طوقان، موسى بك: (توفي سنة 1823)
(متسلم لواء نابلس أكثر من عشرين عاماً في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ومن أبرز شخصيات ذلك العهد وأقواها في فلسطين كلها. جرت في أيامه صراعات دموية بشأن السلطة في جبل نابلس، وقد نجح أعداؤه آل الجرار وحلفاؤهم في قتله بالسم في تشرين الثاني (نوفمبر) 1823.)
كان خليل بك، أخو موسى بك، متسلم لواء نابلس سنة 1800، فقدم المؤن والذخيرة لجيش السلطان المتوجه إلى مصر لإخراج الفرنسيين منها، ثم طالبه الصدر الأعظم وقائد الجيش المذكور يوسف ضياء باشا بإرسال المقاتلين من جبل نابلس للمشاركة في الجهاد ضد الفرنسيين في ربيع سنة 1801، لكن أعداء آل الجرار وآل النمر وغيرهم عملوا كل ما في وسعهم لإفشال حكم آل طوقان في جبل نابلس وإحراج موقفهم أمام الدولة. وكان موسى بك خلال تلك الفترة يساعد أخاه في الحكم وفي إدارة الصراعات على منافسيهم. ثم خرج خليل بك من جبل نابلس سنة 1216ه/1801م متوجهاً إلى مصر لشرح موقفه للصدر الأعظم، فجعل أخاه موسى وكيلاً له في الحكم. ولم يرجع خليل بك إلى نابلس بعد ذلك، وعين والي الشام عبد الله باشا موسى بك رسمياً لحكم جبل نابلس، وقد مدت الدولة العثمانية آل طوقان بثلاث فرق عسكرية فبلغ عديد جيشهم نحو خمسة آلاف جندي. وقاد موسى بك هؤلاء العساكر في حرب طاحنه فقمع عصيان منافسيه وانتقم منهم، وثبت حكمه مؤقتاً بمساعدة الدولة لكنه أثار سلسلة من المعارك الدموية بين الصفين استمرت في عهده أكثر من عقدين.
وبعد وفاة الجزار سنة 1804 أُبعد موسى بك عن حكم لواء نابلس «لارتكابه الأمور المخالفة واضمحلال أحوال الرعية في مدة متسلميته»، وعين خلفاً له أحمد آغا الجرار. وكان آل طوقان قد تحالفوا مع الجزار ضد آل الجرار وآل النمر، الذين ظلوا على حلفهم وتعاونهم مع ولاة الشام من آل العظم وغيرهم. ولم تطل مدة إبعاده عن الحكم، إذ أعيد إليه في السنة التالية فتجددت الصراعات الدموية مع آل الجرار. ويقول إحسان النمر إنه في 10 ذي الحجة 1223ه/27 كانون الثاني (يناير) 1809م قُتل مصطفى، نجل موسى بك الوحيد، في إحدى تلك المعارك بين الطرفين، وكان في العاشرة من عمره فقط. فحزن عليه والده حزناً شديداً، وقرر الإنتقام من أعدائه وقهر عصيانهم بشدة
وكان موسى بك في أوائل القرن التاسع عشر من أبرز الشخصيات العربية المحلية المشاركة في إدارة البلد وحكمه. وفي سنة 1221ه/1806-1807م طلب منه سليمان باشا، حاكم عكا، أن يساهم في إخراج محمد باشا أبو المرق من يافا. وسبق أن ساهم أبو المرق هذا في طرد موسى بك من الحكم بعد موت الجزار، فحانت له الفرصة للإنتقام. وتعاون مع أبو نبوت، الذي نجح في احتلال يافا وإخراجها من أيدي أبو المرق. وتصاهر موسى بك مع أبو نبوت ومع عائلات العلماء والأعيان في القدس، مثل الحسيني والعلمي،، فقوي مركزه وعلاقاته خارج نابلس أيضاَ.
وشعر موسى بك طوقان بأن مركزه يؤهله للتسلط على إقطاعات العائلات المنافسة. فاستمر الصراع مع آل الجيوسي بشأن مشيخة ناحية بني صعب، وتدخل ولاة الشام وعكا مراراً للصلح بين المتنازعين، لكن الصراع كان يتجدد ثانية. ثم حاول آل طوقان الإستيلاء على إقطاع آل النمر في قرى جبل نابلس، فثار هؤلاء وأعلنوا العصيان. وحتى يقمع موسى بك العصيان والتمرد، جلب الجنود المغاربة والمماليك وأسكنهم حارات نابلس الشرقية، ولا سيما في قصر الأمير يوسف. وأدى ذلك إلى رحيل الكثيرين من سكان حي الحبلة الشرقية إلى القرى المجاورة، وحتى إلى جنين وعجلون ودمشق. وتحكم موسى بك في جميع أنحاء نابلس، لكن أعداءه تجمعوا في القرى وأخذوا يهاجمون جنوده. ثم اجتمع شيوخ البلد وأعيانها من الصف المنافس في جماعين في أواسط سنة 1232ه/1817م، وقرروا هدر دم البكوات من آل طوقان وإعلان العصيان العام. فلما بلغ موسى بك خبر اجتماع جماعين وما تقرر فيه، خرج هو وابن عمه أسعد لتأديب الناحية والقبض على شيوخها. وبينما كان موسى بك مشغولاً في ناحية جماعين دخل المتمردون، بزعامة آل النمر، مدينة نابلس وقتلوا عدداً كبيراً من عساكره المغاربة والمماليك والأرناؤوط. وتدخل سليمان باشا للصلح بين المتقاتلين، فتصالح آل طوقان مع الشيخ قاسم الأحمد والشيخ موسى العثمان، شيخي جماعين، ثم مع آل النمر في نابلس. وقرر موسى بك مع ذلك التخلص من منافسيه آل النمر، فنصب لهم شركاً قتل فيه ثلاثة من زعامة الأغوات. وأنجد آل الجرار حلفاءهم في نابلس، آل النمر، فتجددت المعارك بين الصفين سنة 1234ه/1818-1819م. وعزل والي الشام موسى بك طوقان عن المتسلمية وعين خلفاً له زعيم الصف المنافس، أحمد آغا اليوسف، في ربيع الثاني 1235ه/أوائل سنة 1820م. وخرج موسى بك من نابلس والتجأ إلى ناحية جماعين، فجاء مرسوم والي الشام بطرده من هناك لأنه سبب «جميع المفاسد والفتن وسفك الدماء والاعتساف الواقع في نابلس داخلاً وخارجاً.» وخرج موسى بك من جبل نابلس ونزل على الطرشان، أمراء جبل الدروز. وجمع حوله هناك جيشاً كبيراً مؤلفاً من الدروز والبدو وباقي العساكر والأنصار من حلفائه، وعاد إلى نابلس لاستعادة حكمها بالقوة. ووصل إلى نابلس على رأس عساكره، وجرت بين الطرفين معارك حامية استمرت خمسين يوماً، كما يروي إحسان النمر، وقد سميت هذه الحرب الطويلة «الكون الكبير»، بل أُطلق على كل من ولد في تلك المدة اسم الكوني، وكان ذلك سنة 1237ه/1821-1822م. ولم تتوقف المعارك بين الصفين المتحاربين، فراح ضحية ذلك الإقتتال عدد كبير من النفوس. وضعف موقف موسى بك بعد موت سليمان باشا، حاكم عكا، ورحيل صهره محمد باشا أبو نبوت، الذي كان يلتجئ إليه عند الحاجة. وعندما لم ينجح آل طوقان وآل الجرار وآل قاسم الأحمد في التخلص من موسى بك في ساحة القتال، قرروا الغدر به. وبعد أن عاد موسى بك إلى نابلس، نزل ضيفاً على عدوّه القديم الشيخ قاسم الأحمد في قرية بيت وزن، بعد أن أبدى هذا رغبته في التوسط للصلح بين الصفين. وفي يوم الثلاثاء 16 ربيع الأول 1239ه/20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1823م قُدمت له القهوة في حضرة مشايخ البلد الذين اجتمعوا للصلح. وتناول موسى بك الفنجان الأول المعد له بصفته أكبر الموجودين وأعظمهم قدراً فشربه وكان فيه سم. وفي تلك الليلة شكا مغصاً في بطنه، وتوفي. وقد اتُهمت بقتله زوجته ابنة محمد باشا أبو نبوت حاكم يافا، وطردت من الدار. ودفن موسى بك في مقبرة آل فروخ في نابلس. ولم يمنع مقتل موسى بك إتمام الصلح بين الصفين، ووقعه الطرفان في اليوم التالي لدفن موسى بك في 18 ربيع الأول 1239ه/22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1823م. وقد تأخرت حال آل طوقان بعد مقتل زعيمهم مدة، إلا إنهم استعادوا قوتهم وعين منهم مصطفى وأسعد طوقان، ولدا عم موسى بك، في أواخر العشرينات حاكمين في لواء نابلس.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع