم يخرج منها مدة طويلة. وتوسط أهل القدس بالصلح بينهما، وكتب محمد أفندي رسالة طويلة يدافع بها عن نفسه وينفي التهمة. وفي أثناء إقامته في القدس تولى التدريس والإرشاد في مختلف العلوم، وعقد حلقات الذكر في داره. وكان حاد الذهن وله فهم جيد في ما يدرس، فأقبل الناس عليه وصار له القبول عند الأمراء والوزراء. وقبلت شفاعته عندهم مع الإبتعاد عن قبول المناصب الرسمية، لكن أحواله المادية تحسنت بسرعة كما تثبت ذلك حجج البيع والشراء والوقفيات في سجلات المحكمة الشرعية. وحج من بيت المقدس سنة 1193ه/1779م، وأصيب في العقبة بجروح في عضده، وسُلب ما عليه، وتحمل تلك المشقات بجلد وصبر. وقد وصف تلك الحاثة بالتفصيل تلميذه حسن بن عبد اللطيف الحسيني، مفتي القدس، في تراجمه لعلماء بيت المقد، فلا حاجة إلى تكرارها في هذا المقام. ومن الحجاز «رجع المترجم لمصر واستقام مدة ورجع للقدس وأكمل الحول وأربعة أشهر إلى أن ختم الجرح والعظم لَحَم.»
واستمر محمد أفندي في مزاولة التدريس وإقامة الأذكار في الحرم القدسي وما حوره، فذاع صيته وانتشر فضله، والجميع له مذعن ومسلم بلا إنكار. وعلة قول تلميذه حسن الحسيني: «فإن رمت الحديث والتفسير فهو في ذلك المفرد التحرير وأما فقه المذاهب الأربع، ففي مسائله المشكلة رتع، وأما علم الفلك، فله قد ملك. وهو البحر في كل العلوم والمفرد في المنطوق والمفهوم.» وفي وصف تواضعه يقول تلميذه المذكور: «ليس له ادعاء بل ينسب نفسه بالتحقير ويتواضع للصغير والكبير. إن وعظ ـأحيا قلوب السامعين وألان القلوب القاسين.» ولمحمد أفندي تآليف كثيرة منظومة ومنثورة لكنها بقيت مخطوطة، ضاع بعضها وحبس البعض الآخر في الصناديق والخزائن حتى الآن. ومن نظمه قصيدة في هزيمة نابليون في عكا تتألف من 157 بيتاً من بحر البسيط مأخوذة من معاني قصيدة نظمها صاحبه السيد علي الرشيدي، المدرس في جامع الأنوار في عكا، ومطلعها:
الـلـه أكبـــر ديــن الـلـه قـــد نصـــــــرا وأشـــرق النصــر فـي الآفــــاق وانتشـــرا
وكـان هــذا بفضـــل الـلـه منتظــــرا بنصـــــر أحـمـــــد بـاشـــــا سيـــــــد الـــــوزرا
والقصيدة طويلة، كما ذكرنا، فيها ذكر لواقعة الحملة الفرنسية «وأوصاف الطايفة الخبيثة وما هي عليه ثم قدومها إلى مصر وما تم لها فيها حتى قدومها إلى هذه البلاد... ثم هربها من عكا عند يأسها من الظفر بمطلوبها.» وفي القصيدة أيضاً «البشارة بأن الله جل شأنه سيفتح مصر ويكشف عنها ما حل بها من رجس هذه الطايفة الطاغية.»
ومما يدلل على مكانته وعلو شأنه في تلك الأيام، على الرغم من عدم تسلمه المناصب الحكومية الرسمية، أن الفرمانات والأوامر أيام الحملة الفرنسية كانت توجه إلى القدس وهي تحمل اسمه مع أسماء المفتي حسن أفندي الحسيني، والشيخ محمد أبو السعود الذي مر معنا ذكره. وقد بقي محمد أفندي في القدس يدرّس ويعظ ويرشد ويقيم الأذكار حتى وافته المنية في 27 شعبان 1220ه/ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1805، فدفن في داره التي بقيت مسكناً لأفراد العائلة وزاوية للصوفية أجيالاً كثيرة.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع